23 ديسمبر، 2024 7:57 م

بين شاعرين: ابن معصوم والحبوبي -2

بين شاعرين: ابن معصوم والحبوبي -2

أولى الكلمات: أود أن أعتذر للقراء عن أخطاء وردت في الجزء الأول، وسببها تلك العجالة االتي رافقتني وما زالت منذ الصغر، حيث كنت أدفع ورقة الأمتحان دون مراجعة. وحين بدأت بكتابة المقالات أدفع بها للنشر من دون مراجعة أيضا، كمن ولدت مولودة ورغبت عن أن تراها! على أني من ناحية أخرى أود أن أسجل جزيل امتناني للأستاذ الدكتور محمد فضل الحبوبي – الوزير السابق- على تنبيههة لخطأين أولهما سقوط اسم والد الشاعر محمد سعيد (والأسم مركّب) وأعني السيد محمود عند الرقن الطباعي، وثانيهما هو أن ضريح الشاعر الحبوبي يقع على يمين الخارج من باب القِبلة (لا الشمال كما ورد خطأً)، ولي أن أسجل شكري أيضا للمهندس الأستاذ المتابع أحمد الحمامي الذي أعطى العنوان بأن الضريح في الغرفة رقم 10 على شمال الداخل ( أو يمين الخارج) من باب القبلة الى الصحن الحيدري، حيث علت الباب الخشبي الجميل أبياتٌ تؤرّخ وفاة الشاعر… أشكر كلَّ من عّلّق أو كاتبَ، كالأستاذ القاص والمقالي الساخر علي السوداني، والشاعر المتميز عبد الإله الياسري والاستاذ الشاعر الفنان لطفي شفيق سعيد، والشاعرة المتميزة وئام ملا سلمان وآخرين…محاولا تقليل الهوامش والحواشي، والاختصار في المتن، وتقليل الأخطاء الطباعية ما استطعت الى ذلك سبيلا، وقد قالت العرب: من شبّ على شيئ شاب عليه!

***

سؤال عنّ لي: ما الذي يجعل شاعرين فقيهين من عائلتين عَلويتي النسب و عُلويتي المحتِد، يقولان شعراً في الخمر و التغزل بها وبساقيها، وكأن الشَّمول قد خامرتهما؟ ثم يبرعان بالنسيب والتشبيب، كأنهما عاشقان شفهما الوجد، فانساب من يراعيهما ذلك الشعر العَسجدي الرقيق؟ أما كان يكفيهما ما قالاه فأحسنا فيه القول من مديح وفخر ورثاء ووصف…؟

يُجمع دارسو شعر العرب من المستشرقين، بأن الشعر العربي أحفلُ من غيره من أشعار الأمم الأخرى بالخمر والتغزل بها، ولعل السبب الرئيس في ذلك هو طبيعة الجزيرة العربية وقساوة صحرائها، فما أن يلقي البدوي بعصا التَّرحال، ويزيح عن نفسه وعثاء السفر حتى يُنشدَ ما يُريحه، تماما كالماشين فوق الماء فما أن يصلوا الموانيء يبدأ نشدانهم للذات! فالخمر رافقتِ الشعراء منذ انبثاق الشعر وعلى مر العصور حتى يومنا هذا..وطالما ارتبطت الخمر بالغزل برباط وثيق، بدرجات شَدٍّ متفاوتةٍ عند الماجنين من الشعراء أو عند الزاهدين من المتصوفة منهم. يتغزلون بها ويشربونها (أو يزعمون) صبوحا وغبوقا. هذا عمر بن كلثوم1 صاحب المعلقة:

ألا هبي بصحنك فاصبحينا – ولا تُبقي خمور الأندرينا

أما الشاعر المثقف عَدي بن زيد العبادي2 الذي كان نجم شعراء الخمر المتألق أبداً، يقول:

بَكَر العاذلاتُ في غَلَس الصُّب – حِ يقولون لي أما تستفيقُ

ودعا بالصَّبوحِ فجرا فجاءت – قينةٌ في يمينها إبريقُ

ويرى الدارسُ أن صورَ الخمر والغزل فيها كثير من الإبداع الذي أضافته متغيرات العصور ومواهب الشعراء، وفيها أيضا كثير من التقليد الذي يتكرر باشكال ومضامين ذاتِ جمال عالٍ أيضا سواء بين الشعراء أو لدى الشاعر نفسه كما سنرى عند شاعرينا، ولنا أن نذكر على سبيل المثال من هذا التكرار في التصوير بين شاعرين من عصرين مختلفين. قال ذو الرّمة:

وعينانِ قال الله كُونا فكانتا – فعولانِ بالألبابِ ما تفعلُ الخمرُ

تلقف الصورة بشّار:

حَوْراءُ إنْ نظرت اليك – سقتك بالعينين خمرا

إذنِ الخمرُ والغزلُ غرضان مترابطان من أغراض الشعر لابد لأي شاعر أن يلجهما ويقول فيهما ما يشاء…أياً كان قائلهما حتى لو كان نقيبا للطالبيين أوفقيها أو طالب فقه… ولا طائل من صرف جهد أكثر في هذا المجال.

***

للشاعر العظيم الشريف الرضي، نقيب الطالبيين قول في الغزل الرقيق وفي الخمر أيضا، وهو مهد الطريق للشيعة من الشعراء وأعطاهم الحجة في أن يطرقوا ماطرقه أستاذهم الرضي، وهذا ما جعل الشاعر ابن معصوم يلتمس له العذر حين يقول 3: “وأما خمرية الشريف الرضي عليه من الله الرضا، التي اسكرت الألباب وانتشت بها قلوب أولي الآداب، فأن استعاراتها كلها بديعة، وابيات لطاءفاه على غير منيعة، وكان سبب نظمها لها، أنه على وفور شعره، وارتفاع شأنه، وغلاء سعره لم يكن ينظم في باب الخمريات شيئا، نزاهة منه وإجلالاً لقدره الشريف على ذلك، فسأله بعض من يعز عليه من أصحابه القول في ذلك، ليشتمل ديوانه من الشعر على فنونه كما اشتمل على محاسنه وعيونه فقال:

اسقني فاليوم نشوانُ – والربى صاد وريانُ

كلفت باللهو وافية – لك نايات وعيدانُ”

ويأتي ابن معصوم على ذكر القصيدة كلها. تعمدت ذكرهذا الاستشهاد، لا لكي أثبتَ ما ألمعتُ اليه أعلاه، وإنما لتبيان التأثير الكبير للشريف الرضي على شاعريْنا… وفي موضع آخر4 يثبت ابن معصوم طربه وانتشاءه ببعض الخمريات لغيره مما يدل على سعة اطلاعه، ويكشف عن رفعة ذوقه، من قبيل قول شرف الدين الحلاوي:

رقّ فلولا الأكفُّ تمسكُهُ – سال مع الخمر حين ترشفُهُ

وكذلك استلطافه حين يقول ” وأبدع من ذلك كله وألطف قول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي”:

شرقت معاطفه بأمواه الصبا – وجرى عليه بضاضةٌ ونعيمُ

قد كاد تشربُه العيونُ لطافةً – لكن سيفَ لحاظِه مسمومُ

وقوله أيضا:

رقت شمائلُهُ ورقّ أديمُهُ – فيكاد تشربُه عُيونُ الناظرِ

***ِ

ويستمر ابن معصوم في قطفه أزهارا نضرة من رياض الشعر المزدهرة، أكتفي بهذا بما ينفعنا في فهم رائعة ابن معصوم وتأثره بما سبق من صور حسية في قصيدته، التي يذكرها بالسياق نفسه دون أن يذكر اسمه تواضعا وترفعا في آن! والقصيدة هي:

أما الصبوحُ فإنه فَرضُ – فعلامَ يكحلُ جَفنك الغمضُ

هذا الصباحُ بدت بشائرُه – ولخيله في ليلهِ رَكضُ

والليلُ قد شابت ذوائبهُ – وعِذارُهُ بالفجر مِبيّضُّ

فانهض الى حمراءَ صافيةٍ- قد كاد يشرَبُ بعضَها البعضُ

يسقيكها من كفهِ رَشأٌ – لَدنُ القوامِ مهفهفٌ بضُّ

سيّان خمرتُه وريقتُهُ – كلتاهما عِنبيةٌ محضُ

تُدمي اللواحظُ خدَّه نظراً – فاللحظ في وجناته عضُّ

من ضمه فتحَ السرورُ له – باب وكان لعيشه الخفضُ

باهت وقد أبدى محاسنَهُ – بدرَ السماءِ بحسنهِ الأرضُ

يسعى بها كالشمس مشرقةً – للعين عن إشراقها غَضُّ

والكأسُ إذ تَهوي بها يدُهُ – نجمٌ بجنح الليلِ منقضُّ

بات النَّدامى لا حَراك بهم – إلا كما يتحرك النبضُ

في روضة يُهدي لناشقها – أرجَ الحبائبِ زهرُها الغضُّ

ختم الحيا ازهارَها فغدا – بيدِ النسيم لِخَتمِها فَضُّ

فاشرب على حافاتها طرباً –وانهض لها إن أمكن النَّهضُ

لا تُنكرن ْ لهوي على كِبَرٍ- فعليَّ من عصر الصِّبا قرضُ

أغرى العذولُ بلومه شغفي – فكأنما إبرامُه نقضُ

خالفتُه والرأي مختلفٌ – شأني الودادُ وشأنُه البغضُ

مهلاً فليسَ على الفتى دَنَسٌ – في الحبِّ ما لم يدنَسِ العِرضُ

قصيدة قوامها تسعة عشر بيتا، انتظمت كما تنتظم حبات اللؤلؤ في عِقد جميل لا يقبل الزيادة ولا النقيصة، ومن الملفت أن القافية ورويها الضاد المحرك بالضم، وهي من النوادر في شعرنا العربي لصعوبته وثقل صوت الضاد، التي طوعها تطويعاًّ جعلها خفيفة سائغة الوقع على الأذن بفعل تفاعلها مع بقية الكلمات مما أعطت موسَقةً جميلة متناسقة، أغناها البحر الكامل ذو الأصداء المتناسقة المهيبة، اللغة الشعرية غنية بالتصوير الشعري الحسي من أول بيت إلى آخر بيت، لا تجد في القصيدة مفردات معجمة ولا نبو بل انسجام تام في الصوت والصورة. وتبدو المعاني وصفا ظاهريا للخمرة والكأس وساقيها، والساقي يحتمل الذكر ويحتمل الأنثى كلفظة الحبيب في الشعر، على أن كون الساقي ذكرا جميلاً كما وصفه القرآن مسألة تهم الشاربين وتفتح شهيتهم وقد تكرر ذكر ذلك في القرآن ” وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا”19 الإنسان، وفي سورة الواقعة ” يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (18) لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ” . وإذا كان الله قدّم هذا الوصف المغري للكؤوس وللسقاة الولدان، فلماذ إذن لا يصفها الشعراء بأجمل الأوصاف؟

يبدأ الشاعر قصيدته بأن جعل شَرب الصَّبوح فرضا، وبهذا الوصف يكون فرضا يقارب فرضَ صلاة الصبح، والشاعر يستحث الساقي الذي أثقل أجفانه الوَسَنُ بأن ينهض الى بنت العنب حيث أن جيوش الصباح تهزم الليل الذي يسحب أذياله، ثم يستغرق بوصفه بجمل بلاغية مركبة تركيبا ومصنوعة بإتقان بلا تكلف بل منسابة انسياب الصهباء في الكاس التي تهوي بيد الساقي كما لو أن نجما في السماء خرّ! والساقي المهفف تفاخر به الأرضُ بدرَ السماء…وبعد أن أشبع المشهد الساحر وصفا، أنهى القصيدة بحُسن تخلص وهو لا لوم للشارب مادام الهدف نبيلا والعِرض سالما!

مَنْ يستبطنِ القصيدة سينجلِ له المنحى الصوفي بين تلافيفها، فالخمر هي روح spirit ولأجل هذا تسمى المشروبات الكحولية بالمشروبات الروحية، والخمر لدى المتصوفة سواء شربوها أم لم يشربوها في خلواتهم، هي الطريق الى الوجد والسمو والتجلي الى درجات العلا، و الطيران صعُداً

لأجل أن يلتقي العاشقُ بالمعشوق، وقد عبروا عن ذلك في أشعارهم وطقوسهم وأناشيدهم ورقصاتهم، وابن الفارض مشهور في قصائده:

شربنا على ذكر الحبيب مُدامة – سكرنا بها من قبل أن يُخلَق الكرمُ

إضافة لتأثيرات الرضي وغيره ممن أعجب بهم ابنُ معصوم والذين سبق أن ذكرناهم، أرى التأثيرات الصوفية لابن الفارض واضحة في هذه القصيدة. ولاجل هذا سأنتقل الى قصيدة أخرى لكي يثبت زعمنا في النزعة العرفانية لدى ابنِ معصوم في قصيدة مستهلها (من البسيط):

برقُ الحمى لاح مجتازاً على الكُثُبِ – وراح يسحب أذيالاً من السُّحُبِ

أضاء والليلُ قد مُدّت غياهبُهُ – فانجاب عن لهب يذكو وعن ذهَبِ

الا تذكرنا هذه القصيدة بمحسناتها البديعية وصورها بابن الفارض5 في قصيدته:

أبريقُ برقٍ بالأُبيرَقِ لاحا – أم في رُبى نجد أرى مِصباحا

أم أن ليلى العامريةَ أسفرت – ليلا فصيّرتِ السماءَ صباحا

ومن يتوغل في القصيدة يرَ أن بعض الصور هنا مكررة من قصيدة ( أما الصبوح):

والصبحُ خيّمَ في الآفاق عسكرُه – والليلُ ازمع من خوفٍ على الهربِ

فقلت للصحب قوموا للصَّبوحِ بنا – يا طيب مصطبَح فيها ومصطحِبِ

واستضحكوا الدهر عن لهوٍ فقد ضحِكت – كاس المدامةِ عن ثغرِ من الحبَبِ

فقام يسعى بها الساقي مُشعشَعةً ً – كأنها حلَبُ العُتّابِ لا العنبِ

حمراءُ تسطعُ نوراً في زجاجتِها – كالشمس في البدرِ تجلو ظُلمَةَ الكُرَبِ

نكتفي بهذا المقدار، وسيكون لنا وقفة مع خمريات الحبوبي ومقارنة مع ابن معصوم.

-للموضوع صلة-

الهوامش:

1- الزوزني، شرح المعلقات، أو الخطيب التبريزي في شرحها، والاول أسهل وأوجز والثاني اشمل واعمق.

2- ضيف، د. شوقي؛ الشعر الجاهلي دار المعارف عدة طبعات، أو فيصل، د. شكري؛ الغزل في الشعر الجاهلي.

3- ابن معصوم، أنواع الربيع في انواع البديع، 1/54 ط طهران.

4- ابن معصوم، م.س، 1/317.

5- ابن الفارض، عمر، الديوان طبع عدة طبعات في القاهرة وبيروت…