تُصفق هذه المقالة وتزغرد لأبنائك وبناتك المتظاهرين الشجعان الذي صبروا طويلا جدا على الحكام الطارئين على الحكم والسياسة والدين الذين لطخوا وجهك المشرق الجميل بالقار والطين، وأنزلوك في آخر قوائم الدول الفاشلة.
وهذه المقالة، في الوقت نفسه، تخشى من أن تتسلل مليشيات (الصدريين) و(العصائبيين) و(البدريين) و(المالكيين) إلى مسيرات جماهيرك، فتفرغ ثورتك من ثوريتها، وتُبرِّد نداءاتك، لـ (تُديِّنَها) و(تُطيفَها)، فتتوقف المطالبة بإقامة الدولة المدنية، وبترحيل نظام المحاصصة العقيم، ومحاكمة جميع الفاسدين، كبيرهم قبل صغيرهم، وبرفع يد المرجعية وجميع رجال الدين الآخرين الآخرين، شيعة أو سنة، كليا ونهائيا، عن السياسة والإدارة والثقافة والزراعة والصناعة والصحة والإعاشة والاقتصاد، وترك الدولة ودستورها وقوانينها لأهل الخبرة والكفاءة والاختصاص، ثم تحل محلَّها شعاراتٌ وهتافات طائفية متخلفة، أو مطالبُ سطحية هامشية تكتفي بتنظيف المجاري، وزيادة ساعة كهرباء، وتحسين سكر البطاقة التموينية وزيتِها ورزها وحليبِها، مع عدم المساس بأصحاب الكروش الكبيرة، والقبول ببقائها متربعة على عروشها، وكأن شيئا لم يكن، ولن يكون.
لماذا تأخرت يا شعبنا العزيز كثيرا جدا، حتى ظننا أنْ لن تقوم لك قائمة ذات يوم؟. فقد كان عليك أن تثور على الفساد والفاسدين المعممين من أول يوم تجاسروا فيه، ودخلوا القصر الجمهوري ومبنى رئاسة الوزراء والبرلمان.
ألم نقل لك مرارا، حتى قبل قدومهم من أزقة السيدة زينب ومقاهي عمان ولندن وطهران، إنهم لصوص، ومنافقون، وعملاء مزدَوَجون، يعطون لإيران قلوبهم وأرواحهم، ثم يُمولون أحزابهم ومليشاتهم وصحفهم وفضائياتهم من أموال العم سام، ويباهي بعضُهم بعضا بصداقة هذا السيناتور وذاك النائب، وبعلاقته بالسي آي أي أو الخارجية أو الدفاع أو البيت الأبيض، وبعلم مخابرات الولي الفقيه وتبريكاتها؟.
لقد كانوا طيلة سنوات المنافي يبكون العدلَ الضائع في عراق صدام حسين، ويشكون طائفيته، وفساد ولديه وإخوته وأبناء عشيرته، ويُقسمون على أنهم، إنْ هم ورثوه، سيحكمون بالعدل والنزاهة، ويساوون بين الناس، ويحترمون كرامة المواطن وحريته، ويحافظون على وحدة الوطن، ويدافعون عن سيادته واستقلاله حتى النفس الأخير.
لكنهم، وفور أن هبطوا من دبابات الجيش الأمريكي وطائراته، بعد غياب طويل، تراكضوا، خفافاً وثقالاً، لاحتلال البنايات والقصور والمزارع والشوارع والشواطيء، وتدافعوا كالذئاب الجائعة ليملأوا جيوبهم وكروشهم بالمال، أيِّ مال، وكأنهم موقنون بأن أيامهم في السلطة محدودة، وساعة الحظ لا تأتي إلا مرة واحدة.
تقاسموا الوزارات والمؤسسات والسفارات فيما بين أحزابهم ومليشياتهم، وسَّير صغيرُهم، مثلَ كبيرهم، خلفَه جيوشا من الحراس والمخبرين والمرافقين المدججين بأسلحة لا يملكها حتى جيش الدولة ذاته.
وبقدرة قادر تحول حُفاة الأمس إلى أصحاب شركات، وفضائيات، ومليشيات، وعمارات في عواصم الخليج وإيران وسوريا والأردن ولبنان وبريطانيا وأمريكا.
لم يفسدوا الدولة فقط، بل أفسدوا القلوب والعقول، وقتلوا البراءة والصداقة والمحبة والأمانة والأمان.
ومن عام 2003 ونحن ننتظر ثورتك المظفرة. زَوروا التاريخ، والشهادات، وأنت ساكت. وفي كل عام وكل شهر وكل يوم وكل ساعة فضيحة اختلاس أو تلاعب أو تهريب، وأنت ساكت. وزراؤهم لا يسرقون آلاف الدولارات، بل مئات الملايين، ويهربون بها تحت سمع أمن الحكومة وشرطتها، وأنت ساكت. وكلَّ عام حربٌ مع شريحة من شرائحك، أو مدينة أو قرية من مدنك وقراك الآمنة، وأنت ساكت. أرسلوا خيرة أبناءك إلى الموت في سبايكر، وسلموا رقاب المئات منهم لسكاكين داعش في الموصل والرمادي وبيجي والفلوجة، وأنت ساكت. وأرسلوا المئات منهم ليموتوا في السيدة زينب وحلب وحماة ودرعا والزبداني واليمن والبحرين، وأنت ساكت.
لم يتركوا دولة شقيقة أو صديقة إلا خاصموها دفاعا عن ولي أمرهم الفقيه، ظالما أو مظلوما، وأنت ساكت.
أفلسوا الخزينة، وصاروا يدورون على أبواب الدول القريبة والبعيدة طالبين (حسنة لله يا محسنين)، وأنت ساكت.
وترى الدولة، ببرلمانها ووزاراتها ورئاسة جمهوريتها، تدار من منازل خمسة من أصحاب العمائم والكروش الكبيرة، وأنت ساكت.
أشاعوا الرشوة، والمخدرات، وأهدروا المال العام، وسربوا جميع أسرارك لدولٍ أجنبية، وشرعنوا التهرب من دفع الضرائب، وفضلوا ذوي القربى في التعيينات وفي العقود دون حق ولا عدالة، وحصلوا على عمولات مقابل إحالة العقود أو المناقصات، وملأوا السجون بالآلاف من الأبرياء والبريئات، وأنت ساكت.
أغبياءُ وقصارُ نظر. أضاعوا المشيتين. خسروا الدنيا، وخسروا الدين. فلا أرضوْا شعبَهم، وطائفتُهم أشدُ الغاضبين عليهم، ولا فازوا برضا الله ورسوله والمؤمنين.
والمصيبة أن كثيرين من شيبك وشبابك يعرفون أصل كل واحد من هؤلاء وفصله، ويتحدثون عن فساده، وسوء أخلاقه، وقلة أمانته، وجهالته، وشطاراته في النصب والاحتيال والتزوير والتلفيق والاختلاس والشحادة، من أيام النشأة الأولى في حواري النجف أو كربلاء أو الحلة أو الناصرية أو العمارة أو البصبرة أو بغداد، ثم انتخبتهم، ومنحتهم السلطة والثروة، وحكَّمتهم برقاب ملايين العراقيين الجياع والمهجرين والمفقودين، ليس لدورة انتخابية واحدة، بل لثلاثٍ، يا شعبنا العزيز.
وحين تسلموا الحكم كتبنا كثيرا، وقلنا لك إن الأعوج لن يعتدل، وخائنَ وطنه لن يخلص له ذات يوم، والحرامي لا يؤتمن، والغبي لن يفهم، والضال لن يصبح هاديا، والشوك لن يقطر عسلا، والحمار لن يعزف على بيانو، فلم تنهض لقتالهم.
ومن أول أيام حكمهم المشؤوم قلنا لك إن هؤلاء سيسرقونك، وسيخدعونك، وسوف يُزوِّرون لك الوقائع والحقائق، وسيُلهونك بالسفاسف والخرافات والأساطير، ولن ترى على أيديهم خيرا، لأنهم لا يعرفون الخير، فلم تغضب، ولم تنتفض، طيلة سنوات ديمقراطيتهم المغشوشة، وانتخاباتهم التي باركتها مرجعيتك، وحرَستْ صناديقَها المليشياتُ، وحَمَلةُ السواطير والسيوف والمفخخات.
ومن عارضهم من أبنائك كان يموت بسكين، أو بكاتم صوت، أو بمفخخة، أو بفضيحة مفبركة، أو تهمة عمالة أو خيانة أو إرهاب.
ومرت السنوات العجاف، كلها، ونحن نهتف ونصيح يا شعبنا العزيز، وأنت لا تجيب. إلى أن حدثت المعجزة، وتدفقت الملايين من خيرة شبابك ورجالك ونسائك على ساحات الوطن المغتصب، بعد أن أدركت أن هذا النظام المتعفن المختوم بالشمع الأسود، والذي تهيمن عليه الجهالة والرذيلة والعصبية والطائفية، ويتخابر، علنا، مع دولٍ أجنبية، لا ينفع معه عتاب، ولا نصيحة، ولا تصليح. فاسدٌ من جذوره. واقتلاعُه وإعادة زراعة نظام جديد مكانَه أسهل من إحياء العظام وهي رميم.
تأخرتَ كثيرا في صحوتك، ولكنك صحوت. وتأخرت ثورتك طويلا، ولكنك ثرت. وأن تجيءَ متأخرا أفضلُ ألفَ مرة من أن لا تجيء. فهل حان وقت الحساب العسير؟، نعم، حان. وإننا مع جماهيرك الغاضبة غاضبون.