18 ديسمبر، 2024 7:54 م

ما أن تطأ قدماك مخفراً حدودياً لبلد مجاور حتى تشعر بالفرق الواسع بين بوابتين يفترض أن بإمكانهما أن تعطياك لمحة بسيطة عما واجهتَه في وطن غادرتَه للتوّ، وما ستراه في بلد تزمع الدخول إليه..  منذ البدء سترى وتلمس وتشم الفرق بين المخفرين المتلاصقين الملتحمين اللذين لا يفصل بينهما أكثر من خطوة واحدة فقط. شبر واحد يشعرك بأنك عشتَ عارياً إلا من الأسمال البالية، وأن حياتك، في وطن عشقته وأفنيتَ عمرك كدحاً لأجله، لم تكن إلا سلسلة من (البواري) التي ملأت يافوخك بالجروح وعقلك بالدمامل وشوّهت فيك الإنسان.. منذ الخطوة الأولى تتيقن، بما لا يقبل الدحض أو الشك، خواء السنوات التي عشتها محروماً مهاناً ذليلاً تتناوشك حكومات لا ترى فيك غير مشروع “استشهاد” يحمي كراسيها وشهواتها ومغامراتها.. حكومات أقصى ما تقدمه، منّةً وفضلاً، السماح لك ـ أحياناً ـ أن تتنفس وتتناسل وتنجب مسامير شابة يثبتون بها كراسيهم النخرة!!
بين فوضى وقذارة وخراب وقبح وبرد مخفر الوطن ونظام ونظافة وبهاء وحسن ودفء جاره، تدفعك رغبة شديدة بالنكوص والإياب كعاشق يخشى أن يرفع بصره عن وجه محبوبة ظنّها غادة حسناء، لئلا يكتشف جمال ورشاقة وتألق الأخريات، أو مثل أميٍّ يرعبه أن يتعلم كيف يقرأ كتاباً، إشفاقاً من إدراك ظلمةِ جهلِه.. بين المخفرين يغدو ختم المرور على وثيقة السفر حداً فاصلاً ونهائياً بين نعيم الجهل وعذاب المعرفة. ويصبح التمسّك بعشق الوطن إمساكاً بجمرة مشتعلة تخشى أن ترميها فتخسر عمراً لن تشرق من سنواته بعدد الآفلات، وإن أبقيتها كنت (جبر) هذا الزمان شهاباً عابراً بين صرخة الولادة وسكرة الموت!!
وإذ تعود ـ طائعاً مختاراً ـ إلى مخفر الوطن بعد رحلة، مهما قصرت، فإنك تشعرُ بغيابك طويلاً عنه.. يجذبك المخفر إليه كفراشة تتنازعها الزهور والنار فتذهب إلى ما يحرق أجنحتها.. تقفل عائداً على أمل الحلم الأقصى: أن تموت في وطن لم تجد فيه متسعاً للحياة!! 
[email protected]