18 ديسمبر، 2024 9:52 م

تأسيس قاعدة البحث في العقائد 2/7

تأسيس قاعدة البحث في العقائد 2/7

2) هل نحن – إذا كنا واقعيين – عقليون أم تجريبيون؟
التجريبيون هم الذين لا يرون مصدرا للمعرفة الإنسانية إلا التجربة empery، أي ما يُدرَك بالحواس، أما العقليون، فهم في الوقت الذي لا ينكرون فيه التجربة كمصدر للمعرفة، بل يعتبرونها مصدرا معرفيا مهما، بل أحد أهم المصدرين الأساسيين، لاسيما في ميادين علوم الطبيعة، كما في ميادين أخرى، إلا أنهم يؤمنون بمصدر آخر أساسي للمعرفة، ألا هو العقل، في الوقت الذي ينكر فيه التجريبيون العقل (العقليات) كمصدر للمعرفة، كما مر. وكما مر ذكره، فإن العقل هنا ليس بمعنى ملكة الإدراك النسبية، بل القوانين العقلية، أو ما يسمى بالعقليات (الرياضيات، المنطق، الفلسفة).

ويرى العقليون إن إثبات التجريبيين لصدق مقولة حصر مصادر المعرفة بالتجربة، يكاد يكون مستحيلا، لأن التجريبيين إنما يناقضون أنفسهم، إذا أرادو أن يثبتوا التجريبية بالدليل العقلي. لأنهم إذا أقروا بالدليل العقلي، فيجب عليهم الالتزام بالعقلية كمنهج للاستدلال، فيكونون عندها عقليين، ولم يعودوا محض تجريبيين، وهنا لا بد لهم من التخلي عن القول بالتجريبية، أي حصر مصادر المعرفة بالتجربة. أما إذا أنكروا المنهج العقلي، فلا يجوز لهم استخدامه في إثبات التجريبية، لأنهم إنما يستخدمون الدليل العقلي في إثبات عدم صلاحية الدليل العقلي، أي يستخدمون الطريقة العقلية في نفي العقلية، ويستحيل للشيء أن يصلح دليلا لإثبات عدمه، لأن هذا هو التناقض الممتنع عقلا. وأما إذا ما استخدموا الدليل التجريبي، لإثبات التجريبية، فهذا يسمى بالدور، أي إثبات الشيء بنفسه، والدور محال منطقيا كما هو معروف. ونقول إنهم يقعون في مغبة الدور المحال منطقيا، لأنهم يستخدمون الدليل التجريبي في إثبات صلاحية الدليل التجريبي. فكما نرى لا يصح إثبات الشيء بنفسه، ما زال بعد محتاجا إلى دليل من خارجه، كما لا يصح إثبات عدم الشيء بنفسه، لأنه إما أن يكون باطلا، فلا يصح استخدامه في الاستدلال، وإما يكون ثابتا عند من يدعي بطلانه، وهذا هو التناقض من جديد، وهو يشبه ما يقع فيه الوحيويون أو النقليون من الدينيين، عندما يريدون إثبات صدق الوحي بالوحي، أو بما يعتبرونه هم وحيا.

وعند مراجعتي لهذا النص في 24/10/2011، أي بعد سنوات من كتابته، ومن أجل أن ألتزم بالموضوعية، وجدتني أناقض نفسي هنا، لأنه يمكن بنفس المنهج نفي العقل كمصدر للمعرفة، لكوننا نثبت صدق تلك المقولة بالدليل العقلي، وهنا يجري أيضا إثبات الشيء بنفسه. وهنا أقف لحد هذه اللحظة بلا جواب على هذا الإشكال، ولعلي أجد الجواب في وقت لاحق. ولكني مع هذا أصر على أن العقل مصدر معرفة مستقل عن التجربة، بل إن مصدر التجربة نفسه مفتقر إلى مصدر العقل، وإلى الحقائق والقواعد العقلية، وعلى رأسها قانون امتناع التناقض.