23 ديسمبر، 2024 5:46 ص

بين العِصّابة ولفة الحجاب الحديثة

بين العِصّابة ولفة الحجاب الحديثة

كان الليل قد ارخى سدوله، والنهار يلملم شعاع ضوئه المتناثر بين الافق، حين جلست إمرأة طاعنة في السن، قد افترشت التراب لمجلسها، وأسندت ظهرها لجدارٍ شُيِد من الطين الممزوج بالقش، والذي كان اشد تماسك من قلبها المتصدع، رفعت يديها المرتعشتين واللاتي التصق جلدهنَّ على عظامها دون ان يكون اللحم حائل بينهما، بعيدا عن مفردات دعاء الجوشن, ودعاء ميثم التمار, ونظم الكلمات في مناجاة الاله، واستذكرت بعض الكلمات لترددها بشجون، مفردات تحطم صوامع القلوب المتحجرة، وقالت “يراد يوسف من مغيبة ليعقوب ومسكن نحيبه اريد ابني علي سالم تجيبة” كانت قد حفظتها من من ناعي يصف بها حال السيدة (ليلى) عندما دعت لولدها (علي بن الحسين) عليهما السلام، في صبحيت العاشر من المحرم، عيون تلك العجوز بقيت شاخصة كل يوم على طريق السالكين، لعلها ترى نور وجه ولدها المرابط بساحات القتال، مهما تبتعد بينهم المسافات كانت هي تشعر به من خلال مشاعرها واحاسيسها التي اضحت لا تفارق قلبها المستعر، بحبها لفذت كبدها، اكبر من ان اصفها بكلماتي الفقيرة الضعيفة الذليلة امام جبروت صبرها وعشقها له.

في عالم تحليل الكلام، ومقاييس العاشق والمعشوق، والمحب والولهان، يقال ماخرج من القلب وقع في القلب، فما بالنا بمن خرج من الاحشاء! في تسع شهور كان ذلك الولد يناغي قلب العجوز، والان وبعد طول انتظار ، وحان وقت قطف الثمار، وموعد رد الدين وبر الوالدين، جلست متكئة على الجدار، وهو يحتضن بندقيته الى صدره وعلى مقربة من الموت، وكان وابل الرصاص المنهمر, وصواريخ المعركة المتلاطمة, وصوت هتافات الله اكبر التي يصدح صداها في الافق، استهلالاً وفرحاً بالانتصارات، كان الشغل الشاغل لذلك الولد الذي خلف ورائه امرأة لم ترى من سر الحياة سوى تنور من الطين، بجوار بيت بسيط بين النخيل ومحاصيل الحنطة والشعير، وأبقار وأغنام تجوب مرعى صغير.
نمت بنعومة اظافرها، في قرية مترامية المنازل، حياة الريف التي كانت محرقة لايام تلك الفتاة، لم تحلم بشيء ولم تطر بجناحيها الى كبد السماء، كانت مدرستها اقوال وأوامر تتلى عليها من بزوغ الشمس حتى المغيب، طبخ وتنظيف وتربية المواشي، وكأنها خلقت لتكون وعاء يحوي طفل، ذلك الطفل الذي منت النفس به، كل ليلة وهي تتأمل بوجه وليدها، وتغني له كلمات حفظتها عن امها عن جدتها عن الجده عن ؟ اظن انها حفظتها عن “حواء” ( دلول الولد يبني دلول) فليس لها سواه انيس فكان سر بقائها وجميع اهدافها وتطلعاتها، كانت ترسم على ضفت النهر عروسين وطفل، ولدها وحفيدها، حرمت من ابسط حقوقها حق التعليم، حق العمل كأنسانة لا كخادمة، حق العيش كامرأة حرة ترغب وتريد وترفض، لا كمستعبدة تتلقى الاوامر ولا تجيب حتى بنعم.

في يوم العنف ضد المراءة، وجهت الكاميرات والقنوات الفضائية صوب تلك المتعلمة لممارسة دورها في الحياة، وان تاخذ مجال اوسع في المضمار، فتترأس وتأمر وتنهي بمقياس آية الميراث ( للذكر مثل حظ الانثين)، وما بال تلك حمالة الحطب؟ ولادة الابطال والرجال، مصنع الشهامة الرجولة، مدرسة العز والاباء، مرضعت الصناديد والشجاع.
في المدينة يثنى على جهود المرأة ببعض انجازتها ويطالب بحقها كركن من اركان المجتمع، وحين يشتد خطر الارهاب وتبلغ القلوب الحناجر، ينادي المنادي ( شجابك وي بن معصابة)
-(العِصّابة) وهي قطعة من القماش الأسود، يلفنّ بها نساء الريف اعلى جبهتها، لتحفظ شعرها من الظهور من تحت الحجاب-،فيطلب الدعم من بنت الريف لتقدم اعز ماتملك من دنياها، فهي ليس لها غير ولدها تهديه قربان لارض الوطن.

ليس العطاء من الفضول سماحة
حتى تجود وما لديك قليل
حين تقدم عجوز الريف قلبها لا بل سر وجودها واعني ولدها فداء للعراق، فيجحف حقها التاريخ وتدون ثمار الانتصار بصحيفة غيرها وتقام الندوات لمن قدم دون منها، يجب ان يبنى صرحا لكبرياء تلك العجوز انا على يقين انها تجلس الان تتنتظر عودة ولدها بعدما اهالت عليه التراب بيدها.