23 ديسمبر، 2024 5:20 م

تأثير الفكر الناصري على الخليج العربي 1952-1971

تأثير الفكر الناصري على الخليج العربي 1952-1971

أخذت في الآونة الأخيرة الدراسات الأكاديمية التاريخية ذات الاتجاه القومي الشمولي تحظى بأهتمام كبير لدى الباحثين العرب المتخصصين ، سواء في أروقة الجامعات ذات الصلة ، أم داخل مراكز البحوث المتخصصة ، يضاف إلى ذلك أن الدراسات المتعلقة بالخليج العربي شهدت تزايداً ملحوظاً بشكل يتناسب مع أهمية المنطقة ، ولاسيما بعد التطورات والأحداث السياسية التي مرت بها… حيث دشنت نهاية الحرب العالمية الثانية والسنوات التي أعقبتها ، بداية مرحلة جديدة في تاريخ منطقة الخليج العربي ، إذ ازدادت أهميتها عالمياً ، وفي الأخص بالنسبة إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والدول الرأسمالية الحليفة ، نظراً للمصالح الاقتصادية الكبيرة الأهمية والحساسية لأقتصادات تلك الدول ممثلة في موارد النفط التي تؤلف عصب ديمومة كياناتها .
 إن موضوع الكتاب الذي نحن بصدد عرضه، واحد من تلك الدراسات الأكاديمية المهمة والذي لم يسبق لموضوعه أن تطرقت إليه أية دراسة علمية أكاديمية، حيث تناول مدى تأثير الفكر الناصري، وإنجازات ثورة تموز المصرية في منطقة الخليج العربي على المستويين الشعبي والرسمي . أو بعبارة أخرى يمكن أن نلخص هذا الكتاب في الإجابة عن السؤال التالي :-
– إلى أي مدى أسهم الفكر الناصري في إيقاظ الحس الوطني والشعور القومي ضد الاستعمار الغربي بشكل عام ، والوجود البريطاني بشكل خاص ، ذلك الفكر الذي طالما حاربته كل من بريطانيا والولايات المتحدة بأكثر من وسيلة للحؤول دون وصوله إلى منطقة الخليج العربي التي عانت أكثر من غيرها من النير الاستعماري ؟
 لقد عد بحق قيام ثورة 23/تموز/ 1952 ، في مصر ، وظهور قيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر لمصر ولحركة القومية العربية ، أهم أحداث الوطن العربي في القرن العشرين ، ذلك أنها حددت أهدافها في تحرير العرب من السيطرة والنفوذ الاستعماري ، وتحقيق وحدتهم القومية ، فأخذت المعركة بعداً جديداً تمثل في الصراع بين الحركة القومية العربية من جهة ، والاستعمار الغربي بقيادة بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى ، وقد شكلت منطقة الخليج العربي بؤرة الصراع الأكثر أهمية فضلاً عن عناصر جديدة أخذت في الظهور خاصة في عقد الستينات.
ينطوي الإطار الزمني للكتاب على المرحلة الممتدة بين عامي 1952 و1971 ، على أساس أن البداية تمثل قيام ثورة 23/ تموز كحدث قومي بارز في الحياة العربية ، تهدف بالدرجة الأولى إلى تحرير  كامل الوطن العربي من النفوذ الاستعماري ، خطوة أولى نحو بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد ، في حين يمثل العام 1971 ، انسحاب بريطانيا من الخليج العربي واستقلال كل من البحرين وقطر ، ثم قيام دولة الأمارات العربية المتحدة ، وقبلها تغيير نظام الحكم في عمان ، وبعدها بدأت منطقة الخليج العربي مرحلة جديدة نحو التحديث وبناء الدولة .
 ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية ، بدأت منطقة الخليج العربي تمر بمرحلة تحول تاريخي غير مسبوقة ، فقد شهدت توسعاً شاملاً في استخراج النفط وتوزيعه ، وظهرت الأهمية الاستراتيجية للمنطقة في أعين الدول الاستعمارية بشكل واضح . وعلى الرغم من أن هذه الدول كانت قد قسمت المنطقة تحت نفوذها ، وفيما بينها ، وبالتالي تجنبت الصراع المباشر ، فإن الخوف من دخول قوة خارجية أو انبثاق قوة داخلية تعطل الاستفادة الكاملة من ثروتها النفطية ، كان يمثل الدافع الأول لتشديد القبضة على المنطقة . وفي المقابل، ونتيجة لتأثيرات النفط الجانبية على البناء الاجتماعي ، ظهرت فئات واسعة من السكان الذين خسروا مواقعهم التقليدية في المجتمع ، فيما تطورت في المقابل شرائح وفئات اجتماعية أخرى مثل العمال والطلاب ، التي منهم تكونت نواة الطبقة الوسطى الجديدة التي شكلت مع الفئة التجارية المصدر الأساس للمعارضة ، ثم ما لبثت أن تحولت إلى تيار ثوري شبه منظم هدد لأول مرة المصالح الأجنبية وأنظمة الحكم الوراثية المتحالفة مع الاستعمار بعد ظهور عبد الناصر على مسرح الكفاح السياسي والاجتماعي على الساحة العربية.
 لقيت شخصية عبد الناصر وأفكاره التحررية شعبية واسعة في الخليج العربي خاصة بين صفوف المثقفين والعمال والطلاب ، وأنتشر الفكر الناصري على نطاق واسع في أصقاع المنطقة كافة ، ذلك أن الناصرية كانت تعني لأبناء المنطقة حلم التخلص من الاستعمار البريطاني ، والقضاء على الاحتكارات الأجنبية ، وتحقيق المساواة والعدالة في توزيع الثروات ، والتخلص من الحكم القبلي الوراثي ، والبنى الاجتماعية التقليدية ، والتوجه إلى بناء الدولة الحديثة عن طريق المشاركة السياسية . من هنا وجدت تلك الفئات الاجتماعية في الفكر الناصري ما يعبر عن مصالحها وتطلعاتها السياسية وآمالها في الحرية والوحدة .
 لقد ساعدت على انتشار الفكر الناصري في الخليج العربي عوامل عدة ، تأتي في المقدمة منها أجهزة الأعلام الناصري ، ولاسيما إذاعة صوت العرب التي نشأت عن طريق برامجها الثورية التحريضية ، وتأسيس علاقة مباشرة بين عبد الناصر والجماهير الخليجية التي كانت تستجيب عفوياً للحوداث الجسام التي مرت بها مصر الناصرية في خضم صراعها مع الاستعمار والصهيونية مما سهل وصول صوت عبد الناصر إلى كل مناطق الخليج العربي ، حيث كانت خطب عبد الناصر تسمع وتتابع بانتباه وبلغت هذه المتابعة ذروتها عندما أمضت قضية السويس من التأميم إلى العدوان الثلاثي . كانت صوت العرب بغير تهوين أو تهويل قد أسهمت بشكل فاعل في تنمية الحس الوطني والقومي وفضح سياسة بريطانيا الاستعمارية في المنطقة 0
 ومن العوامل التي أسهمت أيضاً في إيصال الفكر الناصري إلى المنطقة ، البعثات المصرية من المدرسين والفنيين … فكان لوجود هؤلاء في مراكز مهمة دور كبير في نقل الأفكار القومية والخبرات السياسية . وقد أدت حركة القوميين العرب التي ما لبثت أن تحالفت مع الناصرية ، دوراً متميزاً في نشر الفكر الناصري في مختلف قطاعات المجتمع الخليجي التي أخذت تتابع باهتمام خطوات الثورة المصرية الناصرية في ميادين التنمية الاجتماعية والصناعية والاقتصادية والاستقلالية ، والتخلص من التبعية والانفتاح على كافة القوى العالمية .. مما أخذ المد الناصري الثوري يزداد تغلغلاً وتجذراً في الأوساط الشعبية الخليجية.
 ويمكن أن يستدل على مدى تأثير الفكر الناصري في تلك الفترة من خلال تزايد الأضرابات العمالية التي شهدتها منطقة الخليج في أوساط عمال النفط في عام 1955 ، وتزايد نشاط مختلف القوى السياسية في كل من الكويت والبحرين والسعودية ، وبداية الكفاح المسلح في عُمان ، والمسيرات الشعبية التي خرجت تضم العمال والطلاب وغيرهم من فئات المجتمع الخليجي لتعلن تأييدها لعبد الناصر تأميمه لقناة السويس وإعلان موقفه المعادي للإمبريالية والاستعمار . كل هذه الفعاليات السياسية التي أخذت شكل التصادم مع أنظمة الحكم المتحالفة مع السلطات البريطانية والأمريكية ، كانت ترفع الشعارات الناصرية نفسها ، مثل إلغاء القواعد العسكرية الأجنبية ، وطرد المستشارين الإنكليز ، والمطالبة بالحريات السياسية والحقوق النقابية ، وهي بذلك كانت مرتبطة عقائدياً بالناصرية سواء بشكل مباشر أم غير مباشر .
 وبذلك ، اكتسحت الخليج العربي موجة حماسية قومية عارمة ، وأصبح واضحاً للأغلبية الساحقة من الخليجيين الذين خبروا أكثر من غيرهم الاحتلال والتسلط البريطانيين ، ولأول مرة ، أن الخضوع للغرب لا يشكل قدراً لا يمكن تجنبه . وهكذا أسهم الفكر الناصري في أيقاظ الشعور الكامن بالتضامن القومي ، واسقط حاجز الخوف التقليدي من سلطة لا تمثلهم ، أما لأنها أجنبية أو لأنها متحالفة مع الاستعمار . ومرة أخرى ، أكد الفكر الناصري حضوره بقوة في نفوس جميع أبناء الخليج العربي ، وأن اختلفت أساليبهم وأمكاناتهم في التعبير عن الناصرية فكراً وقيادة . فما أن تأكد وقوع المؤامرة الثلاثية على مصر حتى انفجر الموقف في الخليج العربي بصورة خطيرة بلغت ذروتها مع بدء العدوان وبعده … فلم يتوقع الاستعماريون أن يكون بتلك القوة والحماسة ، فقد نددت الجماهير الخليجية بالاستعمار والصهيونية ، وخرجت كل القوى الوطنية ، خاصة في الكويت والبحرين والسعودية وقطر ، عن طاعة الدول الاستعمارية ، واستمرت الأضرابات الجماهيرية طوال أيام العدوان ، وتعرضت المصالح الغربية لأضرار بالغة . وتحت تلك الضغوط قطعت كل من السعودية والكويت تصدير النفط لكل من بريطانيا وفرنسا رداً على عدوانهما ، وكان ذلك أول موقف سياسي معلن تتخذه حكومتان خليجيتان نصرة لقضية عربية .
 شكلت معركة السويس نقطة تحول بارزة في تاريخ المنطقة ساعدت على تدفق تيار القومية العربية بقوة وانسابت رياح التغيير باتجاه الخليج العربي ، وتحول الفكر الناصري من تيار عفوي إلى فكر ثوري تحرري كون أساساً نظرياً سليماً وصلباً لمعركة تحرير الخليج بأكمله بعدما أصبح نضال باقي العرب من أجل الاستقلال والتحرر من السيطرة الأجنبية وتأميم الثروات ، مثار اهتمام أغلبية الوطنيين في الخليج العربي .
 لذا ، لاغرو في أن تقدم السلطات البريطانية بعد خروج الناصرية بانتصار السويس مباشرة على الإجهاز على كل القوى الوطنية الخليجية في محاولة منها للتصدي لامتداداتها في المنطقة ، وللحؤول دون قيام رأي عام ناصري ثوري يفتح لها العديد من الجبهات ، خاصة في مناطق أنتاج النفط ، وهي المناطق التي شددت عليها الحراسة وأقيمت حولها القواعد العسكرية .
  شهد عقد الستينات عدة تحولات سواء في الناصرية كمفهوم أو في علاقاتها بالخليج العربي . فقد نجح الفكر الناصري وأجهزة أعلامه في التهيئة النفسية لأبناء الخليج العربي من اجل النضال ضد القوى الاستعمارية والأنظمة الرجعية المتحالفة معه .. فأوجد حالة من الغليان الثوري في صفوف النخبة الخليجية عبرت عن نفسها في شكل تنظيمات شبه سياسية ونقابية ذات توجهات ومطالب قومية ارتبطت بشكل مباشر بالفكر الناصري – وأن غلب على سلوكها التذبذب الفكري والأسلوب العاطفي – وبأطروحاته التي كان يطرحها عبد الناصر من خلال خطاباته السياسية المتمحورة أساساً حول مجابهة الاستعمار ، والدعوة إلى القضاء على الحكومات الوراثية الرجعية التي تلعب بمقدرات الأمة . فلاغرو إذن أن أصبح الشارع الخليجي مع مرور الأيام أسيراً للتوجهات الناصرية ، حتى بعد وفاة عبد الناصر ، يمكننا أن نقتفي أثر فكره في منطقة الخليج العربي حيث نشطت فئات وطنية لإحياء تنظيمات سياسية تكون أهدافها مبادئ وأفكاراً ناصرية صرفة، وتسعى لتحقيق أهداف مرحلية وطنية ، وظهرت في أكثر أشكالها تنظيماً في ( التجمع الوطني ) في الكويت ، و( التجمع الناصري ) في البحرين  و( اتحاد شعب الجزيرة العربية ) في العربية السعودية .
 تألف الكتاب من مقدمة وأربعة فصول وخاتمة . عالج الفصل الأول الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة بشكل عام ، ثم أستعرض انعكاسات الحرب العالمية الثانية ونكبة عام 1948 ، وينتهي بمبحث حول نشأة الفكر الناصري وتطوره عبر الإنجازات الوطنية والقومية والذي تبلور شكله النهائي في ماعرف بالناصرية . واختص الفصل الثاني بدراسة تأثير الفكر الناصري على العربية السعودية على المستويين الرسمي والشعبي . وقد أفرد المؤلف مبحث مستقل لموضوع العلاقات بين مصر والسعودية ذلك أن تلك العلاقات قد أثرت في انسيابية الفكر الناصري إيجاباً وسلباً لافي السعودية فحسب وإنما في أنحاء الخليج العربي كافة . وعالج الفصل الثالث تغلغل الفكر الناصري في كل من الكويت والبحرين وقطر . أما الفصل الرابع والأخير فقد كرس لموضوع إمارات الساحل العماني وعُمان ، والكيفية التي تعاملت بها القيادة الناصرية في الستينات بعدما تدخلت عوامل خارجية بالتنسيق مع بريطانيا لتهديد عروبة الخليج ، وركز الفصل على الاهتمام المباشر للرئيس عبد الناصر بالمقاومة العمانية وبدعمها العسكري والسياسي في خضم التطورات التي مرت بها أبتدءاً من الإمامة وأنتهاءاً بالجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل .
 وأخيراً جاءت الاستنتاجات في خاتمة الكتاب ، وقد حاول المؤلف من خلال ما تم استعراضه في الفصول وعبر نظرة تحليلية تاريخية شمولية ، إبراز دور الفكر الناصري التحرري في استنهاض الحس الوطني والقومي لدى أبناء الخليج لتأدية دورهم في إضعاف الوجود البريطاني والنفوذ الأجنبي ، إلى جانب الدور المباشر من الرئيس جمال عبد الناصر ، ولقد توج ذلك كله بالانسحاب البريطاني من المنطقة .

• الكتاب :
نور الدين بن الحبيب حجلاوي – تأثير الفكر الناصري على الخليج العربي 1952-1971، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،  2003، 354 صفحة.