في العقدين الاخيرين انتشرت على نطاق واسع مفاهيم تحررية وأصوات تدافع عن حقوق الانسان وحكم القانون وحرية الفرد في المعتقد والتفكير والتعبير، وضرورة الانفكاك من كل القوى الخارجيه المعيقة للحريات، ان كانت من قبل الدولة أو المجتمع أو الدين أو التقاليد. بالطبع تعتبر تلك الشعارات تقدمية نبيلة، وقد تم نشرها بحماس من قبل النخب المثقفة والإعلام والسوشيال ميديا، وسرعان ما وجدت لها صدىً واسعاً بين أفراد المجتمع المتعطشين للحرية عقب عقود طويلة من انسحاق الفرد والقمع والمقابر الجماعية والحروب. ولكن ما هو اشكالي ان تلك المفاهيم والقيم النبيلة تنسب الى الليبرالية الرأسمالية حصراً، مما يثير جملة من الاسئلة، احاول هنا ان اجد اجابات لها.
هل لليبرالية حق مصادرة تلك المنظومة من القيم والمفاهيم التقدمية وادعاء ملكيتها حصرياً؟ وهل تمتلك اللبرالية (وخاصة أجندتها الاقتصادية أو ما يسمى باللبراليه الجديدة) جذورا ضاربة في ثقافة المجتمع العراقي وتاريخه السياسي الحديث؟ أم هي مثل شجرة اصطناعية في اعياد ميلاد ( ديمقراطية اميركا)؟ وهل تنسجم مواقف ومتبنيات الليبرالي العراقي مع الرؤية الفلسفية لنظيره الاوربي، أم مازال متشبثا بنسق من المفاهيم والافكار المشتبكة ببعضها في سياق متناقض؟
للأجابة على تلك الأسئلة لنرجع أولاً الى منشأ الفكر الليبرالي في اوربا بالقرن السابع عشر عقب الثورة الصناعيه وبداية صعود الطبقة البرجوازية الصناعيه والتجارية.
كي تشق الرأسمالية طريقها في أول صعودها وفي خضم كفاحها ضد الاقطاع، كانت بأمس الحاجة الى قوانين تحرير التجارة من القيود، و اطلاق حرية اليد العاملة لانها بحاجة ملحة لقوة عملها، و حماية الملكية الفردية لحماية رؤوس أموالها. من هنا جاءت دعوات فلاسفة التنوير لاطلاق الحريات الفرديه وحكم القانون وكان الرائد في هذا المجال جون لوك.
لقد كانت التجارة عرضه لتدخلات الدولة الاستبدادية ممثلة بثلاثي الملك والكنيسة و اللوردات الإقطاعيين، والملكية الفردية غير محمية وعرضه للمصادرة من قبل السلطة وأصحاب النفوذ، أما الايدي العاملة فهي الاخرى ليست حرة، فالعوائل بأجيالها المتعاقبة تعمل في نفس المكان لصالح اللورد أو الكنيسة أو الملك وحاشيته ولا خيارات اخرى امامها. لذا طالب جون لوك بضمان الحق الطبيعي للفرد بالحياة ضمن عقد اجتماعي، والمساواة أمام القانون واطلاق الحريات الفردية وعدم تدخل الدولة بالسوق وحماية الملكية الفرديه. (يشترط جون لوك على مشروعية الملكية الفرديه أن تكون من ناتج عمل المالك، ولكنه يضيف – وهنا المفارقة- “ان ما ينتجه عبدي هو من ضمن ملكيتي”).
هل هذا يعني اننا مدينون لليبرالية الرأسمالية فيما حققته النظم السياسية اليوم من تشريعات لحقوق الانسان والمساواة امام القانون و المشاركة السياسية للعامة؟ ليس تماماً وربما العكس، فقد كانت النظم الرأسمالية تحرص على ان تكون تلك الحقوق للرجال دون النساء، للبيض دون السود، وللملاك دون الأغلبية التي لا تملك من الثروة شيئاً. ولم تتوسع دائرة الحقوق والحريات التي يتمتع بها الأنسان المعاصر إلا بفضل كفاح منظمات الدفاع عن الحقوق المدنية وانهاء العبودية، والحركات النسوية ونضالات الاحزاب والنقابات عبر تاريخ طويل تخللته ثورات واحتجاجات قمعتها النظم الرأسمالية الحاكمة وراحت ضحيتها أعداد كبيرة من الشهداء. اذن لا يحق لليبرالية احتكار تلك المنجزات الحضارية والادعاء بملكيتها حصرا.
نشأت اللبرالية الاوربيه وتطورت عبر العصور من القاعدة الى القمة عبر حراكات شعبية وتحولات اقتصادية اجتماعية، وقد نجحت في ترسيخ أفكارها وقيمها في ثقافات مجتمعاتها، ومن باب المقارنة اقتحمت الليبرالية الفضاء الثقافي في العراق بعد 2003 كايديولوجيا نخبوية، روجت لها فئه من المثقفين والاكاديميين في حملة تبشيرية شاركت فيها مراكز صناعة الرأي ومنظمات غير حكومية NGOS- اغلبها ممولة من قبل المركز الرأسمالي- لتهيئة بيئة ثقافية مناسبة لرأسمالية متوحشة يرزح المواطن فيها تحت رحمة قوانين السوق والتجارة وخصخصة الخدمات وتقويض مؤسسات الرعاية الاجتماعية، تلك السياسة الاقتصادية التي آل تطبيقها في معظم الدول النامية الى تدني نسبة النمو الاقتصادي وزيادة في الديون الخارجيه وصعود طبقة أوليغاركيه فاسدة وفاحشة الثراء وأغلبية غارقة في فقر مدقع.( البلدان التي نجحت في تطورها الرأسمالي هي تلك التي رفضت وصفة اللبرالية الجديدة وأبقت أسواقها الرأسمالية تحت رقابة وتخطيط الدولة وخلقت توازناً ما بين النمو والرعاية الاجتماعية كالصين والنمور الآسيوية وقبلها اليابان والمانيا)
اللبرالية – وخاصة في جانبها الاقتصادي ودعوتها للفردانية المتطرفة- لا تنسجم مع الهوية الثقافية للمجتمع العراقي. قد تتعرض المجتمعات في مراحل تاريخية معينة الى أنكسارات تعرض هويتها الثقافيه الى بعض التشوهات، ولكن عاجلاً أو آجلاً لابد أن تستعيد ثقتها بذاتها وتحقق تماسكها مستلهمة قوتها من ثراء تراثها الذي يمثل ركيزة أساسية وذاكرة حية للفرد والمجتمع. الهوية الثقافية الحقيقية للفرد والمجتمع العراقي منحازة للفقراء ومفعمة بروح التشارك والتضامن الجماعي وتستهجن الانانية والنزعة الفردية التي تبشر بها اللبرالية الرأسمالية، هوية تشكلت مما تراكم في الذاكرة الجمعية من كفاح ضد الاستغلال ولنصرة الفقراء، من مشاعية المسيح وابي ذر الغفاري، مروراً بالقرامطة وثورة الزنج إلى نضالات الأحزاب والحركات السياسية ضد الاستعمار البريطاني والاقطاع المتخادم معه وعبر مسيرة طويله من الكفاح دفاعاً عن حقوق الطبقات والفئات المهمشة، وقد انعكس ذلك في الارث الادبي والفني الذي كان له دور مميز في رسم ملامح الهوية الثقافيه. ولم يعرف تاريخ العراق الحديث حركات سياسية ذات شعبيه يعتد بها تنتهج المذهب الليبرالي الرأسمالي، (يصنف البعض الحزب الوطني الديمقراطي خطأ كحزب ليبرالي وهو في الحقيقة أقرب في برنامجه الى الأحزاب الاشتراكيه الديمقراطية).
المواقف التي يعلن عنها اللبراليون في الاعلام والسوشيال ميديا ثكشف عن تناقضات حادة، لا تنسجم أحياناً حتى مع اسس المذهب اللبرالي، ربما يعود ذلك الى عدم اتساق اللبرالي العراقي مع هويته الثقافية أولاً، والى محاباة القوى الخارجية التي تقدم له التسهيلات أو التمويل ثانياً، و لم يعد خفياً أن الغرب الرأسمالي من جهة وحكومات الخليج في المنطقة من جهة اخرى من أكبر الداعمين لدعاة اللبرالية. بالطبع الدعم من قبل الغرب الرأسمالي واضح الاهداف و منسجم مع الأجندات السياسية والاقتصادية لتلك الحكومات، ولكن ما نشهده في العقد الأخير أن حكومات الخليج تغدق أموالاً على الكتاب والمفكرين وتقوم بانشاء مراكز دراسات واقامة المحافل الثقافية وشراء الصحف والقنوات الفضائية لترويج الفكر اللبرالي الذي لا يتسق أصلاً مع سياسات أنظمتها القروسطية، ولكنها حريصة على تسويق صورة متحضرة لأنظمتها، كما أنها تستثمر ولاء المثقفين الليبراليين لدعم مواقفها في صراعاتها مع خصومها واسكات الاصوات الناقدة لسياساتها، وهي مطمئنه من أن الليبراليين لا يمكن ان يكون لهم من التأثير ما يهدد أنظمتها.
جولة سريعة في بعض مواقف دعاة اللبرالية تكشف عن سعة المسافة بين الشعارات النظرية والمواقف الحقيقيه.
حرية التعبير وحقوق الانسان:
حرية التعبير مقدسة لدى اللبرالي العراقي اذا كنت على وفاقٍ مع ما يراه، وبغير ذلك تراه يستحضر حزمة من آليات القمع الناعمة لأسكات المختلف واصدار أحكام جاهزة ورادعة على شاكلة( فكر مؤدلج، نظرية مؤامرة، فلسفة عفا عليها الزمن… الخ). بالطبع لا يمكننا انكار الأصوات اللبرالية الصادقة ضد انتهاكات حريه التعبير من قبل النظام الايراني وأذنابه من الاحزاب الميليشياوية في العراق، إلا ان تلك الاصوات تخفت أو تختفي تماماً حين يتعلق الامر بانتهاكات حرية التعبير أو حقوق الانسان من قبل انظمة اخرى (صديقه)، على سبيل الأمثلة لا الحصر: لم نسمع همسة تضامن لإطلاق سراح جوليان أسانج أو تبرئة سنودن، أو اي صيغة استهجان لحجب كل وسائل الاعلام الروسية في اميركا واوربا (بلدان العالم الحر وفردوس الديمقراطية وحرية التعبير)، أو الحكم 34 عاماً بالسجن على سلمى شهاب بسبب تغريدة في مملكة التعزير بالسيف وتقطيع أوصال المعارضين، صمت ازاء تجويع وابادة الشعب اليمني، أما قتل الفلسطينيين العزل وهدم بيوتهم وسلب مزارعهم لتوسيع المستوطنات و معاناة الحصار والسجون كل ذلك يقع خارج سياق اهتمامات اللبرالي وهو يقف منبهراً أمام أكبر برج في العالم بناه شيخ المطبعين.
– الموقف من التراث:
توجه عدمي لنبذ التراث واعلان القطيعة مع تأريخنا وتفتيت هويتنا الثقافية، بزعم ان تأريخنا ملوث بفيروسات الاستبداد والارهاب وإن كل فرد منا يحمل داخله إرهابياً صغيراً، موقف متناغم مع الحملة العنصريه لليمين المتطرف ويعارضها بشدة حتى لبراليو الغرب. تلك الاحكام المتعجلة وشيطنة الذات تستند إلى تحليلات كسولة تقصي الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لظاهرة الارهاب.
– الموقف من الاحتلال الامريكي:
بينما يتغنى اللبراليون بالشعارات الوطنية، لايفوتهم -بالتصريح أو التلميح- استحسان بقاء العراق تحت الوصاية الامريكيه التي ستخرج البلاد من النفق المظلم، وتفتح الابواب لبناء عراق مزدهر!! تلك الصيغة المتناقضة لمفهوم الوطنية لم يألفها القاموس السياسي قط عبر تأريخ الأمم التي عانت من الاحتلالات الأجنبية، و قد يكون هذا ما شجع فئه واسعة منهم لزيارة التاريخ الحديث وبناء صورة متخيلة لتمجيد فترة الاستعمار البريطاني وتلميع دور الشخصيات السياسية المتخادمة معه، والطعن بالشخصيات والاحزاب الوطنيه المكافحة من أجل الاستقلال آنذاك.
تلك عيّنه من مواقف جمّة تكشف عن تناقضات حادة في الخطاب السياسي لدعاة اللبرالية وتؤشر للهوّة الواسعة بين النظرية والممارسة، لذا يتعين عليهم اعادة قراءة خطابهم السياسي لتحقيق درجة معينة من الاتساق بين الشعارات ومصداقية المواقف على أقل تقدير.