23 ديسمبر، 2024 12:42 ص

تأرجح العراقي مابين الانتماء الوطني وأنتماءات اخرى

تأرجح العراقي مابين الانتماء الوطني وأنتماءات اخرى

تصنف الدول الى دول قومية قوية ودول قومية ضعيفة بما يتعلق بتبلور هوية وطنية اساسية راسخة لدى ابناء الوطن الواحد تطغي على الهويات او الانتمائات الثانوية في الحالة الاولى او تدفع على تبلور هويات جماعية اخرى تكون اقوى من الهوية الوطنية في الحالة الثانية. ممكن تعريف الهوية الجماعية (الوطنية, الاثنية, الدينية, العشائرية وما الى ذلك) بأنها شعور الفرد بالانتماء إلى شريحة اجتماعية او مجموعة بشرية معينة و هذا الشعور بالانتماء منبعه وعي الفرد بأنه يشترك مع الافراد الاخرين ضمن مجموعته بقواسم عديدة اهمها اللغة والتأريخ والثقافة والجغرافيا والمصالح المشتركة وربما رابطة الدم الخ. وهو احساس ليس له علاقة بالطبيعة او الفطرة كما يتصور البعض وانما ينموا ويتجذر اجتماعيا وتربويا بالتدرج خلال مراحل نمو هذا الفرد.
أن يكون لكل فرد في كل المجتمعات هويات متعددة امر طبيعي ولكن السؤال الاهم بهذا الخصوص هو لماذا تبزغ وتتبوء بعض الهويات او الانتماءات مكان الصدارة عند الافراد والجماعات وتضعف و تظمر هويات او انتماءات اخرى؟ وما دور الدولة  القومية القوية اوالدولة القومية الضعيفة بهذا الخصوص؟ قبل ان ادخل في هذا الموضوع أود ان اذّكر بأن الآفراد يميلون للانتماء الى جماعات او كيانات اجتماعية وغيرها لاسباب عديدة: اولها ان الانسان اجتماعي بطبعه ولديه حاجة نفسية لان يكون ضمن مجموعة بشرية معينة. فالانتماء الى كيان اجتماعي معين يعزز شعورنا النفسي بالآمن والطمأنينة ويبعث فينا الاحساس بالفخر والعزة خاصة اذا كان هذا الكيان ذو شأن و رفعة. العامل ألآول اعلاه يتغذى من و يتعمق من خلال التربية البيتية والبيئة الاجتماعية التي ينشأ ويترعرع فيها الفرد. هذا العامل مهم في بلورة الهوية الفردية ضمن الهوية الجماعية واستنساخ او اعادة انتاج الوعي الجمعي. وفي حالة المجتمعات التقليدية قد تكون لرابطة الدم او القرابة اهمية كبيرة بهذا الخصوص كما هو حاصل لدينا في العراق كالافخاذ والعشائر. واخيرأ فأن المجموعة البشرية (سمها ما شئت: شعب, قبيلة, طائفة الخ) توفر او توحي بأنها توفر لهذا الانسان الآمن والدعم الآجتماعي والدفاع عنه ضد الغرباء وحتى المساعدة المادية في اوقات المحن ونوائب الزمن. مقابل ذلك هو وقوف هذا الشخص طبعأ مع الجماعة تمسكه بعاداتها وتقاليدها والدفاع عنها و التضحية من اجلها.
بيد ان تطور المجتمعات صناعيا وتغير بناها الاقتصادية ادى ايضأ الى تغيرها وتطورها اجتماعيأ وهذا بدوره ادى الى تطور هويات الافراد وأنتماءاتهم. فنزوح الناس, على سبيل المثال, من القرى والارياف الى المدن من اجل العمل والحصول على خدمات وحياة افضل ادى الى انعكاسات اجتماعية كبيرة. هذا التطور الديمغرافي الجديد اعطى مساحة واسعة من الحرية للافراد بتجاهل وتجاوز الانتماءات والعادات والقيم القديمة التي كانوا يتمسكن بها سابقا لانها لم تعد تناسب نمط الحياة الجديدة في المدن الكبيرة. وهكذا تغير شكل الملبس وعادات الاكل وانواع الاطعمة وتغيرت حياة الناس اليومية وبدآ ألافراد بتكوين علاقات مع اناس اغراب لاتستند على روابط القربى او الدين او مناطقهم الاصلية, علاقات قائمة على مبادئ انسانية او على اساس المصالح المتبادلة. واخذوا يتزاوجون مع اناس اغراب لاينتمون الى قبائلهم اوطوائفهم وما الى ذلك. 
ان هذا التطور الكبير في نمط العلاقات الاجتماعية وطريقة تفكير الناس يمكن ربطه بعوامل ثلاث:
العامل الاول هو ان انتقال الناس الى المدن اضعف الضغط الذي كان يمارس عليهم من قبل الاقارب اوالقبيلة او القوى الدينية المحلية. فبعدهم عن مناطق سكناهم الاصلية جعلهم بعيدين عن الرقابة واعطاهم حرية اكبر لتطويع او تغيير عاداتم وبعض قيمهم و طريقة ممارستهم لمعتقداتهم. العامل الثاني هو التطور الذي طرأ على طريقة تفكيرالافراد ووعيهم الاجتماعي. فانتشار المدارس والخدمات التعليمية والنشاطات الثقافية في المدن اسهم في انتشار العلم والمعرفة وخلق وعي جماعي وثقافي مشترك. هذا التطور حرر الناس ايضأ من البقاء رهائنأ ضمن اطار الماضي واسرى تقاليد وقيم لم تعد لها وظائف ذات اهمية في الحياة المعاصرة. والعامل الثالث يتعلق بالعمل وتحسن الوضع المعيشي الذي اعطى الناس استقلالية وذلك بعدم حاجتهم الى اواعتمادهم على الدعم العشائري او المناطقي وهذا الامر مرتبط وبقوة بالعامل التالي و الاخير. والعامل الاخير هذا يتعلق بتطور الدولة الحديثة. فالعوامل المذكورة اعلاه اضعفت الانتمائات الثانوية ولكن العامل الاهم هو تطور الهوية الوطنية. في مقالة سابقة ذكرت كيف تطورت الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية الامر الذي جعل المواطن اكثر اعتمادأ على المجتمع من خلال مؤسسات الدولة المختلفة. التعليم والضمانات الاجتماعية المختلفة كالضمان الصحي والتامين ضد البطالة والتقاعد العام للمسنين والحماية القانونية وتوفير الامن الخ اسهمت في شعور الناس بأن الوطن هو الضمان الآقوى والاكثر ديمومة لحياة أفضل. وبذلك اصبح الوطن وليس اي كيان اخر اساسأ للانتماء والهوية الجماعية.
هذا الآمر حصل وممكن ان يحصل فقط في الدول القومية القوية. وما اعني بالقوية هنا ليس بمعنى الدولة البوليسية او الدولة المركزية وانما الدولة التى نجحت بخلق علاقة أنتماء بين المواطن والوطن تستند على بنى مؤسسية راسخة و صلبة لاتتأثر او تتغير بتغير الحكومات والحكام وليس لها علاقة كبيرة بالخطاب الرومانسي و الشعور الوطني العاطفي.
أما مايسمى بالدول القومية الضعيفة ومنها العراق فقد فشلت في تحقيق هوية وطنية راسخة. الآسباب عديدة ومعقده ولايمكن الولوج فيها بالتفصيل في هذا النص المختصر. لكني اود الآشارة الى عناوين بعض هذه الاسباب واولها تشابك التفكير والممارسات الدينية والقبلية والسياسية, تعثر بل وتراجع الخدمات التعليمية والتنمية البشرية والخدمات ألاجتماعية وغياب التخطيط التنموي والتصنيع وتعثر بناء دولة المؤسسات وسيادة القانون علاوة على غياب الاستقرار السياسي. الواقع الاقليمي له بلا شك وزنأ كبيرأ بهذا الشأن.
اما مسألة التحضر او الهجرة من القرى والارياف الى المدن في العراق فقد حدثت على شكل موجات ربما اكبرها حصلت بعد ثورة 14 تموزعام 1958 واخرها بعد الاحتلال عام 2003. وضمن هذه الموجات هاجرت افخاذ واعداد كبيرة من ابناء عشائر معينة وسكنت مناطق بعينها وشكلت جزرأ قبلية في المدن والمناطق الحضرية, وقد جاءت حاملة معها عاداتها وتقاليدها وقيمها واستمرت بمراقبة بعضها البعض مما اسفر الى أستمرار الضغوط الآجتماعية والتمسك بالتقاليد البالية خشية من سطوة المحيط الاجتماعي المحافظ. لهذا لم تتوفر مساحة كافية من الحرية للافراد والعوائل بأنتهاج اساليب حياتية واجتماعية جديدة تنسجم مع حاجاتهم وأمانيهم. والطامة الكبرى هي عدم قيام الدولة العراقية, لأسباب معروفة, بأحتضان المواطنين, كل المواطنين, كما تتطلب حقوق المواطنة ورعايتهم وبالشكل الذي يجعلهم يقدمون مبدأ المواطنة والانتماء الوطني على غيره من الانتماءات الاخرى. لذا وبسبب غياب دور فاعل للدولة هذه, وفي ظل واقع مرير ليس فيه أمن ولا أمل, يبقى المواطنون العراقيون يتأرجحون مابين انتمائهم الوطني وأنتماءاتهم القبلية والطائفية والاثنية والمناطقية. هذا ان لم تكن الغلبة قد بدأت تميل لصالح ألانتماءات الاخيرة.
[email protected]