بين قداسة الماضي وخيانة الحاضر غربة الوطني في ديمقراطية العوائل

بين قداسة الماضي وخيانة الحاضر غربة الوطني في ديمقراطية العوائل

في الأزمنة الغابرة لم يكن الملك مجرد حاكم بل ظل الإله على الأرض ابن النقاء السماوي الذي لا يُسأل ولا يُنتقد ولا يُحاسب كانت سلطته مقدسة ومخالفته كفر وكان لعرقه قدسية ولدمه طهارة لا تمس من يعارضه يُقطع أو يُنفى أو يُحرق تحت عباءة الطاعة لله والولاء للدم المقدس.

واليوم بعد آلاف السنين تبدلت الأسماء وتغيّرت الشعارات لكن الجوهر لم يتغير كثيرًا فها نحن نعيش ديمقراطية هجينة في بلادٍ دفنت الديكتاتورية لتنهض على عرشها دولة العوائل وتُعاد صناعة الأصنام بلباس مدني وتحت لافتة الانتخابات وكأن الديمقراطية كذبة صيغت بعناية لتعيد تدوير الطغاة بطريقة ناعمة وبأدوات ناعمة ولكنها أكثر فتكًا كان الأمل أن تغادر تلك الوجوه الكهلة ساحة القرار أن تفسح المجال لجيل جديد يحمل في قلبه روح الوطن وفي عقله مشروع بناء لا مشروع تمكين ولكن ما حدث أن تلك الوجوه عادت مرة أخرى بنفس الأناقة المتعفنة بنفس الشعارات الصدئة وكأن العراق عاقر لا ينجب غيرهم وكأن الشعب مُجبر على عبادة الأصنام القديمة لأن التاريخ لم يتعلم أن يكسرها.

الأكثر وجعًا أن من دمّر البلد هو نفسه من يعود ليرفع راية الإصلاح من أطفأ المصانع وخرّب المدارس ونهب الخزائن وسحق الأحلام هو من يعيد تقديم نفسه للناس مصلحًا منقذًا زاهدًا في الجاه متّشحًا بلون الطائفة ومظلّة المذهب وتفويض الجماعة التي تُعيد تدويره عند كل لحظة انتخابية

وهنا المأساة الكبرى حين يتحوّل الدين إلى أداة انتخابية والمذهب إلى منصة ترويج والولاء إلى عملة انتخابية رخيصة يُعاد من خلالها تسميم العقول وتخدير الوعي وإغراق الفقراء بمقولات جوفاء من قبيل إن لم تنتخب الشيعي ستُسلب السلطة أو انتخب السني كي تعود الهيبة وكأن الوطن مزرعة يملكها مذهب وكأن الدولة غنيمة يتقاسمها المنتصرون

بين هذا الخراب الكامل يغدو الوطني كائنًا نادرًا كأنه غريب في أرضه لأنه لا ينتمي لا لعشيرة سياسية ولا لعرق مقدّس ولا لمذهب مهيمن يُتّهم بالعمالة لمجرد أنه يرفض العبادة السياسية يُخوّن لأنه يطالب بوطن لا بطائفة يُحاصر لأنه لا يركع لصنم بشري ولا يقبّل أعتاب الزعيم الوطني في ديمقراطية العوائل خطر لأنه لا يُشترى لا يُباع لا يساوم لا ينسجم مع المسرحية المكررة لا يصفق للمجرم إذا ارتدى عباءة المقدّس لا ينحني لبائع الوهم إذا حمل لقب المجاهد الوطني لا يسير خلف القطيع بل يسير نحو الوطن ولذلك يُقصى يُشتم يُهدد يُهان في بلده لأن الحر لا مكان له في معابد الأصنام الجديدة ما نحتاجه ليس زعيمًا من مذهبنا ولا قائدًا من دمنا بل رجلًا يعرف أن العراق وطن لا طائفة فيه أسمى من الدولة ولا حزب يعلو على الدستور ما نحتاجه حاكم لا يسأل المواطن عن اسمه أو نسبه بل عن فكرته عن حلمه عن مشروعه عن مدى إيمانه بأن هذه الأرض للجميع لا لطبقة دون أخرى لا لسلالة دون غيرها نحتاج من يبني المصانع لا من يبني المليشيات من يزرع الأمل لا من يحفر الخنادق من ينهض بالاقتصاد لا من ينحر الميزانية من يصنع لنا دولة لا مجرد سلطة تتناوب عليها وجوه لا تختلف إلا بالشكل بينما الخراب واحد والنهج واحد والفشل واحد

إنها لحظة الحقيقة التي يجب أن نكسر فيها الأصنام لا أن نعيد طلائها لحظة الوعي التي يجب أن نميز فيها بين من يبني وطنًا ومن يبني مملكة طائفية باسم الدين من يصون كرامة العراقي ومن يتاجر بدمه وألمه وخوفه لحظة نُعيد فيها الاعتبار للعقل بعد أن سيّجوه بالقداسة ونُعيد للوطن صوته بعد أن غطّوه بأصوات الطائفة والعائلة

لن ينهض العراق ما دامت الحشود تُساق بالعصا أو بالخرافة ما دام الفاسد يعود من بوابة الطائفة وما دام الوطني يُنفى لأنه لا يصلي في محراب الزعيم لن تقوم لهذا الوطن قائمة ما لم يُكسر التمثال الأخير وسقوط الأصنام التي صنعناها نحن  ..

في هذه الانتخابات وجوباً قلع كل الوجوه القديمة وانهاء حقبة الظلام الأسود  لابد للشباب العراقي ان يأخذ دوره ويعيد لنا عراق معاصر وجديد .