23 ديسمبر، 2024 3:37 ص

بين عقدة النقص وعقدة التفوق الأبيض

بين عقدة النقص وعقدة التفوق الأبيض

بعض الأقلام تعيش عقدة ما، قد تكون عقدة النقص لأنها تنتمي لوسط لا يؤمن بذاته وفقد الإحساس بشخصيته فصار يُبْهَر بأي شيء عند الغير ويسخر من نفسه ويواظب على جلد ذاته لأنه لا يرى نفسه إلا عدما ولا يرى غيره إلا عملاقا لا يمكن بلوغه ولو ارتقى كل جبال الدنيا. هذه الاقلام في الغالب تعيش ازمة نفسية شخصية ولا تمثل ظاهرة اجتماعية، وهي تحاول تصدير أزماتها الشخصية النفسية الى الخارج بعنوان الفكر والإصلاح.

بالأمس اهتزت الضمائر الإنسانية لمجزرة المسجدين في نيوزيلندا ورأينا كيف تهافت الكل من جميع الاديان والالوان لإدانة هذه المذبحة البشعة التي ارتكبها ارهابي محتقن بالعنصرية والكراهية يرفع شعار القوة البيضاء ويعلن بلا خجل ولا حياء وبدون تردد أن دوافعه عنصرية وأنه يكره المهاجرين من غير البيض، لكن رغم كل وضوح هذا الإرهابي في دوافعه وأهدافه طلعت علينا تلك الأقلام تبرر هذه الوحشية بأنها رد فعل لسلوك منظمات استخدمت الاسلام في عدوانيتها الارهابية ولم تجرؤ أن تكتب كلمة واحدة لإدانة الايدلوجية التي تحرك هذا السفاح كما حركت من قبل مخبولا آخر في النرويج ومع كل الاسى والاسف الشديد أن البلدين المستهدفين هما من أشد البلدان وداعة وامنا وسلاما.

الجريمة التي حصلت في نيوزيلندا ليست عملا فرديا بل هي نتاج وافراز لموجة الكراهية التي تقودها جهات ترفع شعار التفوق الغربي يتزعمها رئيس اكبر قوة عسكرية في العالم اسمها امريكا واسمه ترامب ويقف خلفه ممقوتون آخرون على شاكلة ماري لوبين وابيها ونايجل فاراج الانجليزي واضرابهما. ولو جارينا هذه الأقلام في السبب الذي تقدمه لتفسير الجريمة المروعة فإننا نعجب من انها لم تقل يوما أن هجمات القاعدة وداعش الارهابية كان يحركها ويسببها جرائم الدول الغربية في بلدان اسلامية، بل بدلا من ذلك شنت حينها ولا تزال هجوما على الإسلام والمسلمين وشككت بكل شيء بدعوى أنها تقدم فكرا تنويريا، مع ان جرائم الغرب الأبيض لا تحتاج إلى بحث وتنقيب لا من قبل ولا من بعد. اذكر اي حقبة تشاء واي سنة واي يوم سوف يفيض عليك التاريخ بسيل من قيح وصديد نتن من هذا الغرب الابيض.

لست في وارد ان ابرر أفعال المنظمات الارهابية التي رفعت شعار الإسلام ولن اتعب نفسي ولا أحد غيري في الاستدلال على عدم انتماء هذه العصابات للفكر الإسلامي لأني اصلا لست في وارد الدفاع عن اي فكر أو مهاجمة آخر، بل ما اريد ان اوجه النظر إليه هو هذه الأقلام المصابة بمرض نفسي خطير وتأتي خطورته الكبيرة من كونه مرض معد قاتل.

ولن اكون في موقف الضد من مراجعة الافكار والمفاهيم الشائعة باسم الدين بل اني شخصيا من اكثر الدعاة الى مراجعة شاملة واكاد اجزم على المستوى الشخصي من خلال بحوثي الفكرية الخاصة التي نتداولها مع نخب مثقفة أن مشكلة الدين المعاصر التي نراها ليست فكرا صحيحا و تطبيقا خاطئا بل ان الفكرة الواصلة الينا عن الدين هي خطأ بالأساس ونحتاج إلى مراجعة البديهيات والمسلمات الشائعة واستبدالها بالفكرة الصحيحة الغائبة والمغيبة في آن واحد.

ما يهمني شديدا أن هذه الأقلام أما تنتمي لشخوص تعيش أزمة نفسية وينبغي أن تعزل في مصحات نفسية ولا تجلس في صف الثقافة الأول بدعوى أنها ترفع مشعل التنوير لأنها فقط تجرأت على المجاهرة بالإلحاد وبالدفاع عن حقوق الشواذ الجنسيين لأنه صار قيمة إنسانية عليا في الثقافة الرأسمالية القبيحة. أو أن هذه الاقلام هي جزء من مشروع تدمير القيم الانسانية وتعمل بوعي او بدونه بل واحيانا باجر مادي في خدمة قوة تجتاح الارض الان تريد ان تسخر كل شيء لخدمة إمبراطورتيها الاقتصادية. والا هل سأل أي أحد من أصحاب هذه الأقلام هل ان القاعدة وداعش والتطرف الإسلامي هو نتاج لفكر منحرف أم صنيعة مخابرات غربية وتحديدا أمريكية؟ وإذا كانوا غائبين عن ذلك بفعل انهم شحيحو الثقافة والعلم وأنهم صنعوا في هذا الزمن الأخرق الذي صار به كاتب فيسبوكي مفكرا كبيرا لمجرد سطور يكتبها وهي في حقيقتها لا تعدل حتى شروى نقير. هل يعرف أصحاب هذه الأقلام ان المسلمين على امتداد تاريخهم كان يتهم كل معوج تفكير منهم بأنه خارجي وكانت بل ولا زالت سبة وشتيمة. وأما ارهاب الدولة الذي مارسه الملوك المسلمين فهو سياسة قذرة تستغل كل شيء لحفظ سلطانها وأنها تجعل الدين وغيره من المفاهيم مطية له كما يفعل كل الملوك الاخرين وإلا هل يمكن ان يصدق احد ان دينا مثل الدين المسيحي يدعو اتباعه لان يقدم لعدوه خده الآخر لمن يصفعه، دين بهذه المسالمة والوداعة جعله ملوكا طغاة سببا لحروب دامت اربع قرون. إذا كان في الإسلام ما يبرر القتل فهل في المسيحية اشارة حتى ولو كانت عابرة إلى ذلك العنف والقتل الذي جرى، ام انها سياسة قذرة يسير عليها كل الطغاة بلا حاجة الى التفتيش عن أي دين ينتحلوا والا تعالوا نفسر ظهور محاكم التفتيش وسلطة الكنيسة القمعية هل نجد لها أثرا في إنجيل صحيح كان او حتى محرف ام انه لا عين لها ولا اثر إلا في نفوس طغاة يستخدمون أي شيء لتبرير قسوتهم وبشعهم.

هذه العصابات الاجرامية التي رفعت شعار الدين ظهرت بتمويل وتخطيط من المخابرات الامريكية لمواجهة التمدد السوفياتي وكان يصطلح عليه الخطر الشيوعي وفي أمريكا كانت هناك المكارثية وصار اي مناهض لسلطة القبح الرأسمالي الامريكي وجرائمها في فيتنام يعتبر خائنا شيوعيا حتى لو لم يسمع بها أما عندنا فقد عملت الأنظمة الرجعية العميلة لأمريكا على تجنيد الشباب ودفعهم لمواجهة السوفييت في أفغانستان بل أصبح هؤلاء المتطرفين يسميهم الإعلام الغربي والعربي الرجعي باسم المجاهدين يزودهم بالأسلحة والاموال الطائلة حتى ان الارقام الرسمية العلنية وليست السرية كانت مليارات الدولارات سنويا ولمن أراد أن يعرف كيف استعملت واردات المخدرات في تمويل هذه الحرب فليراجع كتاب الزمن الأمريكي من كابل الى نيويورك للراحل محمد حسنين هيكل وليبحث عن دور بريجنسكي وسوف انقل مقولة واحدة منه بحق هؤلاء (المجاهدين) صنيعة المخابرات الامريكية والغربية الذين اصبحوا ارهابيين وعارا علينا تحمله نحن وحدنا لا هم. قال بريجنسكي لبعض قادة المسلحين في الجهاد الأفغاني علنا وعلى رؤوس الأشهاد: “لدينا فكرة عن إيمانكم العظيم بالله.. ونحن على ثقة بأنكم ستنتصرون.. تلك الأرض هناك هي أرضكم سوف تعودون إليها في يوم من الأيام، لأن نضالكم سوف يسود، وستملكون بيوتكم ومساجدكم مرة أخرى”.

هذه الصنيعة الارهابية الخبيثة نتاج مخابرات غربية نتاج عقدة التفوق الأبيض وليست ازمة فكرية نعيشها وهذه العقدة نفسها هي التي قتلت الأبرياء في نيوزيلندا ومن قبلها في النرويج وهي ليست حالة استثنائية بل هي نفسها التي استعبدت ملايين من ذي البشرة السوداء وسرقتهم من مراعيهم ومزارعهم وسخرتهم لخدمتها ومن ثم قالت لهم ارجعوا الى وطنكم لأنكم مقرفون قليلو التهذيب والتربية وانكم لستم سوى عبيد وعندما قال لهم مارتن لوثر كنغ اني احلم قتلوه وضح النهار. هذه العقدة هي التي أبادت شعوبا بأكملها و صورتهم على أنهم وحوش اكلة لحوم البشر ينبغي استئصالهم وقتلهم ولم تخبر احدا انهم بناة حضارة الازتيك والآنكا عندما كان الأبيض قرصانا متوحشا. اسألوا هيروشيما وناغازاكي هل استخدم أحد القنبلة النووية غير هذا الابيض المتعالي بعقدته الذي ذبح ستين مليونا في غضون أربعين عاما. اذهبوا الى فيتنام واسألوا من كان وراء أكثر من اربعة ملايين ضحية فيتنامي اسألوا الجزائر وجنوب افريقيا واسألوا غرينادا وشيلي بل اسألوا اي مكان وطأه هذا الأبيض الذي يرى حتى الله ابيضا ولأجل الدفاع عن هذا الإله الأبيض ظهرت عصابات الكوكلوكس كلان.

هذه الاقلام إن كانت تدعي الإصلاح والتنوير عليها أن تبحث في سبب هذه العقدة المرضية عند الامريكي والغربي نتاج القبح الامبريالي اذا كانت مخلصة فيما تقول لا أن تصم آذانها وتغلق عيونها عن كل هذا وتحملنا مسؤولية جرائمها بل حتى مسؤولية دمائنا.

ختاما أقول قد يظن البعض أن هذا المقال موجه لمعاداة الفكر الإلحادي ودعما لفكر ديني. ابدا بل اقول لهم ان الالحاد فلسفة قدمها عظماء في التاريخ وبغض النظر عن الاعتقاد بها ام لا والقبول بها ام رفضها لا يجد المرء من بد امامه الا ان ينحني اجلالا للمعرفة التي قدموها للبشرية ولا يذكرهم كل العالم إلا بوصف فخم وينعتهم بالعلماء والفلاسفة. من أراد أن يقدم لنا نتاجا فكريا مثل هؤلاء فكل الشرف لنا ان نحظى بالاطلاع على نتاجه الفكرية كما نطالع بالفعل وبشغف ما سطره ماركس وانجلز ونيتشه وشوبنهاور وآخرون كثر وليس آخرهم عبقري هذا الزمان ستيفن هاوكنغ. هذه فلسفة نعجب بها ونتأمل مقالاتها ولا نعادي أصحابها بل نتشرف لو سمح لنا الزمن بصحبتهم ، أما خدم الامبريالية والعسكرتاريا العالمية فانتم لستم بملحدين اصحاب فكر بل انتم عبيد الهة قبيحة ننظر اليها واليكم بازدراء واحتقار مضاعف لأنكم تريدون ان تُعَبدوننا بدين اشد قبحا من الدين الذين تدعون انكم تحاربوه.