23 ديسمبر، 2024 10:04 ص

بين مسطر المهندسين ، وثراء الأطباء !

بين مسطر المهندسين ، وثراء الأطباء !

يدين معظم التطوّر الهائل للطب إلى التكنولوجيا الحديثة وأجهزتها التي سُخّرت لخدمة هذا العلم الأنساني ، كالمفراس ، والسونار والإيكو ، واجهزة الرنين (Magnetic Resonance Image, MRA) ، وقبلها الأشعة السينية (X Ray) ، وروبوتات العمليات الدقيقة وأجهزة الديلزة (غسل الكلى Kidney Dialysis ) ، وأجهزة القلب المفتوح والمباضع التي تعمل بالناظور ، ثم تقنيات الليزر التي لا تُعد ولا تُحصى ، ولا يمكن الإستغناء عن أجهزة تخطيط القلب ( Electro Cardiac Graph ,ECG) ، وتخطيط الدماغ ( Electro Encephalon Graph ,EEG)) وغيرها من المجالات ، ولنا أن نتصور كيف سيكون الطب بغياب هذه التقنيات التي أوجدتها العقول الهندسية الراقية ، وبالذات هندسة الكهرباء ومن فروعها الإلكترونيات والهندسة الميكانيكية ، ورغم كل ذلك فالطب لا يزال غير قادر على شفاء 60% من الأمراض المزمنة حسبما أفضى بذلك صديقي الطبيب البارع .

فضل العلوم الهندسية ليست خافية على أحد ، إنها تمثل التطوّر المنظور للبشرية ، مهمتها صنع الجمال ، والقيام بكل ما يخدم الإنسان وتسهيل حياته ، لقد قرّبت البعيد ، وأقامت الصروح التي تتباهى بها الأمم ، لكن للأسف لم نكن إحدى هذه الأمم !.

فما يحدث في هذا البلد ، أن غالبية الأطباء (لا أقصد جميعهم) قد حولوا هذه المهنة الراقية إلى تجارة مربحة لآلام الفقراء ، وأكرر لا أقصد بذلك الجميع لكن الغالبية ، وأن المواطن قد يدفعه اليأس من العلاج وألم المرض وأجور العلاج الباهضة ، أن يلجأ للهند وهو يبدد (تحويشة العمر) ، لكنها – أي الهند ، تحوّلت هي الأخرى إلى مقبرة للمرضى العراقيين ! ، إذ يبدو أن تجارة الطب قد وصلت للهند أيضا ! .

آلام الظهر من الأمراض المتفشية عند العراقيين ، بسبب العمل الشاق والعقيم ، وبسبب حملهم لأثقال الحياة التي لا تطاق ، تلك التي تسببت بها الأحزاب الكثيرة التي دمّرت كواهلنا وهشمت أعمدتنا الفقرية ! ، فيضطر المريض أن يراجع (طبيبا مشهورا) في مجال أمراض المفاصل ، وعليه أن يتحمل عجرفة ذلك الطبيب ونفقاته العالية ، لأجراء عملية تنتهي في أغلب الأحيان إلى الفشل ! ، عملية بنفقات لا تقل عن 3000 دولار ، مدّتها ساعة واحدة فقط ، ولكم أن تتصوروا العائد الهائل لهذا الطبيب من جدوله الحافل يوميا ! .

أطباء العيون يتقاضون مبلغ مليون دينار عن كل عملية سحب للماء الأبيض من العين ، وأحدهم يجري ما لا يقل عن 8 عمليات في اليوم الواحد ، وبالمناسبة فالعراقيون بالذات أيضا ، أصحاب الرقم القياسي العالمي في الإصابة بهذا المرض أيضا ، كذلك التفشي المُلفت لمرض الفشل الكلوي وأمراض القولون ، لكن لم يكلّف أحد نفسه بإجراء دراسة عن مسببات هذه الأمراض ، لأن الجهد الطبي كله منصبّا على جمع المال ، والمال فقط ، وفرغت تماما من محتواها الإنساني ، وما يتقاضاه المهندس في ميدان عمله (إن وجد) لشهر كامل وهو يتعرض لعوامل الجو من برد وحر وخطورة ومسؤولية وإلتزام ، يتقاضاه الطبيب ربما في غضون ساعة واحدة ! ، حقا إن خيبات الأمل الموجعة كثيرة تلك التي إعترتنا ونحن نرى تعب سنوات الدراسة ، وشهادة لا تخرج عن إطارها المُعلّق في البيت .

لماذا يكون سعر حشوة جذر الأسنان أكثر من 300 ألف دينار للضرس الواحد ؟ ، وسيقول لك الطبيب – التاجر ، أن الحشوة أصلية ، ونحن نعلم إنها حتى لو كانت من الذهب الخالص ، لن تصل لرُبع هذا المبلغ ! ، أما زراعة أطقم الأسنان ، فحدّث ولا حرج بنفقاتها الخيالية ، لذلك أضطر دوما إلى قلع الضرس وإتقاء شر ألمه أفضل لي “ماليا” من تزيينه ! ، ولا أستثني مهنة (الصيدلة) من الإثراء على حساب آلام الناس وأوجاعهم ، فنسمع مرارا عن قيام الجهات الرسمية الصحية بإتلاف أطنان من الأدوية المغشوشة ، وهو غيض من فيض الأدوية الفاسدة التي تعرف طريقها إلى أجواف المرضى الفقراء ! . هذا لأن الأطباء يعلمون ، أن طالما وُجِدَ الإنسان ، وجِدَت الأمراض ، إنها مسألة ألم ومعاناة وحياة وموت للمريض ، فلا يمكن لهذه “التجارة” أن تبور ، بل على العكس ، ستزدهر كلما زاد التخلف والإهمال والتلوث البيئي والفقر كحال بلدنا ، لكنها لن تكون بالطبع تلك البيئة التي تنتعش فيها الكفاءات الهندسية !.

تعيين الطبيب مضمون ضمن لائحة التعيين المركزي ، لكن ليس كذلك للمهندس ، هكذا يرسل الأثرياء أبنائهم لكليات الطب والصيدلة الأهلية التي فاقت أعداد النمل ، وبأقساط باهضة جدا ، وصاروا يعزفون عن إرسال أولادهم إلى الكليات الهندسية لأن (ما بيها خبزة) ! ، إنعكس ذلك حتى على معدلات السادس العلمي ، فبعد أن كانت الكليات الهندسية لا تقبل بمعدل أقل من 90% ، صارت هذه السنة تقبل بمعدل 85% ، أما الكليات الطبية فالمعدل يجب أن لا يقل عن 98% .

حيثما توفّرت فرص التنمية والبحث والتطوير والبناء ، إزدهرت المهن الهندسية ، فكيف إن غابت هذه الفرص إلى درجة الإنقراض في البلد ؟ ، بالتأكيد سترمي المهندسين على هامش لا يمكن معه العيش ، وأنا أرى الكثير من زملائي المهندسين القدامى ، ومن الخريجين الجدد ، يبيعون الشاي في (الترافك لايت) ، أو العمل كحمّال ، أو الوقوف في مسطر ، أو يبيع الكتب في شارع المتنبي أو غالبا ، العمل كسائق تاكسي في أحسن الأحوال ، وهو يلعن حظه الذي ساقه إلى كلية هندسية ، ومعظمهم ممن تجاوز الثلاثين من العمر دون أن يفكر بالزواج ، والمحظوظ منّا قد يجد عملا في شركة أهلية لوقت محدود حتما ، حتى لو وصل إلى درجة مهندس إستشاري فإن يوميته تقل عن يومية (خَلفة) بناء !.

على الدولة التدخّل (ولا حياة لمن تنادي) ، والعمل على تقليل الهوّة الهائلة بين الشريحتين ، مثلما عليها التدخل في تشجيع المنتوج الوطني وإحياء القطاع الصناعي الخاص بعد موت طويل ! ، فالمشكلة في الكليات الهندسية ، إنها من أصعب العلوم على الأطلاق ، ففيها الرياضيات العالية والفيزياء التطبيقية بكل فلسفاتها وفروعها ونظرياتها بإعتبارها الأم الشرعية لجميع العلوم الهندسية ، لهذا يحصل المهندس على دبلوم رياضيات بالإضافة إلى بكلوريوس الهندسة بعد تخرجه ، أما الهندسة الكهربائية (التي درستها) ، فهي أصعب الفروع العلمية ، ذلك إننا لا ندرس الماديات الملموسة بقدر غوصنا داخل الذرّة ، ثم دراسة خواص الجسيمات تحت الذرية (Subatomic Particles) ، والتي أوجدتها النظريات فقط ، ونحن (مهندسو الكهرباء) الأقل حظا في ممارسة إختصاصاتنا بالمقارنة بالفروع الهندسية الأخرى كالمدني والمعماري وحتى الميكانيك – القليلو الحظ بدورهم أيضا ، بل يكفي أن تنظر أخي القارئ إلى “إنجازات” وزارة الكهرباء وستفهم ، لكننا بدورنا لا نفهم (كأختصاصيين) سبب الإصرار على الفشل ، على الرغم من أن الهندسة لا تعرف المستحيل ، حسبما لقننا أساتذتنا ، وهم على حق ، لكن الخلل في بلد لا يعرف الحق ! ، والغريب أن لدينا نقابة أسمها نقابة المهندسين ، لا نعرف ما هي واجباتها التي ربما لا تساوي قطعة الأرض الكائنة في مدينة المنصور ، والتي لا نراجعها إلا عندما يحين موعد دفع جباية تجديد هوية نقابة المهندسين ! ، حقا إذا أردت أن تقيس مدى فشل دولة ما ، فأنظر إلى الفارق بين شريحتي الأطباء والمهندسون ، فكيف إن كان الفارق فاحشا ؟!.