ينفرد الغناء العراقي عن غيره من الفنون التراثية العالمية بميزة فريدة تميّزه: الحزن. ليس حزنًا عابرًا أو طارئًا، بل حزنٌ ضاربٌ في أعماق التاريخ، متجذّر منذ البدايات الأولى لنشوء الحضارة في سومر وأكد. وقد أسهمت عوامل تاريخية، واجتماعية، وحتى سياسية، في تعميق هذه الظاهرة حتى أصبحت سمةً ملازمةً للأغنية العراقية، لا تفارقها حتى في لحظات الفرح والبهجة.
وربما يكون العراقي من بين القلائل في العالم ممن يأنسون بالحزن ويتلذذون به حتى الثمالة. فالحزن لديه ليس ضعفًا، بل حالة وجودية، ولغةٌ للتعبير عن الأمل المفقود، والحنين، والانتظار.
وتُعد الأطوار الريفية، التي نضجت في بيئة الجنوب العراقي، من أكثر أشكال الغناء اقترابًا من الحزن وعمقًا في التعبير عنه. فقد جاءت هذه الأطوار مُحمّلةً بمعاناة الفلاح، وصراعه مع الأرض، وعلاقته المعقدة بالإقطاعي، فكوّنت بذلك نصًا صوتيًا نابضًا، يُجسّد الألم والتمرد، الحب والخسارة، ويختزل وجدان الإنسان الجنوبي في ملامح صوتٍ واحد.
ومن بين الأصوات التي صاغت هذا الوجدان الريفي الحزين، يأتي صوت داخل حسن (1909–1985) كأيقونةٍ لا تُنسى. فـ”بُحّته” المشهورة لم تكن مجرد ظاهرة صوتية، بل حالة شعورية كاملة، رسمت بالألم ملامح الجنوب، ودوّنت حكايات الهور والقصب والحب العذري، وجعلت من الغناء مرآةً للمعاناة الإنسانية في أصدق صورها.
لقد استطاع داخل حسن بصوته وحده، لا بشهرته أو حضوره، أن يخترق المسافات ويطوي الأزمنة، ويحوّل تجربته الغنائية إلى لغةٍ سومريةٍ معاصرة. لغة تُفهم بالقلب، لا بالعقل، تتخطى الكلمات، وتلامس شيئًا دفينًا في روح المستمع.
ولعل المشهد في مدينة مالمو السويدية يُعبّر عن ذلك بأبهى صورة. تلك المدينة الباردة، التي لم تعرف داخل حسن، ولم تمرّ شمس تموز اللاهبة على وجوه نسائها الشقراوات، توقّفت فجأة. أُصيبت حركة المترو بالشلل، وخفّ ضجيج الشوارع، حين صدحت “بُحّة” داخل حسن من جهاز تسجيل يحمله مغترب.
لقد كانت الصدمة أكبر من أن تُفسَّر. دموع انهمرت من عيون عجائز الفايكنج، وقف الجميع مدهوشًا أمام هذا الصوت الغريب، القادم من بلاد لا يعرفونها، لكنه استوطن قلوبهم فجأة، كأنه يعبّر عن شيءٍ فقدوه هم أيضًا.
“ذهب الشباب، فما له من عودة”… بيتٌ غنائيٌّ واحد كان كفيلًا بإيقاظ وجعٍ قديم، وبعث ذاكرة إنسانية مشتركة، قوامها الفقد والرحيل والذكريات التي لا تعود.
هكذا، وبدون ضجيج، استطاع ذلك الصوت الجنوبي أن يخلق ملحمةً وجدانيةً جديدة، جمعت ما بين صقيع الشمال وحرارة الجنوب، وجعلت من الغناء العراقي سفيرًا للحزن الإنساني في أنقى صوره.