القضاء العراقي كان ضحية المنظومات السياسية المشوهة في تاريخ السلطة ، وقد لعب دورا خطيرا في تنفيذ إرادات الأنظمة القمعية المتتالية ، ويمكن عدّ العراق من البلدان الفاقدة واقعا لاستقلالية السلطة القضائية ، لانها كانت جزءا من لعبة تغيير المفاهيم والديموغرافيا البريطانية في الشرق الأوسط .
والحديث عن واقع القضاء في العراق يحتاج الى مجلدات ومجلدات ، وكذلك سيل من الدموع عند استذكار الدماء الطاهرة التي سالت بسيف القضاء العراقي المنفّذ للارادة القمعية منذ ١٩٢٠ ، الا ما شذّ وندر لأسباب شخصية وتربوية .
لذلك ساقتصر في مقالتي هذه على موقف مستجد ، لشخصية قضائية تمثّل خلاصة النظام القضائي المشوّه في العراق ، وقد تمت صناعتها وفق فكر النظام البعثي الملحد والفوضوي ، وذلك الموقف هو التصريح الذي ادلى به ( مدحت المحمود ) بعد لقائه بمجموعة نسوية تدعو الى نشر الفكر العلماني في هذا البلد المسلم ، حيث قال ما مضمونه ( انّ منح حقّ إبرام عقد الزواج لمأذون شرعي خطّ احمر وتعدّي على السلطة القضائية ) .
وهذا الموقف – وان كان غريبا ومستهجنا وفيه تحيّز سياسي وفكري واضح لا يتناسب مع دور السلطة القضائية ومهام القاضي – الا انه متوقع من شخصية كشخصية المحمود .
فالرجل تمّ اختياره كقاضٍ – بعد ان كان محققا عدليا – مع قدوم ماكنة الظلم والظلام البعثية عام ١٩٦٨ . وليست تلك مصادفة زمانية ، بل كان احد الشخصيات ذات الجلد المتلون المناسب للمشروع البعثي القائم على تغيير كافة المنظومة الاجتماعية والأخلاقية والفكرية والسياسية في العراق ، واعتماد المبادئ اللادينية الإلحادية لاحقا . ثم استلم مهام دائرة التنفيذ عام ١٩٨٠ ، مع بدء الحرب العراقية الإيرانية ، وهياج منظومة القمع البعثية الصدامية ضد كل ما هو ديني . ثم عضوا في مجلس شورى الدولة للمنظومة العشائرية العائلية الصدامية ، والذي هيأ لهذه العائلة المتخلفة كل الأسباب القانونية لابتلاع العراق وثروته . وكذلك رئيسا لمحكمة القضاء الاداري ، التي كانت تنظر ظلامات الموظفين والعاملين العراقيين ، لكنها تحكم لصالح ظالمينهم من شذاذ البعث والبداوة . ليعمل عام ١٩٩٥ وبأمر من وزير العدل الصدامي – ولا اعلم اي عدل في تلك الفترة التي شهدت الإبادات الجماعية لابناء وسط وجنوب العراق بعد انتهاء الانتفاضة الشعبانية وبدء مرحلة تصفية الحسابات – في الدائرة القانونية لديوان الرئاسة الصدامي . ثم قاضٍ في محكمة التمييز التي تمّ على يديها ما تمّ من هدر كرامة العراقيين . وأخيرا قبل سقوط النظام القمعي الصدامي عمل رئيسا لمجلس شورى الدولة .
كل هذه المراكز الوظيفية الكبرى في ذلك العصر الأسود لم تكن تُنال الا بالدم والقمع والتملّق كما عشنا وشهدنا واقعها ، ولن يكون وضع مدحت المحمود بدعا من ذلك . وقد عمل ضمن المنظومة القضائية التي خضعت لقوانين التخلف والالحاد الصدامية ، ببداوتها وعشوائيتها ، تحت شعار صدام المشهور ( عبد سوّيلهم قانون ) ! ، ولا اعرف اي قانون سينتج عن عقل ( عبد حمود ) المتخلف والدموي . لذلك كان مدحت المحمود من اهم العناصر القضائية التي ساهمت في كتابة وتقنين أفكار ( منال يونس ) للأحوال الشخصية ، وهي تلك المرأة الصدامية المعروفة بكل صفة رديئة . وهي قوانين تمّ فرضها بالقوة والقمع ، ومن ثم اكراه الناس للاحتكام اليها . وكان جزءا من مهام أمثال المحمود نشر الفكر المناصر لها بين الناس .
لذلك كان من المتوقع والمنطقي بعد احتلال العراق من قبل التحالف الامريكي انتداب المحمود للاشراف على وزارة العدل والسلطة القضائية ، لانه يمتلك ذلك الجلد المتلون المناسب للرغبات الامريكية ، كما انه يملك التاريخ المتوافق مع العقلية الامريكية للمستخدمين . لذلك كان المحمود لا يتحرج من نشر صوره – وهو يجالس الجنود الأمريكان – وبيده كؤوس الخمر رغم ان بلده محتل ومستباح من قبلهم .
ومن هنا تمّ تعيين مدحت المحمود عام ٢٠٠٣ على رأس السلطات القضائية والعدلية بأمر من سلطات الاحتلال . وكان ذلك دون الرجوع الى السلطات العراقية ، ولمدة سنتين ، حتى تمّ فرضه على أمّعات السياسة العراقية في عام ٢٠٠٥ ، ليتم إصدار مرسوم جمهوري بتعيينه على رئيسا لمجلس القضاء الأعلى وكذلك رئيسا للمحكمة الاتحادية .
ووفقا لهذه السيرة والنشأة ضمن الأجواء الدكتاتورية لم نكن نعجب حين استحوذ مدحت المحمود على ثلاثة مناصب كبيرة في آن واحد ، وبقي يديرها لفترة طويلة نسبيا ، في مخالفة للقانون وفلسفته ، وفي قفز على اليات الادارة المنضبطة والحديثة . ولا نعجب اذا ما تجاوز ايضا المحمود السن القانوني وظلّ متمسكا بمناصبه ، فهو الابن الشرعي لنظام كان يؤمن بالشمولية والاستحواذ . لذلك تمّ شموله بقرارات هيئة المساءلة والعدالة ، وتقرّر اجتثاثه ، لكن – كما هو متوقع – كان يحمل سندا أمريكيا وبعثيا للبقاء .
ولو تجاوزنا كل ذلك التاريخ المشؤوم للمحمود ومنظومته ، اخذنا تصريحه هذا من الناحية الدستورية ومن ناحية الفلسفة القانونية ، سنجد انه مخالف للدستور ، كما انه يفتقر الى قراءة واقعية للمجتمع العراقي وبالتالي ما يناسبه من فلسفة يقوم عليها القانون .
ان الدستور العراقي قد احال تنظيم قوانين الأحوال الشخصية لكل طائفة لما يناسب معتقداتها ، واخضع ذلك لرغبة وخيار الشعب ذاته ، ضمن المواد الآتية :
المادة ٤١ – ( العراقيون احرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم او مذاهبهم او معتقداتهم او اختياراتهم ، وينظّم ذلك بقانون ) .
المادة ٤٢ – ( لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة ) .
المادة ٤٣ – ( اتباع كل دين او مذهب احرار في : أ – ممارسة الشعائر الدينية … ) .
المادة ٤٥ – ( ثانيا – تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية ، وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون … ) .
لذلك كان تصريح مدحت المحمود – غير الموفق والاستفزازي – مخالفة صريحة للدستور ، وتضييقا واضحا ومتحيّزا للحريات والحقوق .
ومن جهة الفلسفة التي يقوم عليها القانون ، فكان الاجدى التساؤل عن سبب ذهاب الملايين – بل الأغلبية الساحقة من العراقيين – لإجراء عقد الزواج خارج المحاكم القائمة ، ولماذا لا تكتفي هذه الملايين باجراءات المحاكم ، لعلم حينها المحمود ومنظومته التغريبيّة الشاذّة ان الشعب العراقي المؤمن يعتبر كل القوانين التي كتبها المحمود في الأحوال الشخصية باطلة ، ويراها تخالف حكم الله ، ولا يمكن الاعتماد عليها . لذلك يجب على المحمود التزام الفلسفة التي يؤمن بها غالبية الشعب العراقي ، لا فلسفة منال يونس وهناء أدور .
وقد اطلق مدحت المحمود تصريحه هذا بعد لقائه بمجموعة صغيرة من النسوة الداعيات الى العلمانية ، بقيادة ( هناء أدور ) ، وهي المعروفة بمعاداتها للقيم الدينية عموما ، والإسلامية خصوصا . كما أولاء النسوة بعيدات كل البعد عن نتائج وخيارات المشهد السياسي العراقي ، وهنّ لا يشكّلن قطرة في بحر النساء المؤمنات الداعيات الى حكم الله وضروة احترام معتقداتهن . لكن يبدو ان المحمود ليس اكثر من سياسي متحيّز ، لا يصلح لإدارة سلطة مستقلة حكمية .
كما ان ابداء الرأي حول القوانين النافذة ونوعيتها وتشريعها ليس من صلاحيات او اختصاصات المحمود ، فهو رئيس جهاز واجبه تنفيذ القوانين – مهما كانت – لا تشريعها .
لكن يبدو واضحا ان المحمود وأدور وكل هذه المنظومة هي وليدة عصر الفوضى والبداوة وانهيار القيم ، والدليل انهم يتحدثون في قانون يدركون انه لا يستند الى فلسفة فكرية او قيمية واضحة ومفهومة . ومثال ذلك :
( ان الأب ملزم بالنفقة على ابنائه ، في حالة طلاقه لزوجته ، مع امر المحكمة بوجوب منح حضانة الأبناء للامّ ، وحرمان الأب من ذلك ، حتى وان كانت الامّ موسرة وذات مرتب شهري يساوي او يفوق راتب الأب ) ..
وهذه المنظومة القانونية الجائرة تحمل عدة نقاط ضعف خطيرة وواضحة ، فهي اولا تخالف المعتقدات الدينية للمجتمع العراقي وتخالف تعاليم الاسلام ، كما انها تتنافى ومبدأ المساواة بين الرجل والمرأة الذي تنادي به ( هناء أدور ) ومنظومتها الضبابية ، حيث تفرض على الرجل ما لا تفرضه على المرأة ، فيما تمنح الثانية ما لا تمنحه للأول ، وهذا انتهاك واضح لحقوق الانسان ومشاعر وحاجات وضرورات الرجل الأب . وبالتالي لا تقوم هذه المنظومة القانونية على فلسفة عقلية او دينية واضحة ، لكن يبدو انها وضعت بصورة عشوائية لمعارضة النظم الدينية فقط .
وربما تظنّ بعض النساء انّ هكذا قوانين هي في صالح المرأة ، لكن عند الإمعان فيها وفي نتائجها سترى انها وقعت في عملية خداع ونصب كبيرة ، هدفها ايذاء والاساءة للمرأة العراقية المسلمة . فهذه القوانين تريد تقييد حرية المرأة ، ومنعها من الارتباط والزواج مرة اخرى ، حيث تثقل كاهلها بمجموعة من الأبناء ، يكونون سببا وعائقا كبيرا امام أية فرصة للزواج الثاني ، وهذا ما يبحث عنه واضعو هذه القوانين ، لعلمهم بحاجات المرأة النفسية والعاطفية والغريزية ، وشدّتها ، ومن هنا فهم يؤسسون لمشروع امرإة مضطربة او منحرفة . كما انّ هذه القوانين كفيلة بعزل شبه تام لدور الأب – المهم – في حياة ابنائه ، وهو ما يؤسس لمشروع شباب يعانون الضياع ويفتقدون الى دور الحزم في تربيتهم ونشأتهم . اما الابّ فيبقى مشدودا ومثقلا بمسؤوليته التي تمّ حرمانه من ادائها عبر قوانين جائرة ، وسيفكّر الف مرة قبل اجراء عقد زواج اخر ، بل ربما سيفضّل العلاقات المشبوهة الاسهل ، اذا أضفنا باقي منظومة قوانين المحمود للأحوال الشخصية . وهذا كلّه كان في ذهن واضعي هذه القوانين – المخالفة للسماء – وأكثر .
وانا لا الوم المحمود ومنظومة التغريب والتخريب هذه ، فهم قد وجدوا أنفسهم شيئا بعد غياب عوامل الردع عن ذهنهم ، حيث تركت المؤسسة الدينية واجبها ، في سنّ قوانين الله ، لا سيما مع توفّر فرصة ذلك دستوريا وشعبيا ، ببركة دماء المؤمنين من أبناء الشعب العراقي الموالين .
ولمّا كانت المؤسسة الدينية – رغما عنّا – تم اختزالها بمرجعية عليا ، فكان على هذه المرجعية العليا إخراس المحمود وتعريفه حدوده ، وبيان الخطوط الحمراء – بدماء شهدائنا – للشريعة المحمدية العلوية .
خصوصا ان السياسيين الإسلامويين العراقيين – وبالأخص الشيعة منهم هنا – قد اثبتوا انهم لا علاقة لهم بحكم الله ، وليس لديهم أدنى ارتباط بجعفر بن محمد الصادق ، الا ( قدر الهريس ) .
ولاننا نعلم ان السيد ( السيستاني ) ليس له مواقف مشهودة شخصا ، ولا يتحدث اعلاميا – لأسباب لا زالت مجهولة – ، وأنّ وكلائه ومعتمديه هم من يديرون قرارات مؤسسته ومكتبه ، فكنّا ننتظر من وكيليه – التلفازيين – الشيخ عبد المهدي الكربلائي والسيد احمد الصافي ان يلجموا أمثال المحمود وأدور .
لكن من الواضح جدا ان هناء أدور كانت اكثر حركيّة وفاعلية في نشر افكارها وعقائدها من الكربلائي والصافي ، وان مدحت المحمود كان اكثر جرأة وتحديا وسرعة من المرجعية العليا .
وهنا اعجب كثيرا من الغفلة التي اصابت هذه المؤسسة التي تمثّل الملايين من ضحايا البعث والاحتلال ، عن مثل المحمود وشركاءه ، من بقايا النظام العفلقي البعثي ، وصنائع الاحتلال الامريكي .
ولا افهم كيف يرضى غيور ما ان يعتلي أمثال المحمود سدّة السلطة القضائية ، التي يُفترض انها العادلة ، رغم أنف الضحايا ! .
ألسنا كنّا نحمل السلاح ضد هؤلاء ذاتهم ؟! ، الم نكن نعلن الثورة رفضا لقوانينهم وافكارهم الشمولية والقمعية والغريبة ؟! ، أليس كان مطلبنا حاكمية الله وفقه جعفر بن محمد الصادق ؟! .
ربما ان تشابه الصافي والكربلائي والمحمود جميعا في تجاوزهم للمدة القانونية لمناصبهم يكون شفيعا مشتركا للتغاضي عمّا يبدر من او عن الاخر .
ليس الرد المناسب على المحمود اليوم سوى اعلان المرجع السيستاني نصرته لعقيدة الشعب العراقي ، في إيمانه بشريعة الاسلام المحمدية ، الواردة عن طريق جعفر بن محمد الصادق ، ومطالبته بسنّ قانون الأحوال الشخصية بما يكفل احترام حقوق الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب العراقي ، التي تُجري دمائها انهارا ، دفاعا عن المرجعية ومنصب المحمود .
وإلا فالاولى للمرجعية وكل مؤسساتها ووكلائها احترام تاريخ العراق الشهيد ، المؤمن ، الموالي ، الثائر ، وترك السواد الى أهله .