بين لاهوت التحرير ولاهوت الطاعة

بين لاهوت التحرير ولاهوت الطاعة

ليس كل حضور للدين في المجال العام يفضي إلى القمع. فالدين يمكن أن يتحول أيضًا إلى قوة مقاومة، وإلى مصدر إلهام للتحرر من الاستبداد. لكن المسألة تتعلق بكيفية قراءة النصوص، وبالبنية التاريخية والاجتماعية التي تحدد وظيفة الدين: هل يكون أداة لتحرير الإنسان، أم لتقييده؟

أ‌. لاهوت التحرير: الدين كقوة مقاومة

في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، شهدت أمريكا اللاتينية بروز ما عُرف بـ”لاهوت التحرير”، وهو تيار مسيحي جديد قاده لاهوتيون مثل غوستافو غوتييريز (بيرو)، وكاميلو توريس (كولومبيا)، وليوناردو بوف (البرازيل).

هذا التيار انطلق من فكرة أن الإنجيل لا يمكن أن يُقرأ بمعزل عن واقع الفقر والظلم، وأن “ملكوت الله” ليس وعدًا مؤجلًا في السماء، بل مشروع عدالة على الأرض. لذلك، تبنى لاهوت التحرير موقفًا صريحًا إلى جانب الفقراء والمهمشين، وجعل من الدين لغة مقاومة ضد الديكتاتوريات العسكرية والرأسمالية المتوحشة.

الدين هنا لم يكن أداة قمع، بل أداة تحرر. الكنيسة لم تكن ذراعًا للسلطة، بل ملجأً للمضطهدين. النصوص لم تُقرأ لتكريس الطاعة، بل لإعلان الثورة: “طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ”.

ب‌. لاهوت الطاعة: الدين كأداة انضباط

في المقابل، ظلّ حضور الدين في العالم الإسلامي (في أغلب تجلياته السياسية) أقرب إلى “لاهوت الطاعة” منه إلى “لاهوت التحرير”. منذ العصور الأولى، جرى توظيف النصوص لإنتاج خطاب الطاعة والخضوع: “من خرج على إمامه فمات، مات ميتة جاهلية”، “اسمعوا وأطيعوا وإن ضرب ظهركم وأخذ مالكم”.

هذه النصوص، بغضّ النظر عن سياقاتها التاريخية وتأويلاتها، استُخدمت لتكريس مبدأ الانضباط بدل مقاومة الظلم. فبينما كان الدين في أمريكا اللاتينية يُقرأ كنداء للثورة على الطغيان، كان في العالم الإسلامي يُقرأ ـ في كثير من الأحيان ـ كأداة لمنع أي خروج على الحاكم.

ج. لماذا أنتجت المسيحية لاهوت التحرير والإسلام لاهوت الطاعة؟

السؤال المحوري هنا: ما الذي جعل المسيحية الحديثة قادرة على إنتاج “لاهوت التحرير”، بينما ظلّ الإسلام السياسي في معظمه يكرر “لاهوت الطاعة”؟.يمكن الإشارة إلى عدة أسباب:

1. البنية المؤسسية: الكنيسة في أمريكا اللاتينية كانت مؤسسة قائمة بذاتها، لها استقلال نسبي عن الدولة، مما أتاح لها تبنّي خطاب مقاوم. بينما في التاريخ الإسلامي، غالبًا ما جرى إدماج الفقهاء في جهاز الدولة (القضاء، الإفتاء، الحسبة)، ففقدوا استقلالهم.
2. طبيعة النصوص والتأويل: النص المسيحي (خصوصًا الأناجيل) يركّز على البُعد الأخلاقي والاجتماعي، ما يترك مجالًا واسعًا للتأويل التحرري. أما النص الإسلامي، فبما أنه احتوى أيضًا على أحكام سياسية وفقهية، فقد أُعيد تأويلها تاريخيًا بما يخدم الاستقرار السلطوي.
3. التجربة التاريخية: المسيحية الأوروبية عاشت صراعًا طويلًا مع الدولة (خصوصًا بعد عصر الإصلاح الديني)، ما جعلها قادرة على تطوير خطاب نقدي تجاه السلطة. في حين أن الإسلام المبكر نشأ متداخلًا مع تجربة الدولة، فصار من الصعب الفصل بين “الديني” و”السياسي”.

د. المفارقة الكبرى

هكذا نجد أنفسنا أمام مفارقة عميقة: في أمريكا اللاتينية، الدين كان درعًا للفقراء وسيفًا ضد الطغاة، وفي العالم الإسلامي، غالبًا ما كان الدين درعًا للحكام وسيفًا ضد المعارضين. لكن هذه المفارقة لا تعني أن النص الإسلامي مغلق على الأبد، بل أن تأويله جرى في إطار بنية تاريخية سلطوية. ولو أتيح له فضاء حر ومستقل، لكان قادرًا على إنتاج “لاهوت تحرير” إسلامي، كما حاول بعض المفكرين المعاصرين مثل علي شريعتي، وعبد الكريم سروش، ومحمد مهدي شمس الدين، وغيرهم ممن سعوا إلى قراءة الدين كقوة تحرر لا كأداة استعباد.