غالبا”ما يستحوذ على المرء هاجس أو يتملكه انطباع مفاده ؛ إن المثقف الحقيقي حالما (يدس أنفه) في أمور السياسية دون تحسب لعواقبها ، ويترك العنان لتطفله على وقائع التاريخ دون دراية بمخاطرها ، حتى يشرع بفقدان هالة البريق المعرفي التي تحيط به ، ويفرط بسلطان الاعتبار الاجتماعي الذي يمتح منه ، ليس لأن الحيادية التي يزعمها تغيب عنه في الحالة الأولى ، والموضوعية التي يدعيها تعزّ عليه في الحالة الثانية فحسب ، بل لأنه سرعان ما يتحول – بالتدريج – إلى داعية إيديولوجي في مضامير السياسة ، وملفق إخباري في ميادين التاريخ . والحقيقة إن هناك حافات فضفاضة وحدود هلامية تفصل ما بين وظيفة المثقف (كفاعل اجتماعي) يستنطق أطياف الماضي للبوح عن المستور والمخبوء والممنوع ، ويستقرأ أنماط الحاضر للكشف عن الغامض والمبهم والمشوش ، ويستطلع تخوم المستقبل للإفصاح عن المتوقع والمحتمل والممكن من جهة ، وبين وظيفة السياسي (كصائد فرص) تغويه المطامع العاجلة على المنافع الآجلة ، وتستهويه المكاسب الشخصية على المطالب الاجتماعية ، وتستدرجه الامتيازات الفئوية على الغايات الوطنية من جهة أخرى . بحيث إن لم تراعى هذه الخصوصيات وتؤخذ بالاعتبار تلك التباينات ، فان من السهولة بمكان انثلام تلك الحافات واندراس تلك الحدود ، على خلفية ضياع المعالم بين شخصية هذا الكاتب أو ذاك ، وانطماس الشواهد بين هذه الوضعية أو تلك ، وهو الأمر الذي قلما أتيح لمن آثر ولوج مفازات الثقافة واستمرأته مضارب الفكر . هنا يبرز جليا”الباحث والمفكر البلغاري الأصل والفرنسي الجنسية والأوروبي الهوى (تزفيتان تودوروف) كنموذج لامع لمثل هذه المقاربة المعرفية المركبة ، لا في إطار تخطيه مسبقات الهوية وما تنطوي عليه من نوازع التمركز والتعصب ، وأصوليات الوعي وما يشي عنها من خرافات القدامة والعراقة ، التي طالما أخفق في الإفلات من إغوائها كبار الكتّاب والمفكرين سواء من الشرق أو الغرب فحسب ، وإنما حيال الكيفية التي مارس من خلالها ضروب التعرية لمطمورات التاريخ الاستعماري ونقد سياسات القوة الغاشمة ، لا سيما وانه يعدّ من أعمدة المفكرين الذين أسهموا بتطوير النظريات الأدبية واغناء تاريخ الأفكار وإثراء حقول الثقافة واللافت إن هذا الباحث / المفكر حين عمد إلى نقد هوس القوة الذي تلبس العقل السياسي الأمريكي إزاء بلدان العالم الثالث ، عقب هجمات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر عام 2001 وما تمخض عنها من تداعيات ومعطيات لا تزال آثارها فاعلة لحد الآن ، عبر صفحات كتابه القيم (اللانظام العالمي الجديد : تأملات مواطن أوروبي) ، الذي يعد بحق وثيقة أساسية ليس فقط على صعيد إدانة الممارسات اللاانسانية التي تنتهجها الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتحقيق مآربها وتسويغ تصرفاتها تحت يافطات ؛ تشجيع الأنظمة الليبرالية ، ونشر القيم الديمقراطية ، وتوطين مبادئ حقوق الإنسان ، وبناء مؤسسات المجتمع المدني وما إلى ذلك من ادعاءات وتلفيقات فحسب ، وإنما لترفّعه عن صغائر الأمور الدعائية وإشاحته عن توافه القضايا السجالية ، بعد أن اتخذ خيار المنهجية العقلانية سبيلا”لنقد الخطابات الاستحواذية وتفكيك المنظومات الهيمنية ، للحدّ الذي تجاوز فيه السياقات التقليدية التي تكتفي بنقد المظاهر الشاخصة والتواضعات الآنية ، منتقلا” ، من ثم ، إلى محاكمة الأسس ومساءلة المرجعيات التي تتخذها تلك القوى منطلقا”لها في حملاتها الاستعمارية . وهكذا فقد كتب يقول انه في (( القرن التاسع عشر كانت القوى الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا قد انخرطت في حروب استعمارية تم تبريرها بوجوب تعميم الخير على الجميع . وهذا الخير كان المعادل لما نسميه (الحضارة) . باسم هذه (الحضارة) فرض المستعمرون سيطرتهم على البلدان الآسيوية والأفريقية . وفي ماض أبعد أيضا”، كانت جيوش نابليون بونابرت تحمل قيم الثورة الفرنسية : الحرية ، والمساواة والإخاء ، على رؤوس الحراب )) . ولأن فضائل تلك الحضارة (=الغربية) اقترنت على الدوام – من وجهة نظر العالم الغربي – بأفكار الليبرالية والديمقراطية ذات النشأة والتكوين الأوروبي ، فان (تودوروف) لم يعدم اللجوء إلى تحليل طبيعة تلك الأفكار من حيث المقصدية الإنسانية العامة التي شرعت لأجلها على مستوى التنظير من جهة ، ويسهب ، من جهة أخرى ، بإماطة اللثام من حيث المغزى الذي وظفت في سبيله على مستوى التدبير ، بعد أن تم تجريدها من حمولاتها القيمية والأخلاقية ، لتغدو – في نهاية المطاف – أداة من أدوات القهر السياسي وخدعة من خدع التضليل الإيديولوجي . ولهذا فقد (( ولدت الليبرالية السياسية ، علينا أن نتذكر ذلك ، من الحاجة الضرورية للتسامح الديني . لقد نشأت من اللحظة التي قررنا فيها ، مع اقتناعنا بان الدين الذي ننتمي إليه هو خير الأديان ، التخلي عن فرضه على الآخرين بالقوة . تنحاز الفكرة الليبرالية للاعتراف بالتنوع والتعددية وبحرية العيش والعمل . لكننا حين نذهب للآخرين في بلادهم لأسباب تتعلق بأمننا الخاص ، ونفرض عليهم نظاما”نرى انه الأمثل ، نكون قد خرجنا عن منطق الليبرالية ، لندخل منطق الامبريالية )) . ولما كانت الديمقراطية التي يروج لها
دعاة العالم الحرّ المنتشي بالردع والمهووس بالقوة حيال الآخر (( تعني إن كل شعب سيد ، وهو من يمتلك الحق في أن يحدد بنفسه ما يراه خيرا”، لا أن يفرض عليه هذا الخير من الخارج . بالنتيجة ، حين تخوض القوى الغربية حروبها الاستعمارية باسم الديمقراطية التي تعتبر نفسها تجسيدا”لها ، فأنها تتبع من الوسائل ما يبطل غايتها المنشودة . إذ كيف يمكن ( الإعلاء من شأن الكرامة الإنسانية عند الآخرين) حين لا نترك لهم حرية تقرير المصير ؟ إننا حين نفرض الحرية على الآخرين نكون قد أذلناهم ، وحين نفرض عليهم المساواة نكون قد حكمنا بأنهم أدنى منزلة )) . ومن منطلق إن النظام الديمقراطي هو الوسيلة الأكثر تعبيرا”عن إرادة الإنسان الحرة والأصدق تمثيلا”لتطلعاته المشروعة ، فان (تودوروف) ، ولكي يتجنب تهمة الانغماس بالرؤى والتصورات الطوباوية في عالم فقد براءة المثل وعفة الأخلاق ، بعد أن أدمن لغة القوة واستمرأ شهوة التسلط – كما يراه ويؤمن به دعاة الأصولية الجديدة وأسلافهم من منظري الواقعية السياسية – فانه لا يفوته التأكيد على حقيقة إن (( المثال الديمقراطي الليبرالي ، بالمقابل ، لا يقبل بالخضوع للعالم كما هو والاكتفاء بتأمله بهدوء وسلام . انه يقف ضد الطغاة هو الآخر ، ولكنه يسعى للنضال ضدهم عبر وسائل مختلفة عن تلك التي تبناها الأصوليون الجدد : بعدم الاعتراف بشرعية حكوماتهم ، بوضع بلدانهم خارج نطاق الشرعية الدولية وعبر كل أشكال المبادرات الدبلوماسية ، الاقتصادية والسياسية الأخرى )) . ومن زاوية كون صاحب التأملات (= تودوروف) خبير بشؤون اللغات وضليع بأنظمتها السيميائية ، فانه لا يكتفي بتحليل أنماط العلاقة الملتبسة بين المفاهيم المجردة والواقع المعاش ، لكي يفضح أنواع الزيف الذي تمارسه وسائل الميديا المعاصرة ، بغية تجريف الوعي وتحريف المعنى وتزييف المواقف فحسب ، بل انه يقتحم مجاهل المفاهيم ذاتها حاملا”إياها على الإفصاح عن مضامينها الابستمولوجية والكشف عن فضاءاتها الدلالية . ولهذا فان مفهوم (المحافظة) الذي غالبا”ما يرد ضمن صيغة (المحافظين الجدد) لوصف طاقم الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس بوش الابن ، لا يحمل ذات المضمون / المقصود الذي يوحي بالمسعى الرامي لصيانة الأوضاع السياسية القائمة ، والانخراط بالدفاع عن القيم السائدة والأفكار المسيطرة . ولأجل أن يزيح النقاب عن الدلالة المغايرة التي يحملها مصطلح (المحافظة) خلافا”لمعهود التواضعات المؤدلجة ، فانه لا يتردد حيال الاستشهاد بمقطع ينسبه لأحد أقطاب هذا التيار (فرانسيس فوكوياما) يشير فيه إلى أن (( المحافظون الجدد لا يريدون أبدا”الدفاع عن الوضع القائم . فالتقاليد التي تقوم على التراتبية تمثل رؤية متشائمة لطبيعة البشر)) ، مستخلصا”عبر هذا النص نتيجة مؤداها (( أنهم لا يستحقون وصفهم بالمحافظين – لا الجدد ولا القدامى – ربما كانت الكلمة الأكثر دقة لتوصيفهم هي الأصوليون الجدد : أصوليون لأنهم يستندون إلى خير مطلق يريدون فرضه على الجميع . وجدد لأن هذا الخير لا يتمثل في الله ، بل في القيم الديمقراطية الليبرالية . في الحقيقة ، إن كلا الأمرين ليس جديدا”. الجديد هو الربط بينهما . يؤمن الأصوليون بالقيم المطلقة ، ولذا يرفضون السببية السائدة والأعذار التي تختلق للالتفاف على الديمقراطية من قبل أنصار التعددية الثقافية ، كما يرفضون لغة (الصواب السياسي) المتخشبة . ولأنهم ليسوا محافظين فهم يبتغون نشر مثالهم في العالم عن طريق القوة )) . وفي معرض هجاءه (للقوة الناعمة) التي كان منظر العلاقات الدولية (جوزيف ناي الابن) قد ابتدع صياغتها ونحت مفهومها في عقد التسعينات من القرن الفائت ، فان (تودوروف) لم يجد أفضل من أستاذ الفكر الاجتماعي (ريمون آرون) من التقاط المفارقة القارة في الخطاب السياسي الأمريكي ، حين أشار إلى انه (( لا تكفي اللغة المهيبة لضمان سيادة القانون ، لكنها تضمن سيادة النفاق . من الآن فصاعدا”، يتقدم الإمبرياليون وهم يرتدون الأقنعة ، فيما يطلقون اسم الحرية على ما كان البشر يسمونه في عصور سابقة قمعا”واضطهادا”)) . ولعل هناك من يعتقد بان المشروع النقدي (لتودوروف) ، لا يخرج عن كونه ردة فعل عاطفية طارئة حيال ما خلفته القوة الأمريكية (الصلبة) ، إبان عمليات غزو العراق واحتلال إقليمه وإسقاط نظامه وتقويض دولته ، وهو الأمر الذي شاطره إياه ليس فقط شريحة واسعة من كبار المثقفين وقادة الرأي وصنّاع القرار فحسب ، بل والعديد من أمم وشعوب المعمورة أيضا”. تساوقا”مع ما أثارته الانتقادات العارمة التي وجهت ضد نزعات التفرد والغطرسة الأمريكية ، لا في مضمار الاستهانة بالشرعية والقانون الدوليين ، على خلفية تجاوز صلاحيات الأمم المتحدة ومجلس الأمن فيها فحسب ، وإنما في مضمار الإخلال بتوازن العلاقات الدولية وتعريض الأمن والسلم الناجم عنهما للخطر . بيد إن الخلوص إلى هذا الاستنتاج المبتسر ينطوي على نظرة ضيقة وأفق محدود ، علاوة على كونه يشي بالجهل والإجحاف بحق هذا الباحث الموضوعي ، الذي حالما نطّلع على غنى المواضيع وكثافة الحقول التي جاسها خلال مؤلفه السابق (فتح أمريكا : مسألة الآخر) ، حتى ندرك إن أحكامه السياسية الصائبة واستبصاراته التأويلية السديدة ، لم يكن لها أن تأتي من العدم أو تنبثق من الفراغ ، بقدر ما كانت حصيلة إطلاع واسع واستقراء عميق ليس فقط لتواريخ الإمبراطوريات الاستعمارية التي لم تألوا جهدا”في التعتيم على مسلسل الجرائم الانسانية التي ارتكبتها بزعم نشر التمدن وتعميم التحديث ، وهو الأمر الذي لخصه الباحث (فالتر بنيامين) بصيغة هجائية عميقة الدلالة حين أشار إلى (( إن كل وثيقة من وثائق الحضارة ، هي في الوقت نفسه وثيقة من وثائق البربرية )) فحسب ، بل وكذلك لتواريخ
الشعوب الأصلية التي خضعت لعمليات الاستئصال والابادة ، منذ حملات التطهير الأسباني وحتى طقوس المذابح الأمريكية . بمعنى إن تواريخ هذه وتلك كانت حاضرة في وعيه وشاخصة في ذاكرته ، بحيث قيض لمنهجه النقدي أن يأخذ هذا المنحى العقلاني الصارم ويتميز بذاك الدفق الإنساني المتأجج ، ومستخلصا”في الوقت ذاته نتيجة مفادها : (( إن مجمل تاريخ اكتشاف أمريكا ، أول أحداث الفتح ، يتميز بهذا الالتباس : إن الآخرية البشرية تكتشف وترفض في آن واحد )) ، وهو ما دأبت على انتهاجه ومواصلة العمل بمقتضاه سياسة القوة الأمريكية عبر مسارها التاريخي الحافل بردع المختلف وقمع المغاير ، تطبيقا”لشعار ؛ من ليس معنا فهو ضدنا .
[email protected]