الكل ينادي بوحدة العراق أرضا وشعبا، شاملة كاملة غير منقوصة، قوميات وأديانا وطوائف، والكل يتأرجح بين صدوق وكذوب، وجاد ولعوب، وشفاف ومراءٍ، والكل “يدعي وصلا بليلى.. وليلى لا تقر لهم بذاكا”، والكل يرفع شعارات الوطنية، حتى غدت مفرداتها أشبه بتراتيل لاهوتية على لسان كافر، وأضحى القسم الذي ردده ساستنا أصحاب القرار كأنه مصحف في بيت زنديق.
وكما قيل سابقا: بإمكانك خداع بعض الناس بعض الوقت، وبإمكانك خداع كل الناس بعض الوقت، ولكن ليس بإمكانك خداع كل الناس كل الوقت. إذ لم تعد تنطلي على العراقيين السيناريوهات المفبركة التي يؤلفها ويخرجها الأبطال المسوخ متسيدو الواجهة السياسية في البلد، كما لم تعد أحداث المسرحية التي تعرض فصولها منذ أكثر من عقد ونصف العقد على خشبة الساحة العراقية غريبة، فالخيوط التي كانت شائكة بنظر العراقيين ماعادت كذلك، فقد نُقض الغزل من بعد قوة، وانفك ماكان معقودا من ألغاز، وانحلت أزرار الأستار، وسقطت ورقة التوت بعدما تكشفت أوراق اللاعبين بمصائر البلاد وملايين العباد، وكفى بالتجارب المريرة التي عاش ويلاتها العراقيون شهيدا، وحسب مآلات أوضاع بلادهم المتردية كفيلا، تنم بمعطياتها عن سوء صنيع ساستهم، ودناءة نياتهم ومقاصدهم وأهدافهم من تسنم مناصب القيادة والتحكم، والتي -على ما بدا- كان مخططا لها قبيل سقوط نظام البعث عام 2003.
وما يؤلم حقا بعد كل هذا، أن العرض -رغم سماجته- لم يزل مستمرا على قدم وساق وعضد وفخذ، ومافتئ سعد يرد الإبل كيفما يشاء، أما القوس فما زال باريها يظلمها، ولم يمتثل لمن قال:
يا باري القوس بريا ليس يحسنه
لا تظلم القوس اعط القوس باريها
ولم يقف الحال عند هذا المآل، بل ساء مصيرا، حيث الواعظ لم يعد مشفوعا، ولا المرشد متبوعا، ولا الناصح مسموعا، وكأن الحال استحال في وادي الرافدين الى سلسلة أفلام لهتشكوك، أو صار يحاكي دوامة قصص لأجاثا كرستي، فما استيقظ العراقيون من كابوس أقض مضجعهم، إلا وجثم على صدورهم كابوس أشد وطأة وأحلك ظلمة وأضل سبيلا، وقطعا لم يكن هذا غير وليد شرعي لأبالسة عقدوا قرانهم الباطل على كراسي الحكم منذ ستة عشر عاما، وهم مخضرمون ومولعون بأكل السحت، وموكّلون بعقود حللها لهم شرع شيطاني، لم ينزل من سماء، ولم يخرج من أرض، بل سنّه ذكور، ماكانوا رجالا يوما إلا ليرفعوا شعار: الرجال قوامون، ولكن، علامَ قوامون؟ إنهم قوامون على المساكين من شعوبهم، قوامون على الضعفاء ممن خُدعوا ببهرج أقوالٍ ومعسول كلام، كانوا قد سمعوه من أفواه القوامين، في أيام مدلهمة أسموها أعراسا، كانت تقام على مآتم صناديق افتراء وزيف وخداع، أسموها هي الأخرى صناديق اقتراع، فجاء الوليد غير الشرعي، وهاهو يحكم ويتحكم بمصائر أهل البلد، من دون وازع او رادع او راد.
ما تقدم من سطور، ليس مشهدا مسرحيا تراجيديا، وهو بعيد عن التجني وكيل التهم، كذلك هو خارج عن دائرة القنوط واليأس، هو ياقارئي الكريم وصف غير مبالغ فيه، وإيضاح لم يكن للغلو فيه حصة، لما يدور على رقعة جغرافية تشابكت فيها خطوط الطول مع خطوط العرض، وتنافرت فيها اتجاهات، وتعاكست أخرى، وتقاطعت ثالثة، وتداخلت رابعة.
ما تقدم من سطور، لم يكتبه يراع، ولم تسهم في خطه أنامل، هو نزف يحمل أنين مرؤوسين مهمومين مغدورين، أضاع عليهم الرأس ماضيهم، ومازال قدما يلتهم حاضرهم، أما مستقبلهم فقد كتب عليه الضياع بين الغيب والجيب، فأما الأول فمحتوم، وأما الثاني فمحكوم لدى سراق محترفين.
ما تقدم من سطور سيدي القارئ، سما عن الظلم وترفع عن التظلم، هو حديث يشاركني فيه أكثر من خمسة وثلاثين مليون شاهد، وكفى برجلين شهودا، او رجل وامرأتين.
[email protected]