عادةً ما تجتاح المجتمعات موجات من ثقافات مغايرة تحرك تلك الموجات الركود و تعيد صياغة بعض القوانين العامة او تلغيها , و يعتمد هذا التغيير او الالغاء على العقل المنتج و العقل المستقبِل في تحريك الوعي العام . فالمنتج يجب ان يكون واعياً صادقاً حريصاً غير منتفعاً , أما المستقبِل فعليه ان يكون حذراً يقظاً حيال استقبال المعرفة و خاصة التي تتناغم مع معتقداته الاولية , فكثير من الاختراقات التدميرية التي تنسف او تسفه الكيانات او المذاهب العامة تاتي من داخلها , فتكون اكثر تأثيراً و إيلاماً .
المتابع للوضع العربي بالتحديد يجده مختلفاً عن سائر خلق الله , فبالوقت الذي لا تخلو فيه مدينة او قرية ,من مسجد او مكان يعبد فيه الله , و لا يخلو شارع من مكان للعبادة , ترتفع من كل بيت الخطب و المواعظ التي تقدمها الفضائيات و تصدرها للمستهلك كوجبة سريعة مكفولة التوصيل الى غرفة النوم و المطبخ .
و بالوقت الذي يصّر الشارع العام بدفاعه عن هذا الهذيان المنطلق عبر خطابات الفضائيات و المساجد , يبقى كما هو دون ان تحرك فيه الخطب التي تدعوا الى احترام البشر او تلك التي تحثه على النظافة مثلاً . يبقى الشارع العام عندنا هزيلاً ضعيفاً مالم نغير منتج المعرفة الاصلي و الا سيبقى تغيير بعض الالوان كخدعة واهمة على تغيير المنتج الاصل , و سيستمر هذا الوهم في تغذية الشارع العام بالمعرفة .
في كتابات سابقة كنت قد حذرت من رجال الدين السيئين و أعتقد اني بعثت بمنتجي الى المستقبِل عبر الصحف و المواقع . بعض الاشخاص قبلوا بالفكرة بعد تحليل واعي و دراسة جادة , البعض الاخر لا يستطيع البحث او التساؤل بهذا الامر , فأوصد بابه و جلس مستريحاً !
مرت النهضة الاسلامية بمنعطف خطير لم يحصل لها من قبل و أكاد أجزم لم يحصل بعدُ ان حدث مثل ذلك المنعطف , وهو الحوار الجاد و المشروع الكبير بين ابن رشد 595 هج و ابو حامد الغزالي 505هج , فبينما كان الغزالي قد أصل للفقه و اصوله و إضفاء مشروعية القداسة على القديم من النص غير المحَقَق, إنتهج ابن رشد منهجاً مغايراً وهو منهج فلسفي فكري عقلي . وبين صراع منهجين عقلي و نقلي بالتأكيد ستهرول العوام نحو النقل بينما يترك العقل مضرجاً يتلوى من طعنات الجهلاء .
تغلب منهج الغزالي لأن أجدادنا كما مجتمعنا اليوم يحبذ النقل على العقل , فمات العقل او كما يقول عنه رابرت رايلي في كتابه إغلاق عقل المسلم . وضع الغزالي الختم على عقل المسلم فالعقل بالنسبة للغزالي هو العدو الاول بالنسبة للاسلام لذا رأى ان على المسلم الاستسلام الكلي الى ارادة الله اي كل ما جاء في الوحي من قران و سنة النبي ومن السلف الصالح من تفسير للنصوص و الشريعة بدون اي سؤال او مناقشة .
انتصر الغزالي لأن المستقبِل ( الشارع العام ) لم يكن واعياً بل كان شبه مخدراً , و المنتج اعني الغزالي كان واعياً جداً فالرجل كان فيلسوفاً و مفكراً قبل ان ينحدر انحدارته قبل الاخيرة ليكوِّن منهجاً دفن به عقل المسلم و سلب به إرادته الى اليوم .
في كتابه نحو تاريخ مقارن للاديان يقول الدكتور محمد اركون الشيء المسيطر على عقلية العرب و المسلمين حالياً ليس فكر ابن رشد و انما فكر الغزالي , في كتابه المعروف فيصل التفرقة بين الاسلام و الزندقة , أسّس للتكفير كمنهاج في التراث الاسلامي , وهو منهاج لا يزال للأسف ساري المفعول حتى الان .
لو قدر وكان منهج ابن رشد هو السائد اليوم أجدني أقرب للجزم ان حركة و فعل المجتمع الاسلامي سنجدها مختلفة تماماً عما نراه الان , ابن رشد رد على الغزالي بطريقة غير مباشرة في كتابه ( فصل المقال فيما بين الحكمة و الشريعة من الاتصال ) فلم يعتمد التكفير او الالغاء في منهجه رغم انه كان يستطيع فعل ذلك و له القوة فيما اذا أرآد لأنه كان قاضي قضاة زمانه, ويحق له اطلاق الفتاوى مثل الغزالي و لكنه اتبع المنهج العقلاني القائل بضرورة تفحص حجج كلا الطرفين اي الطرف المتبع للشريعة و الطرف المتبع للحكمة و الفلسفة .
في هذه المقدمة التي تحوم حول مسألة مهمة في تاريخ الوعي الاسلامي و التي كتب عنها كبار المفكرين العرب و الغربيين , أجدني مضطراً لإعادة بعض من ذلك التأريخ لكي لا يستغفل العقل الاسلامي و لا يُستهزء به من قبل القائمين عليه , و لا يغرر بالابرياء بنصوص دافعة لسحق الانسان و كرامته و عقله .
فبالوقت الذي احذر فيه من الادعياء باسم الدين او اللصوصية الدينية يجب ان اشير الى مسألة مهمة غالباً ما يسير خلفها العوام من الناس و عادةً ما يسكت حيالها الواعون منهم وهي انني مع رجل الدين الواعي الذي يحترم انسانية الناس جميعاً , مع المثقف الجاد في طلب العلم و القراءة و ليس بالضرورة ان نتفق في إيماناتنا بالقدر الذي نسمح لعقولنا بالحوار و المناقشة.
بالوقت نفسه أنا ضد كل مزور مدعِ وهنا يجب القول ان بعض المتصدرين للوعي الديني و الذين يجنون ارباحاً من ذلك, فارغون مدعون , مخادعون لأستمالة الشارع العام و تأييده , بينما تجد البعض وهم قلة قليلة يمكثون في بيوتهم رغم العلم الحقيقي الذي يمتلكونه و القابلية المعرفية على استيعاب الحوار المختلف كما كان منهج ابن رشد , مع ذلك نلحظ ان الشارع لا زال كما هو زمن الغزالي فهو يخشى من الفلسفة و التفكير و يأنس للخنوع و التسليم والإذعان .
وهنا يبزغ الدكتور السيد طالب الرفاعي كمثال حي على ما قلته , فالرجل الذي افنى عمره في دراسة و تدريس العلوم الدينية و الاكاديمية أضحى شبه معزولاً بعدما نزى الجهلاء و الوهميون و اقارب المتصدرين على المؤسسة التي خدمها لفترة طويلة من عمره.
اية الله السيد الدكتور طالب الرفاعي الحاصل على شهادات و وكالات مطلقة من كبار مراجع وفقهاء الدين الشيعة و الحاصل على شهادة الدكتوراه من مصر , وهو ايضاً استاذ بعض المراجع في حوزة النجف , لا يحبذ لقب اية الله رغم ان طلاب طلابه غدو ايات و البعض إنتحل اسم اية الله كهوية مزورة في بازار مجتمع لا يسأل كثيراً لكنه ينصهر أمام الالقاب .
يعود بنا الرفاعي الى موضوعنا الاول وهو بين الغزالي و ابن رشد كمادة و منهج مستمر لتسطيح وعي الناس , و يذكر بهذا الشآن رئيس قسم الفلسفة في جامعة القاهرة الدكتور محمود قاسم فيقول : أدركته ايام تقديمي للدراسات العليا في كلية دار العلوم جامعة القاهرة في ستينيات القرن الماضي و كان استاذاً متخصصاً في الفلسفة الاسلامية , كان الدكتور قاسم ومن خلال محاضراته و حديثه يرفض فكر الغزالي , لأن الغزالي كان ساخطاً على الحكمة و الفلسفة.
وبما ان الرفاعي رجل دين و من انصار ابن رشد يعتقد هو و الدكتور محمود قاسم استاذ الفلسفة ان الغزالي كان أحد اسباب تأخر المسلمين و انحطاط العقل في المجتمع الاسلامي و تفشي ظاهرة التكفير و القتل و التشدد . وكم يركز الرفاعي على خصوصية ابن رشد وما قاله عنه صديقه قاسم ( كم خسر العالم الاسلامي يوم اخر الفكر الفلسفي لأبن رشد و استعاض عنه بفكر الغزالي الممثل في كتابه احياء علوم الدين (
قبل ان نغادر الى مكان اخر يجب ان انوه الى محورين مهمين في هذا الموضوع
أولاً: أتمنى ان لا يفهم من كتاباتي اني ضد رجال الدين بالمطلق , و هذا ما يحاول بعض رجال الدين إشاعته , لذلك قدمت مثالاً حياً لرجل دين كبير هو السيد طالب الرفاعي , علني أسهم في دفع بعض رجال الدين الفارغين و المهتمين بالالقاب او المتصدرين بهوية القرابة او المصاهرة للتفكير و إعادة ترتيب مشاريعهم الحاثة على طمس كل ما هو نابت , و التقدم نحو مسارات علمية مضيئة بوعي و مطالعة فزمن الاختباء و التبرير اختفى او هو كذلك ..
ثانياً: هذه الكتابات تحريضية للعقل لكي يمارس مهامه التي فطره الله عليها , و ليس التيبس على القيود التي صنعها البشر , و بدعوة فيها من الشراهة للبحث و التفتيش و المراجعة و التحليل و الاخذ و الرد يجب ان يكون العقل غير مكبل و غير مسبوق باحكام ضد او مع .
من يحاول المغامرة و البحث عن معظم مصائبنا و المحن التي مرت و تمر علينا سيجد ان السبب الاول هو تعطيل العقل و عدم السماح له بالتفكير , الركون الى الموروث و العادات و الخضوع و التقليد سبب رئيس في موت عقل المسلم .