18 ديسمبر، 2024 8:46 م

تأجيل القضية الكردية

تأجيل القضية الكردية

أشغلت القضية الكردية دول المنطقة وأحيانا دول العالم منذ أكثر من قرن من الزمان . فبرغم سنوح فرص كثيرة أمام الشعب الكردي والدول الحاكمة لكردستان والقوى العظمى لحل هذه القضية سواء عبر المعاهدات الدولية أو الإقليمية ، أو عبر الثورات الكردية المندلعة في أرجاء كردستان في القرن الماضي ، ولكن جميع تلك الفرص ضاعت لإيجاد حل منطقي ومشرف للقضية الكردية سواء بسبب تعارض المصالح الدولية والإقليمية مع حسم القضية ، أو بسبب قصر نظر وحكمة القيادات الكردية التي قادت تلك الثورات ومعظمها قيادات عشائرية وقبلية ودينية لم تكن قادرة على إستيعاب السياسات الدولية أو التعاطي مع صراعات القوى العظمى والأوضاع الإقليمية ، فظلت تلك الثورات في واقع الأمر بلا قيادة حكيمة قادرة على إستثمار الأوضاع الدولية وتكريسها لخدمة أهدافها القومية .

فإذا رجعنا الى بداية نشوء الثورات الكردية في المنطقة والتي بدأت مع إنحلال الإمبراطورية العثمانية وقرب سقوطها في أواخر القرن التاسع عشر ثم إمتدادها الى منتصف سبعينيات القرن العشرين ، سنجد بأن أغلب قادة تلك الثورات كانوا من رجال الدين أو رؤساء العشائر والقبائل إبتداءا من الشيخ عبدالله النهري والشيخ سعيد بيران ثم سيد رضا درسيم في القسم الشمالي ( تركيا ) من كردستان ، وصولا الى ثورة الشيخ محمود الحفيد في الجزء الجنوبي ( كردستان العراق ) ، ثم جمهورية مهاباد تحت قيادة القاضي محمد ، وإنتهاءا بثورة أيلول التي قادها الملا مصطفى البارزاني ، فجميع هؤلاء القادة كانوا من رجال الدين والعشائر لم يخبروا الحياة السياسية وألاعيبها وفشلوا بالتالي في إستيعاب تلك الألاعيب وتوظيفها لصالح حركاتهم الثورية .

فعلى سبيل المثال رفض الشيخ محمود الحفيد الذي أعلن نفسه ملكا على كردستان أن يتعاون مع القوات الانجليزية المحتلة للعراق في وقت كانت بريطانيا في ذلك الوقت إمبراطورية عظمى تقود العالم بأجمعه . وكان الشيخ محمود ينظر الى قيادته للحركة الكردية من منظور ديني وليس من منظور سياسي ، ولعل رفضه للتعاون مع الإنجليز مرده الى وازع ديني يمنعه من التعاون مع ( النصارى ) لمحاربة الإمبراطورية العثمانية ( المسلمة ) !. كما كان تعاون الملا مصطفى قائد ثورة أيلول التحررية مع شاه إيران وتوظيف جيش البيشمركة الكردية لقتال الأنظمة العراقية المتعاقبة خدمة لمصالح الشاه هو الخطأ الأكبر في حياته ، خصوصا وأنه كانت هناك مبادرات عديدة من الحكومات العراقية للتفاهم والسلام وإقرار ولو الحد الأدنى من الحقوق القومية للشعب الكردي . وهو خطأ تكرر ثانية حين ربط الحزبين الرئيسيين في كردستان أثناء الثورة الجديدة بقيادة الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني أنفسهما بأجندات إقليمية معادية أصلآ للقضية الكردية . فهذه الأخطاء القاتلة للقيادات الكردية هي إحدى العوامل التي أدت ومازالت تؤدي الى فشل جميع الثورات الكردية في تحقيق أهدافها .

ولا ننسى طبعا عامل آخر مهم أيضا ألا وهو الطبيعة الجغرافية القاسية لمناطق كردستان التي حالت دائما وماتزال تحول دون توحيد الصف الكردي وجمع الشعب في مختلف أجزائه تحت راية واحدة للنضال ضد القوى المحتلة ، فالإنقسام والتشرذم مازالا يحولان دون توحيد الإقليم الصغير الذي يتمتع الى حد ما بنوع من الإستقلالية والحكم الذاتي في كردستان العراق . ولا نريد الخوض أكثر في تفاصيل أسباب وعوامل فشل الثورات السابقة فهذا أمر يحتاج الى مجلدات وليس مجرد مقالات قصيرة ، لكننا سنحاول الخوض في التجربة الأخيرة للشعب الكردي بكردستان العراق والتي تعد بنظر الكثيرين النموذج الأنصع للثورات الكردية على مر التاريخ وسنعرض أسباب فشل القيادة الكردية الحديثة من تحقيق الهدف المنشود لجميع أبناء الشعب الكردي من تحقيق إستقلاله الذاتي والتحرر من الإحتلال .

فمما لاشك فيه أن الشخصيات والرموز التي قادت الثورة الأخيرة بكردستان العراق بين عامي 1975-1991 هي في الغالب إمتداد طبيعي للثورات التي سبقتها ، وعلى الرغم من الفوارق الكبيرة في الظروف الذاتية والموضوعية بين الحقبتين ، لكن العقليات التي قادت الثورة الأخيرة كانت بنفس المستوى من عدم النضوج السياسي على الرغم من أن بعض قادة تلك الثورة كانوا يمتلكون خلفيات سياسية وثقافية وعلى دراية بالسياسة الدولية والصراعات الإقليمية . ومع ذلك فقد فشلت في الإتفاق والتوافق ولو على الحد الأدنى فيما يتعلق بتوحيد الصف الكردي . فعلى الرغم من أن تلك الثورة واجهت أحد أعتى الأنظمة الشوفينية الظالمة وهو النظام الدكتاتوري البعثي الذي لم يتردد للحظة من ممارسة أفظع جرائم الإبادة الشاملة ضد الكرد وإنتهاج سياسة الأرض المحروقة ، لكن إنشغال القيادات الثورية بصراعاتها الحزبية وصولا الى حد الإقتتال الداخلي أثناء الثورة ساهم بإغفال القيادة للهدف الرئيسي من الثورة وهو التحرر القومي والخلاص من النظام الدكتاتوري . ولم ينفع تأسيس ( الجبهة الكردستانية الموحدة ) عام 1988 بجبال كردستان في تجاوز الإنقسامات بين الأحزاب الثورية القائمة آنذاك . وجدير بالذكر ان هذه الإنقسامات والصراعات الدامية التي غلبت على الوضع الداخلي للثورة أدت مرتين الى إنهيار الثورة الكردية في كردستان العراق ، المرة الأولى عندما نجح صدام حسين في تصفية ثورة الملا مصطفى البرزاني بعقده لمعاهدة الجزائر مع شاه إيران . والمرة الثانية عندما نجحت قوات الجيش العراقي في أعقاب الحرب العراقية الإيرانية بالقضاء على المقرات القيادية لقوات البيشمركة ودفع معظمها نحو الأراضي الإيرانية في نهاية الثمانينات من القرن الماضي ، فخلت ساحات كردستان تقريبا من أي نشاط عسكري ضد النظام البعثي .

ولولا الحماقة الكبرى التي إقترفها صدام حسين بإحتلاله لأراضي دولة الكويت لما وفر الفرصة أمام أمريكا والقوات المتحالفة معها لإضعاف جيشه وتقليم أظافره مما ساهم ذلك في تفجر الإنتفاضة العراقية في الجنوب والشمال . وبسبب النزوح المليوني من مدن كردستان نحو الحدود هربا من إنتقام قوات الحرس الجمهوري الصدامي والذي أثار الرأي العام العالمي ، مما دفع الدول العظمى الى فرض المنطقة الآمنة في كردستان عبر القرار 688 الصادر عن مجلس الأمن الدولي والذي أدى الى إقامة منطقة آمنة يمارس فيها الأكراد نوعا من الإستقلال الذاتي بعيدا عن قبضة النظام الصدامي . وهكذا بفعل التطورات العالمية وتداعيات حرب تحرير الكويت تمكن الأكراد لأول مرة في تاريخهم من إنشاء كيان كردي مستقل عن الأنظمة الحاكمة باقليم كردستان العراق . ولكن ماذا حدث بعد ذلك ؟.

على الرغم من سنوح فرصة ذهبية لا تعوض بإقامة الدولة الكردية المستقلة بعد سقوط صدام حسين في عام 2003 وإنهيار الدولة العراقية تماما وحدوث الفوضى العارمة في العراق ، كانت الأجواء مهيئة تماما لإعلان الإنفصال ، خصوصا وأنه كان هناك إستفتاء شعبي أجري بكردستان لتقرير المصير عام 2005 والذي صوت فيه الغالبية العظمى بحدود 93 بالمائة لصالح الإستقلال ، لكن المصالح الحزبية وعدم وجود الحد الأدنى من التفاهم بين الحزبين الرئيسيين خصوصا وأنهما خرجا توا من الإقتتال الداخلي وجروحها لم تندمل بعد ، بالإضافة الى الانقسام القائم بينهما في ظل إدارتين منفصلتين لحكومة الإقليم ، وجدنا بأن قيادة الحزبين تتسابقان للذهاب الى بغداد لإعادة إحياء الدولة المتداعية وتأكيد إخلاصهما لتلك الدولة التي أذاقت الشعب الكردي الكثير من الويلات والمآسي وصلت في بعض المراحل الى حد الإبادة الشاملة وإحراق كردستان خلال عمليات الأنفال والقصف الكيمياوي لمناطقها . وهكذا ضيع القادة الكرد فرصة أخرى للإستقلال وعادوا الى حضن الوطن الذي عاداهم وحاربهم طوال ثمانين سنة الماضية . وإنخدعت القيادة الكردية مرة أخرى بالدستور العراقي الجديد الذي سن عام 2005 ودفعت الشعب الكردي بأغلبيته الساحقة للتصويت لصالح هذا الدستور الذي ظنوا مخطئين أنه سيكون ضامنا لحقوق الشعب الكردي المشروعة ، ولكن ظهر لاحقا بأن ذلك الدستور لم يكن سوى حبرا على الورق ، فمنذ تشريعه ولحد اليوم جرت عشرات الإنتهاكات لبنوده وتوقفت أهم بنوده عن التنفيذ وهو المادة 140 القاضية بتطبيع المناطق المتنازع عليها في كركوك وأطرافها وإعادة ربطها بإقليم كردستان عبر إستفتاء شعبي ، وهي المادة الوحيدة من بين جميع مواد الدستور التي تصب في مصلحة الشعب الكردي . وركزت القيادة الكردية بدل الإصرار على تنفيذ هذه المادة ، الى إستغلال المواد الأخرى للدستور والقاضية بإشراكها في مواقع السلطة والنفوذ والحصول على بعض المناصب الوزارية والتمثيل في مؤسسات الحكومة الأخرى . وأصبحت هذه المادة من الماضي ولم يعد يخطر على بال القيادة الكردية اللهم إلا في بعض البيانات التي تصدر في مناسبات معينة وهي بيانات خادعة هدفها الإبتزاز وإحتواء الغضب الشعبي في بعض الأحيان .

في خضم هذه الأحداث دفعت قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة السيد مسعود البارزاني نحو إستلام السيد جلال طالباني لمنصب رئيس الجمهورية حتى يخلو له الجو بكردستان للإستئثار كاملا بالحكم فيها ، وقد تحقق له ذلك ، فمع ذهاب السيد طالباني الى بغداد كرس السيد البارزاني قبضته الحديدية على مرافق الحكومة والسلطة بكردستان وبعد وفاة الرئيس طالباني نصب من نفسه القائد الأوحد والمرجع الأعلى للشعب الكردي ، وجعل من حزبه هو الحزب القائد في الإقليم .

وما ساعد هذا الحزب في تكريس زعامته على مقدرات الاقليم هو الفساد العارم الذي إجتاح مرافق الدولة العراقية بأكملها بعد سقوط النظام السابق ، حيث غطى ذلك على الفساد المماثل الذي أطل برأسه في إقليم كردستان ، ففي غياب الشفافية والعدالة الإجتماعية وإنزلاق الأحزاب والكتل السياسية العراقية نحو الفساد في البلاد ، إستغلت قيادة هذا الحزب الأوضاع السائبة في العراق لتمعن بدورها في الفساد الذي عم مرافق حكومة الإقليم برمتها ، وكانت القاعدة هي ( شيلني وأشيلك ) ، بمعنى ( أسكت ، وأنا أسكت ) !! .

وفي ظل هذه التحولات المخيفة بإدارة الدولة والحكومة غابت خطط التنمية والنهوض الإقتصادي وإعادة بناء ما خربته حروب النظام في كردستان ، وأصبحت موارد الإقليم سواء المتأتية من موازنة الدولة العراقية أو من الإيرادات المحلية مكرسة بجميعها لصالح الحزب الحاكم ، مقابل حرمان الشعب من تلك الموارد أو إستخدامها لإحياء البنية التحتية للخدمات وبناء المشاريع الإستراتيجية الخادمة للشعب أهمها في قطاع الكهرباء الذي يعاني منذ ثلاثين عاما من أزمة حادة في الإنتاج والتوزيع ، وكذلك تخصيص جزء منها لبناء مقومات صناعة نفطية هادفة الى الاستقلال عن بغداد .

لقد أنتج الفساد الضارب بإقليم كردستان طبقة سياسية منتفعة تنصب همومها بكيفية الإثراء السريع دون أي وازع اخلاقي ، سواء من خلال نهبها لثروات الإقليم ، أو من خلال تحويل القطاع العام الحكومي الى قطاع مشلول أمام الشركات الخاصة التي بدأ حكام الإقليم يسيطرون عليها أو من خلال أعوانهم أو اٌقربائهم ، فأصبح الكل يلهث وراء مصالحه الذاتية والحزبية دون أي إكتراث بالقضية القومية.

ولأجل الإحتفاظ بمصالحه في الحكم إتجه الحزب الحاكم الى أسلوب يقترب تماما من الحكم الدكتاتوري ، فأصبحت الحريات مقموعة بما فيها حرية التظاهر والحريات الإعلامية ، فإمتلأت التقارير الدولية بالإشارة الى إنتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان في إقليم كردستان ، وإمتلأت السجون بالمعارضين للحكم ، وبجانب ذلك ظهرت طبقة شديدة الإرتزاق من أصحاب الإقلام المأجورة التي تمجد هذا الحكم الفاسد من أجل حفنة من الدولارات ، وتم التضييق على الأحزاب المعارضة سواء بشراء ذمم قياداتهم أو بالضغط التعسفي عليهم ، فأصبح الإقليم يتجه الى الدكتاتورية المقيتة التي ناضل الشعب الكردي عقودا طويلة للتحرر منها .

الأوضاع لا تبشر بالخير في إقليم كردستان ، فالإشارات الواردة منها تشير الى أيام وسنوات صعبة قادمة ، حيث تم تأجيل القضية الكردية المشروعة للتحرر الإجتماعي والقومي الى أجل غير مسمى مقابل إستمرار هذا النهج التعسفي للحكم والذي يذكرنا بالثمن الباهض الذي دفعه الشعب الكردي للتحرر منه .