18 ديسمبر، 2024 11:56 م

بين تغيير الأدارة وأدارة التغيير: العراق الى أين؟ – 3

بين تغيير الأدارة وأدارة التغيير: العراق الى أين؟ – 3

في هذا القسم الأخير نتطرق الى الأخطاء العامة التي يقع فيها من يتصدى لأدارة التغيير ونجيب على سؤال هل تجنب السياسيون العراقيون الجدد هذه الأخطاء. المطلوب في التغيير وجود قائد منظر للتغيير وكذلك الى من يجيد أدارة التغيير والتعامل مع الجزئيات؟ وهذان مختلفان.لأدارة التغيير نحتاج الى قائد (أو قادة) يرسم السياسات العامة والى مدير يدير تفاصيل مشروع التغيير. ولذلك نجد في الأحزاب الديمقراطية العريقة وجود قائد للحزب ومدير للحزب، وأن تغيير القائد ليس بالضرورة يؤدي الى تغيير المدير. القائد هو من يضع السياسة العامة للحزب بالتعاون مع المستشارين أما المدير فهو الذي سيكون رئيساً للوزراء عند الفوز في الأنتخابات وقادراً على الأدارة مع أعطاء فسحة للوزراء بأدارة وزاراتهم. ليس بالضرورة أن يكون لقائد الحزب شخصية كاريزمية لأنه يعمل خلف الكوليس و ظهوره الى الجماهير قليل ولكنه يمتاز بقوة التحليل وكثافة معلوماته السياسية، أما المدير (أو رئيس الوزراء) فيجب أن يكون له كاريزما لأنه يتعامل بصورة مباشرة مع الجمهور، ويجب ان يكون صريحاً وصادقاً وسريع البديهية لمعالجة الأسئلة الطارئة، لأن ما أن يكتشف الجمهور سراً أو كذبة قالها رئيس الوزراء فأنه سيسقط او يستقيل. ولكن لا نجد هذا عندنا في العراق لا قبل ولا بعد التغيير، وهذه أزمة حقيقية في الحكم وفي تركيبة الأحزاب العراقية. دائماً لدينا قائدا ينظر للحزب وهو المدير لكافة الشؤن والجزئيات سواء بطريق مباشر أم غير مباشر ليكون هو كل شيء وهو الرمز ويختصر الحزب بشخصه، وهو من يتوسل اليه الناس ليكرمهم من فضله، ولذلك نشأت عندنا الدكتاتوريات، والأمثلة على ذلك كثيرة قبل التغيير وبعده.

لماذا فشل الساسة الجدد في أدارة ملف التغيير؟ سؤال وجيه يحتاج الى تحليل. يقول المتخصصون هناك أخطاء عامة يرتكبها السياسيون أثناء أدارة التغيير، فلنرى هنا أن كان سياسيوا التغيير العراقي أرتكبوا أي من هذه الأخطاء وكيف تعاملوا معها. الأخطاء العامة هي:
1. عدم وجود حس عالي لمعالجة الضرورات في مرحلة التغيير. وهذا ناتج عن عدم تقديرالساسة لصعوبة أقناع الناس للوثوب خارج أفقهم المريح، أي صعوبة أقناع الناس لتغيير بعض تصرفاتهم كي تنسجم مع الحالة الجديدة. وبعض الأحيان يفتقر الساسة الى الصبر، فمثلا يقولون يكفينا بالمقدمات والتفاعل مع الجماهير ولنقفز الى ما نريد عمله أو ما جئنا من أجله قبل ان يكتشف الناس أننا غير كفوئين. ويعتمدون في قياس نجاحهم على كثرة المصفقين والمطبلين والأنتهازيين، ولم يلتفتوا أو يحاولوا معرفة نبض الناس من خلال الأستطلاع السري الذي وحده يعطي الدلالة على مدى نجاح الحاكم. اليس هذا ما أرتكبه سياسيو تغيير 2003؟

2. عدم تكوين تحالف تغييري قيادي قوي. والتحالف القوي لا يعني الضغط على الخصوم السياسيين وجرهم الى الأمر الواقع للتحالف، لأن ذلك التحالف ما يفتأ أن ينفرط بعد ان يكتشف المتحالف أنه مغدور به ومخدوع أو أنه أستخدم كحصان طروادة من قبل الآخرين. في التغيير الناجح يجلس الرئيس أو رئيس الوزراء مع 15 أو 50 آخرين معاً لتطوير تعهد شراكة حقيقي ليس فيه أجندات سرية أو مخادعاتية أوأنتهازية أو جملاً فضفاضة قابلة للتأويل. بينما نعرف أن الدستور العراقي كتب على عجل بضغوط الأغلبية التي تصدت للحكم وبغياب بعض الأطراف على أمل تغييره في المستقبل ليلائم الآخرين، ولكن لم يتم ذلك التعديل مما ولد حساسيات وعدم ثقة، وتطور الى كلام علني بعد أن لم تنفع المفاوضات. أن الساسة الجدد مع الأسف كانوا غير صادقين مع بعضهم ولا مع الشعب، وكانت المصالح الشخصية هي من يوجه القرار ولم يؤلفوا تحالفاً قيادياً قوياً.

3. الخطأ الثالث هوالأفتقار الى رؤية وطنية مشتركة. أن الساسة الجدد أتفقوا على تغيير النظام ولم يتفقوا على رؤية واضحة لما بعد التغيير. فعندما استلموا الحكم أصبح كل يغني على ليلاه. الأحزاب الدينية تريد السيطرة التامة على الشارع وعينها على أموال الدولة لأشباع نهمهما للسلطة والمال. والأحزاب الكردية أرادت موردا ماليا تؤسس فيه دولة داخل دولة حتى أذا تكاملت جوانب دولتهم يقررون الأنفصال والمطالبة بأراض خارج حدودهم الأدارية، والقوى العلمانية ضعيفة وعينها على المناصب. لقد كانت الرؤى مختلفة بل متضاربة بين أقطاب العملية السياسية الجدد، ولكنهم يريدون أقناعنا أن لهم رؤية مشتركة وعينهم على الوطن والمواطن، وأنه لافرق بين الطوائف والقوميات، حتى أن أحدى الكتل السياسية غيرت أسمها للأيهام بأنها مع المواطن.  أتبع سياسيو التغيير نفس أسلوب أسلافهم بأغداق أموال الدولة على أتباعهم لكي يصفقوا لهم ويهتفوا بحياتهم ويحملوا صورهم في كل مكان، وكما يقول المثل العراقي تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي. الحقيقة أننا نتحير لماذا يعيد شعبنا الخطأ مرة بعد مرة وفي كل مرة يربون دكتاتوراً جديداً ثم يستغيثون الا خلصونا منه بأي ثمن. لا يوجد الا تفسير واحد وهو سعي البعض وراء الدرهم والدينار حتى وان كان ضد مبادئهم. وما قتل أهل الكوفة الحسين الا لهذا السبب،  فعلى من يثير حماس العشائر والشعراء والشباب والنساء أن يعلم أنهم أنما وراء الدينار حالما أنقطع أنقطعوا عن موالاتكم وأن دارت الدوائر لم يعرفوكم.

4. التباطؤ بنشر رؤية الحزب الحاكم بصورة علنية، أو الأعلان عن رؤية أنيقة للحزب مبطنة بأجندة داخلية لا يظهرها الحزب حتى لا يفقد تعاطف الشعب مع الأدارة الجديدة. أن الكثير من الأحزاب العراقية أما لا توجد لديها رؤية حزبية واضحة وستراتيجية مدروسة أو أنها تحتفظ برؤيتها ولا تعلنها لأنها تخاف أن يرفضها الجمهور، أي كما يقول المثل العراقي “يشوفك حنطة ويبيعك شعير”. لدينا أمثلة عن الأجندات التي أعلنتها الأحزاب في العراق قبل وبعد عام 2003. خذ مثلاً الحزب الشيوعي العراقي الذي جاء بعد أنقلاب تموز 1958 بشعارات براقة مثل المساواة الأجتماعية وحقوق الطبقة العاملة والقضاء على الرجعية الدينية و شعب حر ووطن سعيد. وأستثارت تلك الشعارات بعض الناس، ولكن تبين فيما بعد أن كل همهم هو السيطرة على شؤن الطبقة العاملة وأستخدامهم كأدوات في مظاهراتهم العارمة، وحرف الشباب عن القيم السائدة ورفعوا شعار “ماكو مهر بعد شهر ذبوا (اي أرموا) القاضي بالنهر”،  أما الرجعية التي كانوا يقصدونها فهي كل من يعارض أفكارهم حتى لو كانت معارضة علمانية، ولذلك أرتكبوا المجازر والأعدامات العلنية وكان شعارهم المعروف “ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة”. وجاء حزب البعث بعد انقلاب 1968 بشعارات ومبررات مختلفة من قبيل “القضاء على المحسوبية والمنسوبية”  و “امة عربية واحدة” ونشر الحرية والعدالة الأجتماعية تحت شعار “وحدة وحرية واشتراكية” وهي شعارات ملهبة للحماس للكثير. ولكن بعد سنوات قليلة تبين أنها مجرد شعارات لأن المحسوبية والمنسوبية أزدادت والحرية أختفت تحت شعار لا صوت يعلوا فوق صوت المعركة، وأصبحت الوحدة تعني فرض المباديء على البلدان العربية وأحتلالها بالقوة، ثم أختصر الوطن بالقائد الرمز و أختصر الشعب بالحزب القائد، وأنتهى الوطن تحت طائلة عقوبات دولية وأنتهى الشعب تحت وطئة الجوع، فلاذ بالأجنبي لتغيير واقع الحال ولكن الأجنبي يريد السلة والعنب. أما بعد تغيير 2003 جاءت الأحزاب الدينية والعلمانية، وأستبشر المواطن خيراً لأن ماما أمريكا ستضعه في حضنها الدافيء وتأتي له بأرقى أنواع الحليب واللعب المسلية ويكبر بالعز ثم يسلمه الى الأحزاب الجديدة معززاً مكرماً توفر له الخدمات والمدارس الحديثة.  أول ما رأينا هو حكم الأحزاب العلمانية التي ادعت الوطنية والوطن، وما ان حصلوا على الوزارات حتى نسوا الوطن والمواطن ولم ينسوا ملىء جيوبهم وتهريب ملايين الدولارات الى حساباتهم الخاصة في الخارج. ثم أنبرى لنا من كان يدعي بالعلمانية قبل التغيير ولكن بعد التغيير رفع شعار “البيت الشيعي” لأستفزاز الآخرين الذين بالفعل أستفزوا وأسسوا ” تجمع أهل السنة” الذي تغير الى “تجمع أهل العراق”. وكنا نأمل أن يتأسس منذ بداية التغيير تجمع “البيت العراقي” ولكن بدأت المطاحنات وتُرك المشروع الوطني على الرفوف العالية. ثم جاء دورالأحزاب الدينية مثل المجلس الأعلى الأسلامي الذي رفع شعار مظلومية الأغلبية وضرورة أتباع المرجعية الدينية لأنها صمام الأمان، فأختصر الوطن بالمرجع الديني الذي ما رأيناه يوماً يمشي في الأسواق أو سمعنا صوته كما كان النبي الذي يدّعون أنهم أتباعه. وأختُصر المواطن بالشهيد فلان وعلان، وما رأينا سوى سرب من العمائم السود والبيض تتكاثر مثل الجراد حتى أنه من كان بعثياً نزع ثوب البعث ولبس ثوب الدين وختم جبهته بالأسود وحمل المسبحة الطويلة للدلالة على التقوى. وبالنتيجة أسسوا المليشيات التي تقتل على الأسم والطائفة، وتربعوا على الكراسي واستحوذوا على مجالس المحافظات وشفطوا ميزانية المحافظات والبلد ونسوا المظلومين الذين جاؤا من أجلهم وغدروا بالمخالفين وتركوا الشعب للجشعين وهجّروا الأموال الى الخارج لليوم الأسود، وترك المواطن بلا خدمات ولا وظائف. وبعد أن سئم المواطن من سطوة المليشيات والفقر جاء حزب الدعوة بدعوى محاربة المليشيات وفرض القانون والأعمار. وبعد سنتين تبين أن هذا الحزب يريد تطبيق قانون حزب الدعوة على كل المواطنين وليس قانون الدولة، وكرّم من يرقص ويصفق ويلقي شعر المديح فأخبرهم أنه “بعد ما ينطيها”، وتُرك المواطن تحت لهيب حر الصيف، ويا بو زيد كأنك ما غزيت. ثم عاد الأن المجلس الأعلى الأسلامي على الساحة هذه الأيام بثوب جديد هو ثوب المواطن وشعارات الوحدة الوطنية، فأعترف بالأخطاء السابقة ولكنه لم يقل لنا ما هي تلك الأخطاء، هل هي الأخطاء التي أدت الى فشلهم في الأنتخابات أم الأخطاء التي تضرر المواطن منها؟ هل أنصف من تضرر من تلك الأخطاء تحت حكمهم الأول؟ ولم يعط لنا ضماناً أنه سوف لا ولن يرتكب أخطاء أخرى بحق المواطنين في المستقبل.

أما الأحزاب الكردية فقد جاءت بشعار “الفيدرالية الطوعية” وبعد أن بنوا مدنهم بأموال نفط البصرة وكركوك غيروا شعارهم الى “الأنفصال الطوعي”. لقد ظهر لنا عبر نصف قرن طبقة من السياسيين الذين تبدلوا من الحزب الشيوعي الى حزب البعث الى الأحزاب الدينية فلا مباديء ولا شعارات بل مصالح شخصية وبوصلتهم تتجه الى أين يتجه الدينار والدولار. من هذا نجد أن السياسيين العراقيين يأتون بشعارات ويفعلون النقيض والشعب يصفق لكل جديد، وعفية عليك ياشعب. ولا عجب أن تفشل مرحلة التغيير في كل مرة.

ولكن لأنصاف الآخرين فأن هناك الكثير من الوطنيين الذين انتموا الى الأحزاب والتيارات، التي ذكرناها والتي لم نذكرها، بدافع الوطنية والحرص على الوطن ولكنهم بعد أن أكتشفوا الحقيقة غادروا مواقعهم أما هرباً وأما أغتيالاً وأما لاذوا بالصمت.

5. الخطأ الخامس هو عدم التخطيط لأفادة الشعب بفوائد سريعة وملموسة. وهذا واضح جداً من سيرة السياسيين الجدد. فبعد تسع سنوات على التغيير والشعب بدون كهرباء ولا مواد تموينية ولا خدمات ولا وظائف ولم يعم الأمن والأمان فالمواطن يقتل وهو ذاهب الى عمله من خلال التفجيرات في الأسواق الشعبية والمقاهي والشوارع أو من خلا ل كواتم الصوت. وهكذا فقد السياسيون ثقة الجمهور بهم.

6. الخطأ السادس هو الأعلان عن الأنتصار وبلوغ الهدف بأسرع من الواقع. لقد حدث هذا عندما اعلن الرئيس بوش الأبن أنتصاره على النظام السابق بعد شهر على دحره ولم يتأكد من كون الجميع فرحون بالأنتصار وأنهم سيندمجون بالنظام الجديد، مما أدى الى تراجعه عن أعلان النصر بعد أن بدأت المقاومة المسلحة ضد قوات التحالف. وينطبق هذا كذلك على أعلان المالكي بصورة متسرعة بأنه هزم المجرمين والخارجين عن القانون وأنه سيبدأ بعملية البناء وكان ذلك سنة 2008. وأنتهت فترته الأولى وتوشك فترته الثانية على الأنتهاء والأوضاع من سيء الى أسوأ ولا بناء في الأفق ولا أمن، ثم زاد الطين بلة بخلق أعداء أكثر من الأصدقاء.

وملخص الكلام لقد أرتكب السياسيون الجدد كل هذه الأخطاء، وان التغيير في العراق جاء ببيضة فاسدة ودولة فاشلة وسياسيين سارقين لم يتعاملوا مع التغيير بطريقة مهنية وموضوعية ولا مع شعبهم باحترام. وخوفنا أن هؤلاء السياسيين والمتدينين الجدد يضمرون لنا حرباً جديدة، داخلية أو مع أحد الجيران بعد تمام الأنسحاب الأمريكي. وليس لنا الا أن نقول يا شعب العراق لا تنبهر بالشعارات فهناك أجندات مبطنة لغالبية الأحزاب أن لم نقل لجميعها، وأنكم أستبدلتم الديكتاتورية بالديمقراطية الورقية أي المكتوبة على الورق فقط، وسوف تفقس أن عاجلاً أم آجلاً عن كتكوت دكتاتوري جديد يسومكم العذاب أن لم تنتبهوا. ونقول للحكام تذكروا أن الشعب العراقي شعب لا يوالي أحداً حتى لو كان علي بن أبي طالب أو الحسين. أما الوطن فله رب يحميه حتى يغير الناس ما بأنفسهم، وأن غداً لناظره قريب.

ملاحظة: نرجوا الأشارة الى هذه المقالة عند أقتباس أي جزء.