ظَلَّ العراق كجغرافيا وتاريخ، مَسرَحاً نشِطاً لصراعاتٍ حضاريّةٍ وفكريّةٍ وعقائديّةٍ واقتصاديّةٍ وسياسيّة. وبَقَتْ السِّياسَة هي الأداة التي تُدير تلك الصّراعات، بناءً على المُتبنّيات الفكريّة التي تحركها. ولعَلّ التّاريخ في العصّر الإسلامي، سَجّلَ فصولاً دامية مِنْ تلك الصّراعات، التي بدأت بعد انتهاء فترة الخلافة الراشدة. حينما خطبَ مُعاويَة بن أبي سُفيان قائلاً: (أمّا بعد فاني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم، ولا مسّرة بولايتي، ولكن جالدتكم بسيفي هذا مجالدة، ولقد رَضِيت لكم نفسي، على عمل ابن أبي قحافة وأردتُها على عمل عمر، فنَفَرَتْ من ذلك نِفاراً شديداً)(اصول المعارضة السياسية في الاسلام/عبود العسكري/ ص 60).
حينها تحوّلت مقاليدُ أمور المسلمين، بيدِ طُلّاب السُلطة. وحتّى تكون هذه السلطة شرعيّة بأيديهم، لابدّ لهم مِنْ توظيف أشخاص، يقومون بمهمّة تمثيل الدّين. يقول علي عبد الرزاق في كتابه/ الاسلام وأصول الحكم/ص4-5: (إنّ الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى، وقوتُه من قوتِه، ذلك رأي تجد روحه سارية، بيّن عامّة العلماء وعامّة المسلمين أيضاً…. وأنّ أبا جعفر المنصور، زعم أنّه إنّما هو سلطان الله في أرضه. وكذلك شاع هذا الرأي وتحدث به العلماء، والشعراء منذ القرون الأولى. فتراهم يذهبون دائماً إلى أنّ الله جلّ شأنه، هو الذي يختار الخليفة ويسوق له الخلافة).
فأصبحتْ استراتيجيّةُ شراءَ الذِمَم، جزءاً مِنْ سياسَة السّلطان. فانظمّ رجل الدّين (الخادم للسُلطان)، إلى طاقم موظفي البلاط السُلطاني. وأُطلِقَ على هذا المنصِب الحكوميّ، إسماءٌ مثل:(شيخ الإسلام، مفتي الاسلام، قاضي القضاة …الخ). في حين أبى ذلك، مَنْ عَصِمَ نفسهُ مِنْ فتنة السُلطان الجائر. قال عمر بن العاص إلى عبد الله بن عمر: (هلّ لك أنْ تُبايع لمن كاد الناس أنْ يُجمعوا عليّه، ويكتبُ لكَ مِنَ الأرضين ومِنَ الأموالِ، ما لا تحتاج أنّت ولا ولدك إلى ما بعده؟. فقال(ابن عمر): أُفٍ لك، أخرُج مِنْ عندي ثمّ لا تدخل عليّ. ويّحك إنّ ديني ليسَ بدينارِكُم ولا بدِرهَمِكُم، وإنّي أرجو أنْ أخرج مِنَ الدّنيا ويديّ بيضاء)(اصول المعارضة السياسية في الاسلام/عبود العسكري ص/ 119).
ومرّت قرون طويلة من عُمْرِ المسلمين، وهذا المنطق يسود نظريّة حُكم الخلافة الأمويّة والعبّاسيّة والعُثمانيّة، وسلطات أخرى على شاكلتها. وكان آخر هذه الأنظمة الجائرة في العراق، النظام الصدّامي المقبور، الذي استطاع بسُلطة المال والقوّة، أنْ يُنتجَ كماً هائلاً من الخُطباء، الذين يُسبّحونَ بحمدهِ، آناءَ الليلِ وأطرافَ النّهار. حتى أنَّ خُطبَ صلوات الجُمَع، كانت مادّتها الخطابيّة، تَصدُر بصورة مركزيّة من وازارةِ الأوقافِ والشؤون الدّينيّة. والعراقيّون يتذكّرون فترة الحملة الإيمانية، التي بها تشرف الدكتور عبد الحميد العبيدي(على حدّ قوله)، بالإشراف على مشروعِ كتابة القرآن الكريم، وكان مدادُ الكتابةِ ليسَ حبراً وإنّما (دَمُ صَدّام).
يَذكر الأستاذ طه جابر العلواني، في مقاله (المرجعية في العالم السني بين الأزمة والحل/ موقع المركز العالمي للوسطية) مايلي:
(…. من هنا ارتبط العَالـِم السني بالدولة والحكومة، وصار واحدًا من موظفيها كبر أو صغر، يعتمد عليها في كسب قوته وقوت عياله، في حين ارتبط العالـِم الشيعي بسواد الناس!. والشيعي – بحكم (ثقافة المعارضة)- يعد إمامَهُ المرجع في كل شيء، وحين يُطلب منه في إطار الدّولة شيءٌ، لا بدّ أنْ يقترن بموافقة الإمام أو فتواه أو رضاه، وإلا فليس من حقه أن يفعل ذلك. أما السُني – وقد رأى أن مرجعية العالِـم نفسه هي الدّولة متمثلةً في الحاكم سلطانًا أو خليفةً أو أميرًا أو ملكًا أو إمامًا- قد اعتبر الدّولة هي مرجعيته. وشاع في الوسط السني في ظروف تاريخية سابقة أن: “الحاكم أبٌ”، وربما أطلق عليه بعضٌ “رب” بمعنى مُرَب، وصار خطباء الجمعة حين يدعون يُطلقون ألقابًا ليست من الشريعة من قريب أو بعيد؛ مثل (ظل الله في الأرض) أو (خاقان الثقلين) أو ما أشبه ذلك من ألقاب لم يؤخذ رأي الشرع فيها ولا دليل يُعضدها.)
إنّ فلسَفةَ النّظام الدّيمقراطيّ في العراق، بمفَاهيمِه وقيَمِه وآلياتِه، ومَنهَجِ تفكيره، في السّياسة والإقتصاد والإجتماع وبناءِ الإنسان، وغيّرها من أنشطة الحياة، تختلف جملةً وتفصيلاً عمّا كانت عليّه في النّظام البّائد. ونظراً لمعايشتي لواقع المجتمع العراقي سابقاً ولاحقاً، فإنّي أجدُ ضَرورةً مُلحّةً، لانبثاقِ مرجعيّة دينيّة سُنِّيَة، أُسوةً بالمرجعيّة الدّينيّة الشِيعيّة للأسباب التالية:
1. لابُدّ مِنْ وجود كيان مرجعيّ للطّائفة السُنِّيَة الكريمة، يكونُ لها ثقلها ودورها في قيادة أتباع مذهب أهل السُنّة. وتوجيههم الوجهة الصّحيحة، في الأزمات والظروف الطّارئة. إسوة بالدّور الذي تضّطلع به، مرجعيّة اخوانهم الشيّعة.
2. يُمكنُ توّحيد مواقف الطّائفتين الشقيقتيّن السُنِّيَة والشِيعيّة، جرّاء المواقف المُوَحَدَة بيّن المرجعيّتيّن السُنِّيَة والشيعيّة. خصوصاً أنّ الإطار العامّ للنظام الدّيمقراطي في العراق، لَمْ يكتمل كما ينبغي. وربّما هناك الكثير مِنَ التّحديات غيّر المعروفة، التي قد تُواجِه المجتمع العراقي مستقبلاً، الأمّر الذي يجعل هذا المَطلب مَطلباً مُلِحّاً.
3. بوجود المرجعيّة السُنِّيَة، سيتمّ ترجمة المواقف المختلفة، بصورة صحيحة وواضحة، ووضعها في نصابها الصحيح، الذي يَصُبُ في صالح العراق والعراقييّن والاسلام والمسلمين.
4. ستكونُ المرجعيّةُ السُنِّيَة، الجّهةَ العلميّة الرصيّنة، التي ستَصبَحُ مُخوّلةً حصراً بالافتاء. كما أنّها ستكون الجهة الوحيدة، التي تَمنحُ الدّرجات العلميّة والتّكاليف الشرعيّة، لطلبة العلّم من الطّائفة السُنِّيَة. للحدّ مِنَ الظّاهرةِ الشّائعةِ الآن في العراق، وهي كثرة الألقاب التي يُطلِقُها البَعضّ، من رجال الدّين السُنّة على أنفسهم كـ(مفتي ديار كذا، رئيس تجمع علماء كذا…، أمين هيئة الافتاء الكذائيّة، أمين عام جماعة علماء كذا… وهلمّ جراً).
5. سيكونُ للمرجعيّة السُنِّيَة تأثيرٌ كبيرٌ، في تحصين أبناء الطّائفة السُنِّيَة العزيزة، مِنَ الانجرارِ وراءِ المُخطّطات المشبوهة، التي يقودُها تنظيمُ القاعدة، والتّيارات التّكفيريّة، للوقيعة بيّن العراقيين أبناء الدّين الواحد والوطن الواحد، ودفعهم نحوَ الحرب الطّائفيّة، التي ذاق مرارتَها الشّعبُ العراقي، بكلّ مكوّناته.
6. إنّ الدّرس المُستَنبَطْ مِنْ تظاهراتِ، محافظاتِ الأنبار وصلاح الدّين والموصل، والتي دخلت شهرها الثالث. يُبيّن بوضوح أنّ جماهير تلك التظاهرات، التي نادَت بتحقيقِ مطالبَ مشروعةٍ. تلكأت بتحقيقها الحكومات المحليّة والحكومة المركزيّة، والمنظومتيّن التّشريعيّة والقضائيّة للدّولة. لكنْ استطاعت جهات إرهابيّة، مِنْ تنظيم القاعدة وحلفائه، مِن حَرْفِ هَدفِ المتظاهرين، وتوجيههم باتّجاه الحرب الطائفيّة. الأمر الذي يجعل من الوجود المرجعيّ السُنّي، أمراً في غاية الأهميّة، لدفع المفاسِد عن مكونات الأمّة كلّها.
7. لقدّ تبيّن مِن خلال الأحداث آنفة الذّكر، أنّ ديوان الوقّف السُنّي، لَمْ يَكُنْ له أيُّ دورٍ، في الحدّ مِنْ تصعيد الموقف الطّائفي، الذي يكاد أنْ يصلَ إلى الهاوية، جرّاء التّصعيد الذي قامَ بهِ، بعضُ الخُطبَاءِ المرتبطين بالمشروع الطّائفي المشبوه. كما أثبتت الأحداث، بأنّ ديوان الوقّف السُنّي، لا يُمكِنُ اعتباره البديل عَن المرجعيّة السُنِّيَة، لأنّ دَورَهُ محدّد بشؤونٍ إداريّة وماليّة. في حينِ سيَكونُ للمرجعيّةِ الدّينيّةِ السُنِّيَة، دورٌ مرجعيّ في الشُؤونِ العقائديّةِ والفقهيّةِ والفكريّة والثقافيّة. وهذا الدّورُ سيُسهم في إثراء الأنشِطة العلميّة والفكريّة والثقافيّة لعموم المسلمين.
8. إنّ السّاحةَ ليسَتْ خاليةً، مِنْ عُلَماءٍ أجلاءٍ مِنَ الطّائفةِ السُنِّيَة الكريمةِ، الذين لهُم سُمعتهم الاجتماعيّة الرفيعة، ومنزلتهم العلميّة التي لا يُشَقُ لها غبار، مثل العلَاّمَة الدّكتور الشيّخ عبد الملك السَعدي، والعَلاّمَة الدّكتور الشيّخ أحمد الكُبيّسي، وهذه الشخصيّات يمكن أنْ تكونَ، حجرُ الزاويةِ لتأسيس مرجعيّة رصينة، لأبناءِ الطّائفةِ السُنِّيَة العزيزةِ.
إنّ فراغَ السّاحة مِنَ الوجود المرجعيّ السُنِّيّ، أتاحَ فرصةً كبيرةً لدُعاةِ الطّائفيّة، مِنْ اعتلاءِ المنابرِ وتوجيهِ الخِطاباتِ الطّائفيّة. وأكثر مِنْ هذا ظهور قيادات مِن تنظيم القاعدة، مطلوبَة للقضاء العراقي، تردد اهازيجها من على منصّات الخِطابة، كما فعلَ الإرهابي (شاكر وهيب) في22/2/2013 جمعة (العراق أو المالكي) حيث كان يهتف هزَجاً: (ونحن تنظيم اسمنه القاعدة …. نقطع الراس ونجيب الحدودِ). وإزاء هذه المواقف، يجبُ أنْ يكونَ للقانون كلمته، وللدّولةِ مسوؤليتها، في الحفاظ على لُحمة العراق وسلامة شعبه، من كيّد هؤلاء الموتورين.
[email protected]