23 ديسمبر، 2024 9:31 ص

تأملات حول هيبة المثقف وسلطة النص

تأملات حول هيبة المثقف وسلطة النص

هل ثمة ما يبيح الإطناب في الحديث عن خصائص المثقف والإسهاب في سرد مواصفاته واستعراض مناقبه وتشخيص مميزاته ، دون الإشارة إلى مصادر وعيه والتطرق إلى مراجع تفكيره ، طالما إن نشاطه المعرفي يمحضه الشرعية في أن ينتزع لنفسه حيزا”اعتباريا”يتناسب ومستوى عطاءه الثقافي وأهمية ما يسهم به وسط الرؤى التقليدية والتصورات المبتسرة للحس الادراكي العام ، ويوفر له إمكانية فرض حضوره الوجداني على خارطة الفكر وتضاريس الثقافة ، سيما وان إرهاصات الإبداع ومكابدات الخلق هي محض تجربة فردية خالصة ، تستوحي خصوصيتها من توهج الأنا الفاعلة وتستلهم تميزها من تألق الذات العارفة . والحقيقة إن الإمعان في إبراز الجوانب الوجودية والتركيز على المثابات الشخصية للمثقف ، ليس لها قيمة رمزية أو مؤشرات دلالية بحد ذاتها ، إذا ما جردت من مضامينها الاجتماعية وأقصيت عن عوالمها النفسية ، واستبعدت عن أطرها المعرفية ، وعزلت عن سياقاتها الحضارية . إذا إن المثقف هو في كل الأحوال كائن اجتماعي منغمر في عمليات إنتاج الوعي وتحصيل المعرفة ، لا في نطاق هوية الأنا المعزولة عن بيئتها والمجردة من علاقاتها ، كما قد يفهم البعض ويفسره ، وإنما على مستوى فعل الانغراس في النسيج العضوي للمجتمع ، والاندراج في مخياله والانشغال في أحواله والانهمام في آماله . وبذا يكون الشاعر والناقد الإنكليزي (اليوت) قد أصاب كبد الحقيقة حين كتب يقول (( إذا لم نجد الثقافة في أحد فروع هذا التكامل ، فعلينا أولا”أن لا نتوقع شخصا”بمفرده قد حذق فيها برمتها . ونستنتج تبعا”لذلك إن الثقافة الكاملة بالنسبة للفرد قد أضحت خرافة ، وعلينا إذن إن نبحث عن الثقافة خارج نطاق الفرد أو الجماعة التي تتكون من الأفراد ، في محيط أكثر رحابة ، لنجدها في نهاية الشوط في نموذج المجتمع بأسره )) . ولكن هل يا ترى إن المثابرة على الاندغام في ثنايا المجتمع ، والالتحام مع معطيات الواقع ، والانغماس في قضايا العصر ، قمينة لوحدها بإضفاء هالة الهيبة على شخصية المثقف وإغداق أكاليل الاعتبار على كيانه ؟ . وإذا ما تم اعتماد هذه المعايير وتنبي تلك المقاييس ، هل يجوز لنا ، تبعا”لذلك ، أن نسبغ على كل من تلبسه هاجس المشاغل الاجتماعية ، واعتراه هوس المشاكل الإنسانية صفة المثقف ، دون الأخذ بنظر الاعتبار إن هناك جوانب أخرى مهمة ينبغي مراعاتها والتأكيد على ضرورتها ، حين يتعلق الأمر بإجراء مثل هذا التوصيف واختيار مثل تلك المفاضلة ؟ . ولما كان المثقف بالعموم هو من يعنيه أمر التعاطي مع منتجات الفكر وبضاعة المعرفة أو (الرأسمال الرمزي) بحسب الفيلسوف والعالم الاجتماعي (بيير بورديو) ، فان مصادر هيبته ومعين اعتباره تتأتى من خلال الدور الذي يضطلع به والوظيفة التي ينتدب لها ، في إطار بنية الوعي الاجتماعي ، وضمن حقبة تاريخية محددة ومقطع حضاري معين . غير إن ذلك الدور وتلك الوظيفة لا تعطي ثمارها ولا تأتي أوكلها إلاّ عبر خطاب / نص عقلاني نقدي يمارس سلطته المعرفية ويطرح فضائله التنويرية ، مستهدفا”بذلك محاكمة الواقع ومساءلة عناصره واستنطاق رموزه ، لا بالتعويل على كشف أسسه الثابتة وتعرية معتقداته المطلقة ، وفضح أحكامه النهائية فحسب ، وإنما على أساس دعوته المستمرة وتأكيده المتواصل على أهمية تأويل المعاني الراكدة ، وزحزحة المفاهيم المستقرة ، وتفكيك الدلالات الملغزة ، بحيث يتحول الواقع السائد من ركام مبعثر لأشباه الحقائق وبدائل متناثرة لضلال المعطيات ، حيث تختنق الأسئلة وتتعطل الإجابات ، إلى حقل امكان فسيح وفضاء تواصلي واسع . وهكذا ((فالنص– كما يؤكد المفكر علي حرب- بات يشكل منطقة من مناطق عمل الفكر وهذا ما يجعل منه حقلا”يتكشف فحصه والاشتغال فيه عن امكان للوجود والفكر معا”. ومعنى الامكان هنا إن استكشاف النص يؤول إلى إعادة ترتيب علاقاتنا بوجودنا ومقولاتنا ، وبالحقيقة والذات والعمل والمعنى والمؤلف والقارئ)) . ولعل هناك من يشهر سلاح النقد ويقيم حدود الاعتراض ، ضد المساعي الرامية إلى موضعة النص في علاقته بالمثقف الذي ينتجه ، على نحو يجعله أشبه ما يكون بتعويذة الساحر التي ما أن يطلقها من عقالها حتى يفقد السيطرة عليها ، لتمارس ، من ثم ، نفوذ سلطتها وتفرض قيود عبوديتها ، رغما”عن إرادته وخارج نطاق رقابته . وهو الأمر الذي يؤول إلى الاعتقاد بأنه (أي النص) أمسى طليق العنان حرّ التصرف في تعتيم المقاصد ومخاتلة المعاني ، وبات يستمد مقومات كينونته من ذاته ، لا بل أصبح يحجب ما ينبغي قوله ويتستر على ما يفترض كشف النقاب عنه ، بحيث تحولت علاقة المثقف بالنص الذي يبدعه إلى إشكالية عويصة طالت الأصول والفروع ، الأسباب والنتائج ، السطوح والأعماق ، المظاهر والجواهر ..الخ . إن اعتراض كهذا وارد بقدر ما هو مشروع ، لاسيما وان ثلة من الكتاب والباحثين قد خلبت ألبابهم وصادرت بصائرهم ، بعض المناهج النظرية والمدارس الفلسفية التي تمادت في غلوها إزاء فصل النصوص عن مصادر إنشائها ، وأحالت جميع العلاقات بين الأشياء والموجودات إلى مجرد رموز لغوية وإشارات دلالية ، تمارس ألعاب الغش وتتقن فن الاختفاء ، دون أن تخضع لقانون اجتماعي أو تلجأ لضرورة موضوعية . وهو ما قد يفسر على كونه دعوة للقطيعة بين المثقف وخطابه من جهة ، وبين الواقع ونصه من
جهة أخرى . والذي يقرأ مجددا”المقطع التالي للمفكر (علي حرب) ، يدرك المطلب وينال المراد ، حيث جاء في كتابه (سلطة النص) ، (( إن كينونة النص تقضي بالنظر إليه من دون إحالته لا إلى مؤلفه ولا إلى الواقع الخارجي  .. فالنص لا الواقع هو الذي يغدو المرجع ، بمعنى انه يفرض نفسه علينا ويدعونا إلى الرجوع إليه وقراءاته باستمرار )) . والجدير ذكره في هذا المقام ، هو إن السلطة التي يمارسها النص على من ينهمك بقراءة مضامينه واستجلاء مقاصده ويتصدى لاستقصاء معانيه ، وحمله ، بالتالي ، للبوح بما يضمره والبوح عما يخفيه ، لا تنبثق من افتراض جزالة ألفاظه وسبك جمله وتماسك سياقه –  بما هو خطاب فكري تحول إلى نص مكتوب – رغم إن كل تلك المواصفات هي من متطلبات أي نص مقروء ، وإنما تتشكل عناصرها (= سلطة النص) وتتبلور ملامحها على أساس إن بنية النص تكون ، في مطلق الأحوال ، حمالة أوجه وخزانة رموز وأرشيف أقنعة بامتياز . أي بمعنى أنها تحتمل القراءات المختلفة ، وتجيز الدلالات المتنوعة ، وتبيح التأويلات المتباينة ، وتقبل التفسيرات المتعددة ، بحيث يتجاوز صداها حدود المكان ويتخطى تأثيرها تخوم الزمان ، لا لكي تذر قرن الحيرة والقلق فيما هو مألوف ومعروف من التواضعات ، وتضرب أطناب الشك والمساءلة فيما فيما هو سائد وشائع من المعتقدات ، وتشيع الفوضى والاضطراب فيما هو قار ومتجانس من العلاقات فحسب ، وإنما لكي تثير الدهشة وتحفز الرغبة وتستحث الإدراك وتصدم الوعي ، لاستئناف إعادة قراءة جغرافية الواقع والمباشرة بحفر ترسبات عناصره والكشف عن طبقات مكونات ، على نحو يتيح توسيع الرؤية لحقوله وتسريع البناء في ميادينه . وهكذا تبدو لنا القضية من التداخل والتفاعل ليست من البساطة التي يمكن تصورها أو السهولة التي يصح تبنيها ، لاسيما وان ديناميات الواقع وأواليات الفكر ، تستدعي حصول التشابك بدل التفكك بين عناصرها ، وقيام الترابط بدل الانفراط بين أواصرها . إذ لا مكان لفاعل اجتماعي يستحق أن يوصف بالمثقف وينال امتياز الحضوة ويتمتع باعنبار الهيبة ، من دون مجتمع يولد من رحمه ، وينغمس في همومه ، ويتطلع إلى آفاقه ، ليلقمه أبجديات الوعي الاجتماعي ويمنحه أوليات المعرفة العقلانية ، حيث تتاح له القدرة على نقده ومحاورته ، ليس فقط لأجل تحليل أنماطه وتأويل خرافاته وتحريك أطره وتفكيك أنساقه فحسب ، وإنما لكي يصار – وهذا هو المهم باعتقادنا المتواضع – كشف علله وتشخيص عيوبه وتعرية مثالبه وإدانة تصوراته . هذا بالإضافة إلى ترميم معتقداته عن نفسه وتقويم تصوراته عن الآخر ، بحيث يسهم باجتثاث زؤان قيمه ويقتلع شوائب عاداته من جهة ، واستنهاض قدراته واستنفار طاقاته من جهة أخرى ، ليصبح بالتالي عنصر من عناصر تقدمه وتطوره ومهماز من مهاميز رقيه وانبعاثه . كذلك ليس هناك نص يكتب من غير واقع ينشأ فيه وينبثق عنه ويقتات عليه ويشتبك معه في نفس الآن ، لا من أجل تأطير سكونه وتوقير ثباته ، والسعي لإظهار تجانسه وإخفاء تناقضاته ، وإنما المغزى الأساسي والمعنى الجوهري الذي يفترض انه كامن في ثنايا أي نص حقيقي ، هو أن يكون مدعاة لحدوث صدمات فكرية وباعث لحصول هزات وجدانية تجتاح كيان القارئ ، لتقذف به في عوالم جديدة من المعاني والدلالات لم تكن تخطر له على بال ، محررة إياه من قيود الراهن والعارض والطارئ ، ليجوب الأعماق ويستطلع التخوم ويتشوف الآفاق ، باحثا”عن المستور ومنقبا”عن المستتر، الأمر الذي يجعل الفكر في وضعية من التوثب وحالة من الترقب ، تأبى مهادنة الواقع المتخلف ، وتنفر من الركون إلى المماثلة البليدة . من هنا وعلى وفق تلك الافتراضات النظرية والاشتراطات الواقعية ، تتحصل وتتأصل هيبة المثقف وتتوطن وتتشرعن سلطة النص .      

[email protected]