المطر بعض هويتها ..
والبقية .. تقتسمها الأضوية المترامية على العشاق وهم يذرعون المنعطفات المغسولة بالمطر .. متدثرة بعناق الأصابع على جانبي شارع الحمراء الضاج بالعشاق والمجانين والحكماء .. ورائحة القهوة التي تداهمك في طريقك لفرد أوراقك وإراقة حبرك .. بين مقهى .. وآخر ..
ينتصب النادل بابتسامته المعدنية وهو يناولني قدح القهوة التي ضاقت بها الفناجين فراحت تنسكب في أقداح بيض ..
– بدك شي تاني مدام ؟
– شكرا
ويغيب كلانا في مرارة الآخر ..
الذاكرة لغم موقوت لانملك توقيت تشظيه .. لذا .. أشارك المطر التصاقه بزجاج المقاهي لأجده يسيل عن وجهي … مياها مالحة مافتئت تتفجر ينابيعا .. من حنين وذكرى ..
المطر دافئ .. يصر على انزلاقه على نوافذ الليل .. كما يصر قلبي على الانزلاق عن نافذة التذكر وهو يرقبني مزروعة في خضرة تلك الحديقة البعيدة ..
أمام قدح شاي حقيقي .. اشربه بنهم رغم معرفتي الباردة به..
مثل ناسكة.. أرقب تلك الخطوات الوئيدة .. يجلس أمامي ب(دشداشته البيضاء ) وعينيه الصغيرتين تختبئان خلف نظارته .. وصوته الهادئ الحكيم يرحب بي ..
نتجاذب وجع المدينة وخيبتها ..
وأتذكر ما كتبه يوما عنها (تكريت هامشا .. تكريت متنا )
كنت أريد أن أقول له إن العنوان أوسع مما كتبه .. فهو . يصلح لأن يكون فصلا في رواية أو رواية قائمة بحد وجعها .. أو ..
لكني لم أفعل ..
نتبادل أنخاب خيبتنا
بكل الذين يرتدون أحذية أكبر من رؤوسهم ..
ونستشعر صدقنا ببهاء فريد.. وسط دوامة الزيف ..
(ياله من شاي ) !
أهتف ..
فيغدق علي ذلك الفرح الطفولي بقدح آخر ..
يهب علينا نسيم ناعم .. يأخذ معه أسئلتي الحائرة التي أرميها في حضرته ..
ليحيلها الى أجوبة بيضاء ..
استرد يقيني .. برائحة الحبر ..
وانتشي برأيه فيما اكتب .. إذ يحدث ان يجتمع العالم في كائن ما .. تكتشف ولو بعد حين انك لم تكن تكتب إلا ليقرأ .. ولم تكن تتحدث الا ليسمع ..
المطر الجميل يصر على الانزلاق أمامي وهو يرسم تعرجات تشبه أناقة البيروتيات .. المصرات على الجمال في كل حين ..
ينسكب إليّ الدفء من عاشقين يختبئان في أحضان بعضهما ..
فنجان القهوة يبرد قبل ان أكمله لكني أكمل ارتشافه ببطء ..
لايشبه مطلقا ذلك النهم الذي تناولت به قدح الشاي المقدس (كما يحب ان يسميه )
في حضرته .. كان الوقت يتآمر معي لأجلي حين تأخر الأصدقاء عن الحضور ..
لأحظى بعزفه المنفرد .. وهو يؤول لي .. اختلاف الأصوات وينزع الأقنعة عن الممثلين .. ويطفئ الضجيج بابتسامته الغائرة في سنواته البعيدة …
تباغتني رائحة دخان مضمخة بجوز الهند تأخذني بعيدا عن رائحة ذلك الشاي ..
احدهم يعبّ من (أركيلته) بإدمان وانتشاء ..
فيغيب وجهه البعيد .. ووجهي المزروع في تلك الحديقة الصغيرة في ركنه الأخضر ..
وتتضبب أمامي الرؤية الا من الخطوط التي يرسمها المطر على النافذة ..
وهي ترسمه أمامي بإطلالة بيضاء ..
ولغة تقدس (الغين) ..
ومدينة معصوبة برائحة النانير ورائحة جداتنا الطيبات ..
لاشيء يبزغ الا وجهه يتأبط وجه مدينتنا التي تقصّ الحكايا وترمي الحصى على وجه النهر ..
يحمل قدح شايه المقدس من بعيد
ليباغت بدفئة قهوتي (الستاربكسية) الباردة ..
وملامحي التي تنزلق على زجاج النوافذ
خيوطا من مطر …
ودخان من حنين .