18 ديسمبر، 2024 9:02 م

بَعيداً عن الهَمْس

بَعيداً عن الهَمْس

(وقفة مع كتاب)
صراع العقل، بهذا العنوان لكتابه يكون جميل اﻷنصاري قد لفت إنتباه القارئ ومن أول وهلة، الى أن هناك أمرا مضمرا ستنجلي صورته مع مضي المتلقي في الغوص فيما ذهب اليه الكاتب. ومن العنوان أيضاً ربما سنخرج بخلاصة مفادها، بأن هناك صراعا، ستتضح صورته بشكل جلي، طرفاه، ضفتين متباعدتين، متعارضتين، ومن الصعوبة بمكان أن يلتقيا أو يشغلا في لحظة بعينها أرضا محايدة، فلكل منهما أفكاره وخلفياته ومبررات وجوده، كذلك قناعاته وما يؤمن به. وقد يبلغا حداً من التمترس والثبات على المواقف، بما لا يدع مجالا لثني أحدهما، ففي ذلك ما يعدانه تراجعا عمّا جُبلا عليه إن لم يعدّانه تنازلا. وللتذكير فإننا نتحدث هنا عن طبيعة الصراع الفكري الدائر في دولنا وما حمله من تعصب، والذي بلغ أشدّهُ في بعض المراحل، وأغلقت المنافذ الموصلة بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية.
ومما يعزز الرأي اﻵنف، ما ذهب اليه مصمم الغلاف الخارجي، حيث تظهر خلايا دماغ الإنسان، وقد إنقسمت الى نصفين متساويين في الحجم. اﻷول تتنازعه أديان وأديولوجيات ونظم سياسية، متنوعة ومتعارضة فيما بينها. وإذا ما شيء لها وتحت ظروف معينة أن تلتقي إضطرارا في بعض من المحطات، فهو أمر نادر الحدوث إن لم يكن مستحيلا. والنصف اﻵخر منه (الدماغ) يبدوصافيا، نقيا من كل شائبة، ربما أراد الكاتب إظهاره على هذا النحو ليوصل رسالة تقول: أن لا مناص من أن يُعْملُُ المرء عقله، بروية وإسترخاء، ومن دون إنحيازات مسبقة أو ضغوط من هذا الطرف أو ذاك. أو أنه يعكس وينم عن طريقة تفكير الكاتب نفسه وما يحمله من تناقضات كان مصدرها البيئة المحيطة به وما لها من تأثير وقوة حضور وإقناع، تنازعتها بعض الإديولوجيات التي سبق لها أن مرَّت بذاكرة الكاتب وأشغلته ردحا من الزمن. وكي لا نصادر ما ينتوياه، فالقول الفصل في هذا، يتقاسماه الكاتب ومصمم الغلاف معاً.
على الصفحة اﻷولى وفي مستهل الكتاب ستأتيك البسملة، وهذا ﻷمر متعارف عليه في بلادنا، وقد ينوي الكاتب بهكذا فاتحة، الإستبشار والتبرك بصاحب المُلك، على وفق قناعاته وإنطلاقا منها. لكنها في ذات الوقت ستفتح لنا نحن القراء بابا، يدعونا للعودة الى بدايات تشكل رؤى الكاتب وكيفية قراءة ما يحيط به وصولا الى ما أرتآه خياراً، وليس مهما هنا أن نتفق أو نختلف معه.
وإذا شئنا الحكم على طبيعة الكتاب وعلى أي خانة يُحسب، فيمكننا القول بأنه ينتمي الى ما مكن وصفه بأدب السيرة. فمنذ السطور اﻷولى، يأخذ بيدنا الكاتب ليدلنا على ما مرَّت به عائلته وأباه بشكل خاص من صعوبات، إذ (بدأت معاناة الوالد منذ طفولته حيث أضطهٍدَ من زوج جدتي)ص9. غيرأنه والحديث هنا عن الوالد فقد كان عصاميا، فتجده وقد إختط له بعض المهن ومنها الحلاقة والتي إستقر عليها وتحولت فيما بعد الى لقب ستفخر به العائلة وتتشرف بهكذا نسب. في ذات الوقت لم تغب عن عين الوالد ما كان مصمما عليه وفي رغبته والتي كان كثيرا ما يرددها: أريد أن أنشئ مملكة من المثقفين. وفعلا تحقق له حلمه.
لطالما دخل الكاتب في الحديث عن عائلته، فهو لم يغفل التوقف وبصفحات من نور على سيرة والدته أيضا، حيث لاقت هي اﻷخرى من المصاعب ما تشيب له الولدان، أسوة بغالبية اﻷمهات العراقيات اللائي لاقين من اﻷسى وقساوة الظروف ما يصعب التوقف عنده والتذكير به لما يحمله من عسف وأوجاع. فرغم طيبتها وصبرها وجلدها على النائبات التي مرَّت بها العائلة فقد(كان والدي يعاملها بقسوة في بعض اﻷحيان)ص11.
وإستكمالا لما لاقته هذه السيدة الفاضلة من متاعب، فقد كان لإنتماء ولدها الى إحدى التنظيمات اليسارية، ما شكَّل له صدى سلبيا لدى دوائر أمن الدولة، فراحت عناصرها في البحث عنه، بغية إلقاء القبض عليه وتحت طائلة تُهَمٍ ، تتعلق بميوله السياسية، والتي كانت آنذاك تُعَدٌ من الكبائر وتشكل تحديا لسطوتها وتسلطها. وعن هذا اﻷمر فقد جرى إعتقال الوالدة وإقتيادها الى دائرة أمن مدينته، كربلاء، وكان سؤالهم الوحيد عن ولدها الذي بات يقلقهم.
وفي ذات السياق وعلى نحو أكثر وجعا فقد تمَّ تغييب أخويه إبراهيم ومهدي، ولم يعد لهم من أثرٍ يُذكر، وهذا ما جرى التأكد منه فيما بعد وجرى تسريب الخبر من قبل إحدى الشخصيات النافذة في العراق والتي لها صلة وثيقة بأصحاب القرار. وخلاصة اﻷمر فقد تم تصفية شقيقيه، ولم يعد لهما من أثر يُذكر في سجلات اﻷمن والدوائر المختصة. خبر كهذا كان له أثرا موجعا لدى أفراد العائلة وكانت ضحيته اﻷولى والدة الكاتب، إذ وافاها اﻷجل كمدا وحزنا.
لم يفت الكاتب وفي صفحات لاحقة من الإشارة الى أن هناك ومن داخل أجهزة الحكم، سواء على المستوى الرسمي أو اﻷمني بشكل خاص، َمَنْ كان متعاطفا مع المعارضين، وقد تقف خلف ذلك دوافع إنسانية، أو أنَّ هناك ما يشبه الرفض لسياسات الحزب الحاكم ولكن بشكل غير مباشر، تجلَّت صوره في حالات التضامن مع المعارضين ولكن بحذر شديد، مخافة تداعيات اﻷمر وإنسحابه عليهم سلبا. وعن هذا اﻷمر فقد كان للكاتب أكثر من وقفة وتعبير، كان قد جاء على ذكرها في ثنايا الكتاب.
وعن الشأن اﻵنف، سيتوقف الكاتب وعلى الصفحة 29 مثلا، ليورد نصا، جاء على الشكل التالي: هناك كثيرا من المنتسبين الى حزب البعث عندهم الطيبة والإخلاص للوطن ولم يتفقوا مع كثير من توجهات السلطة. ثم يستمر الكاتب وفي ذات السياق ليأتي على مثال آخر أو حالة أخرى، إذ يشير وعلى الصفحة 51: كنت أنا مضطهدا سياسيا، لكن علاقاتي جيدة مع الكثير من اﻷصدقاء البعثيين الذين كانت السلطة بيدهم هي حماية لي من الإعتقال في كثير من اﻷحيان. لم يكتفِ الكاتب بهذا القدر من الإستشهادات بل سيتوقف عندما روته له شقيقته، حين زارهم أحدهم وهو حامل معه رسالة من شقيقها مهدي، الذيكان يقضي حكما في نگرة السلمان قبل تصفيته، ليبلغها بأنَّ شقيقها بخير. وعندما سألته مَنْ تكون؟ إكتفى بالرد: أنا حارس هناك ولا تسأليني أكثر خوفا من إعدامي.
في كتابه أيضا ستتضح بعض معالم التراجع والتردد وجنوحه الى إعادة النظر في مواقفه من اﻷحداث وقراءتها بالتالي على نحو مختلف، وإنعكاس كل ذلك على تصورات الكاتب وما سيخرج به من إستنتاجاءات، ستتقاطع مع ما كان يفكر به وما يتمناه. فمثلا سيعلن الكاتب وعلى الصفحة 14 عن ندمه وتراجعه وبتعابير صريحة عما كان يحمله سابقا من مفاهيم وآراء، بعد أن جرى ذلك الحدث التأريخي، والذي أدى الى تغيير جوهري في طبيعة نظام الحكم، إثر قيام ما سمّي بثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 وما تبع ذلك من إسقاط للنظام الملك. معزيا تراجعه أو موقفه هذا وعلى حد تعبيره(كنت لا أفقه كثيرا بالسياسة حيث كنا صغارا فرحين بذلك ونردد ما يقولون، ولكن عندما كبرنا عرفنا بأن ذلك كان وبالا على العراق وشعبه).
وإرتباطا بما ذُكِرَ فستتولد عنده ما يمكن أن نطلق عليه بسياسة إعادة النظر في بعض المواقف والتي يدخل قسما منها ونظرا ﻷهميتها القصوى في عداد القضايا المصيرية. فالكاتب وبعد خوضه صراعا مع الذات ومروره بعديد التجارب، إختار له وفي مطلع حياته السياسية اليسار جبهة للإنتماء، غير أنه ورغم قطعه شوطا لا بأس به وقضى من عمره عقودا من السنين مع هذا التنظيم، بات الرجل يكتشف العديد من اﻷمور التي ستقضي على حلمه.
فبسبب تنقلاته المستمرة كغيره من الذين طاردتهم قوى السلطة الحاكمة وإضطراره التغرب مرغما عن وطنه، اثر الحملة القمعية التي شنها النظام الحاكم أواخر السبعينات، كان قد تعرَّفَ على الكثير من القضايا التي كانت خافية عليه وعلى غيره من المنتمين الى ذات الحزب. فعن ذلك يحدثنا الكاتب عن مدى صدمته مما يجري، وأنَّ لديه (شكوك حول أحد أعضاء تنظيمنا بالإمارات أن له علاقة مع المخابرات العراقية)ص67، وعن ذلك فقد قام بإبلاغ مسؤوله في التنظيم الاّ انه لم يلقَ أذنا صاغية.
وفي ذات الدولة التي عاش فيها الكاتب ردحا من الزمن ويقصد هنا الإمارات العربية، يَرِدُ على لسان الكاتب وعلى الصفحة 74، بأن (أحد القياديين في التنظيم يعمل لصالح المخابرات العراقية، وكان عضوا في اللجنة المركزية للتنظيم). على أثر ذلك وﻷنه لم يتلقَ الإستجابة الكافية، فقد وجد نفسه مضطرا على مغادرة محل إقامته بعد تقديمه الإستقالة من العمل، ليتوجه الى دمشق كخيار أفضل له ولعائلته.
في الشام تكررت ذات الشكوك وأخذ الإرتياب من الكاتب مأخذا، وسيتكرر أيضا ذات المشهد الذي كان قد واجهه يوم إقامته في دولة الإمارات، حيث سيلتقي ومن مساوئ اﻷقدار ذات (الشخص القيادي في التنظيم والذي يتعاون مع المخابرات العراقية في دمشق أيضاً، وكانت علاقته مع مسؤول التنظيم المركزي قوية جدا واحيانا يملي عليه ما يريد)ص79.
إجمالا وإذا شئنا إلقاء الضوء وإبداء الرأي على أمر كالذي جاء على لسان الكاتب، وأعني به هنا ما طال البعض من قيادي الحزب الذي يتحدث عنه وما حام حولهم من إتهامات وشكوك وشبهات، كانت قد حامت على بعض منهم، وجرى تداولها ومن قبل أوساط وجهات ليست بالقليلة ولا يستهان بها وبمصداقيتها. وربما جاء البعض منها بغير حساب، وﻷغراض وأهداف لا تمت للحقيقة بصلة. وﻷجل معالجتها على نحو منصف، كان ينبغي على التنظيم السياسي المعني أخذ زمام اﻷمر بيديه والتحقق من هذه الحالة أي التهم، ويجري توكيل اﻷمر وإحالته الى أيادٍ نزيهة وعادلة لتصدر حكمها النهائي ومن دون محاباة أو مجاملة لطرف على حساب آخر، بعد أن تدعم رأيها بالدلائل والقرائن المطلوبة، معززة بشهادات موثقة، بدل أن تلقى التهم على قارعة الطريق، ويشتغل عليها البعض، ويلتقطها مَنْ يشاء بغير حساب ويخفيها مَنْ يشاء ولإعتبارات لا تمت للنزاهة بصلة. فالقصة بالمجمل تتعلق بمصائر بشر، وبمبادئ كبيرة، عظيمة، حملتها على أكتافها أجيال وأجيال، وراح ضحيتها اﻵﻻف، إبتغاءاً لأحلامهم السامية والنبيلة.
وللأسباب التي جئنا على ذكرها والمتعلقة بالإندساسات والإختراقات التي طالت تلك الجهة السياسية ومن قبل أجهزة النظام الحاكم في العراق، فقد قرر الكاتب الإبتعاد وإنهاء الصلة بالتنظيم الذي كان قد إنتمى اليه منذ بواكير عمره اﻷولى. في ذات الوقت فقد بدأت تتبلور لديه فكرة جديدة مفادها: النقطة اﻷساسية التي أخذت أفكر بجدواها وهي أن الذي يكون وطنيا هو من يخدم بلده بإخلاص في العمل وفي مجال إختصاصه هو ليس من خلال التنظيم وإن الوطن يحتاج هؤلاء أحياء وليس شهداء،ص80.
في خاتمة المقال وبصرف النظر عن الإتفاق أو الإختلاف مع وجهة نظر الكاتب فيما ذهب إليه، وإذا كان لنا من رأي عن هذا الموضوع، فالكاتب له ما له وعليه ما عليه. ومن نافل القول فإن حرية إبداء الرأي مكفولة لكل اﻷطراف، إن كان مواليا أو معارضا، وأيضا لكل من يبحث عن الحقيقة.