قبل حوالي عام، وحينما راح تنظيم داعش الارهابي يتعرض لضربات وهزائم وانكسارات كبيرة في العراق، سربت بعض وسائل الاعلام العربية والاجنبية معلومات مفادها، ان “داعش” بدأ يبحث عن بدائل وملاذات له في غير العراق، وكذلك سوريا، تتيح له البقاء والتمدد الى مساحات اخرى، ومن بين مواطيء القدم التي اخذ يهيئ لها، هي مصر وليبيا والاردن واليمن.
وطبيعي ان تشكل مثل تلك المعلومات-حتى وان لم تكن دقيقة بالكامل- مبعث قلق للسلطات السياسية والاجهزة الامنية في الدول المشار اليها، وخصوصا مصر الاردن، بأعتبارهما يتمتعان بأوضاع سياسية وامنية تختلف الى حد كبير عما تعيشه كل من ليبيا واليمن.
وبالفعل شهدنا خلال العام المنصرم تعرض عدة مدن مصرية لعمليات ارهابية اودت بحياة عشرات المدنيين ومنتسبي القوات المسلحة والاجهزة الامنية، كان اخرها التفجيرات التي استهدفت كنائس للاقباط المسيحيين في مدينتي الاسكندرية وطنطا في التاسع من شهر نيسان-ابريل الجاري، راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى.
واكثر من ذلك، بدا من خلال مجريات الامور ان تنظيم داعش الارهابي نجح الى حد ما في انشاء وجود له في شبه جزيرة سيناء ذات الموقع الاستراتيجي الحساس، والاهمية الاقتصادية الفائقة.
هذه المعطيات والتحديات الامنية، ربما تكون من بين ابرز العوامل التي دفعت مصر الى الاقتراب من العراق والتواصل معه، للتنسيق والتعاون في مواجهة الارهاب الداعشي، والاستفادة من تجربة اجهزته الامنية والاستخباراتية في هذا المجال.
ويبدو ان زيارة رئيس التحالف الوطني العراق، السيد عمار الحكيم لمصر، على رأس وفد تحالفي كبير، لم تخرج عن اجواء ومناخات الهموم والتحديات والمصالح المشتركة بين القاهرة وبغداد، والمرتكزة على حقيقة وجود نظام سياسي مصري يتبنى سياسة الاعتدال والانفتاح على عكس انظمة سياسية اخرى في المنطقة مازالت تعول على اجندات الصراعات والحروب الطائفية والمذهبية العبثية، والمرتكزة ايضا على توجه سياسي عراقي نحو الفضائين العربي والاقليمي، يراد منه فك عقد الخلاف والاختلاف، وتضييق مساحات التشنج والاحتقان، وتكريس سياسة تصفير الازمات. ولعل وجود شخصيات سياسية متزنة ومتوازنة في بغداد، تمتلك خطابا عقلانيا حكيما، يمثل مدخلا مهما واساسيا للسير بذلك التوجه الى الامام.
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء، ورئيس مجلس الشعب، ومن التقاهم الحكيم في القاهرة، اكدوا على ان العراق ومصر يواجهان ذات التحديات الارهابية، وان العلاقات بينهما باتت في هذه المرحلة اقوى وامتن مما مضى، وان القاهرة مستعدة لتقديم الدعم والاسناد لبغداد في حربها ضد الارهاب.
هذه المواقف، وغيرها، كانت واضحة وجلية الى حد كبير في خطاب السيسي، في القمة العربية الثامنة والعشرين، التي عقدت في البحر الميت بالاردن اواخر شهر اذار-مارس الماضي، والذي كان-أي خطاب السيسي-مثار انزعاج لبعض الزعماء العرب، لاسيما ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز، وامير قطر تميم بن حمد.
واذا كانت التحديات الارهابية، قد مثلت العامل الابرز للتقارب بين بغداد والقاهرة، فأنها في واقع الامر هي ذاتها التي تسببت في ابتعاد القاهرة عن انقرة والرياض والدوحة، وهي ذاتها التي جعلت مصر والمصريين اهدافا للتنظيمات الارهابية، كما هو الحال بالنسبة للعراق والعراقيين.
ولاشك ان توافق وانسجام القراءات والمواقف-سياسيا وامنيا-لابد ان ينسحب وينعكس على العلاقات والمصالح الاقتصادية، فالرياض التي حجبت النفط السعودي عن القاهرة، كنوع من الضغط عليها، جعل الاخيرة تتجه نحو بغداد بوتيرة اسرع، بعيدا عن العقد والتراكمات الطائفية والمذهبية المقيتة، والتي كانت قد اطلت برأسها قليلا من ارض الكنانة خلال الفترة القصيرة التي تولى فيها القيادي من تيار الاخوان المسلمين محمد مرسي مقاليد الحكم (30 يونيو 2012-3 يوليو 2013).
تقول بعض القراءات لواقع السياسة الخارجية المصرية، انه لو لا الضغوطات الدولية والاقليمية، بشقيها السياسي والاقتصادي، لكانت العلاقات العراقية-المصرية، قد قطعت اشواطا طويلة خلال الاعوام المنصرمة، ونفس الشيء مع العلاقات المصرية-الايرانية، بحكم تشابك البعض من الملفات، وتداخل جملة من المواقف.
ليس الان، بل في وقت مبكر كانت مصر هدفا للتنظيمات الارهابية، لاسيما تنظيم القاعدة، ومن ثم تنظيم داعش، ففي عام 2005 اختطف الارهابيون القائم بالاعمال المصري في العراق صفوت الشريف واقدموا على تصفيته جسديا، ناهيك ان الاستهدافات والتهديدات المختلفة لافراد وشركات مصرية لمنعهم من التواجد والعمل في العراق.
ولعله من الملفت انه في العهد القصير جدا للرئيس الاخواني محمد مرسي انتعشت العلاقات بين مصر من جهة، وتركيا وقطر والسعودية من جهة اخرى، واصابها الفتور-ان لم يكن التأزم-مع دول اخرى مثل العراق وايران وسوريا، فضلا عن بروز نزعات التوتر الطائفي-المذهبي في المشهد المصري، وكان من بين مؤشراتها ودلالاتها، قيام عناصر ارهابية متطرفة بقتل رجل الدين المصري حسن شحاته بطريقة وحشية للغاية.
تدرك مراكز القرار السياسي، ومؤسسات صياغة التوجهات الاستراتيجية في القاهرة، ان مصر اذا فكرت وتصرفت بعقلانية وحكمة، ولم تقع في فخاخ الاجندات الطائفية والمذهبية، ولم تقحم نفسها في محاور معسكرات الحروب العبثية، ولم تخضع لسطوة امبراطوريات المال النفطية، فأنها يمكن ان تستعيد دورها المحوري في محيطيها العربي والاقليمي، ويمكن ان تحقق انتعاشا وازدهارا اقتصاديا ضروريا جدا لها، والاكثر والاهم من ذلك، تحصن نفسها من مخاطر المد الارهابي الداعشي وغير الداعشي، الذي راح يتوسع ويتمدد غربا نحو شمال افريقيا وجنوبها، وشمالا بأتجاه اوربا، وشرقا صوب افغانستان وباكستان وغيرهما من دول اسيا… والتقارب مع العراق والانفتاح عليه، يعد ابرز واهم مفاتيح القاهرة لكل ذلك.