18 ديسمبر، 2024 5:58 م

بين الظالِم والعالِم

بين الظالِم والعالِم

-1-
يفقد العالِم مكانته العالية ، وموقعه المتميّز ، حين يصطّف مع الظالمين ويكون من أعوانهم .

من هنا أطلق على طبقة العلماء الراكنين للحكّام الظالمين اسم (وعّاظ السلاطين) .

والحقيقة التي لا يشوبها شك هي :

انّ المرء يحشر مع من أحبّ

-2-

وقد تقول :

لماذا لا يتصل العالِم بالحاكم لينصحه ويُنير له الدرب

-كما هي وظيفته – ؟

والجواب :

ما قاله الامام الصادق جعفر بن محمد (ع) للمنصور العباسي :

( من أراد الدنيا فلا ينصحك ،

ومن أراد الآخرة فلا يصحبك )

وهو فصل الخطاب في هذا الباب

فالطاغوت لا يُصغي للنصائح بل يعدّها مواقف عدوانية ، تدفعه للثأر والانتقام ممن يسديها له !!

ومصاحبة السلطان الغاشم مسار محموم ، ومسلك مذموم ، وخيم العواقب .

-3-

وقد حفظ لنا التاريخ صوراً رائعة عن محاولات قام بها بعض السلاطين، لاستمالة بعض العلماء الزُهّاد، فلم تفلح واصطدمت بجدارٍ من الرفض الشديد ، والاصرار العنيد على البعد عنهم وعن ممارساتهم المحفوفة بألوان من الشوائب …

ومن ذلك ما ذُكر من علاقة صداقة متينة كانت تربط (هارون) (بسفيان) الثوري .

فلما تربّع الأول على دست السلطة (زارهُ العلماء بأسرهم الاّ سفيان الثوري فانه لم يَأتِهِ )

فكتب السلطان له رسالة يقول فيها :

(( بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله هارون أمير المؤمنين الى أخيه في الله سفيان بن سعيد الثوري .

أما بعد يا أخي :

فقد علمتَ انَّ الله آخى بين المؤمنين، وقد آخيتُك في الله مواخاة لم أصرم فيها حَبْلَكَ ، ولم أقطع منها ودّك ،

واني منطوٍ لك على أفضل المحبّة ، وأتمّ الارادة ، ولولا هذه القلادة التي قلّدنيها الله تعالى ، لأتيتُك ولو حَبْوأ ، لِمَا أجدُ لك في قلبي من المحبّة ، وانه لم يبق احدٌ من اخواني واخوانك الاّ زارني وهنأني بما صرتُ اليه

وقد فتحتُ بيوت الأموال وأعطيتهم المواهب السنيّة ما فرحت به نفسي وقرّت به عيني ،

وقد استبطأْتُكَ ،

وقد كتبتُ كتاباً مني اليك أعلمك بالشوق الشديد اليك ،

وقد علمتَ يا ابا عبد الله – ماجاء في فضل زيارة المؤمن ومواصلته ،

فاذا ورد عليك كتابي فالعجل العجل ))

ثم أعطى الكتاب لعبّاد الطالقاني ، وأمره بايصاله اليه ، وأنْ يحصى عليه بسمعه وقلبه رقيقَ أمره وجليله، ليُخْبِرَهُ به .

قال عبّاد :

( فانطلقت الى الكوفة ، فوجدتُ سفيان في مسجده فلما رآني على بُعد ، قام وقال :

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ،

وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق الاّ بخير

قال :

فنزلتُ عن فرسي بباب المسجد ،

فقام يُصلي ولم يكن وقت صلاة ،

فدخلتُ وسلمتُ فما رفع أحدٌ من جلسائه رأسه اليّ .

قال :

فبقيتُ واقفاً ، وما منهم أحد يعرض عليّ الجلوس ، وقد علتني من هيبتهم الرعدة ،

فرميتُ بالكتاب اليه ،

فلما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه ، كأنّه حيّة عرضتْ له في محرابه ،

فركع وسجد وسلّم ،

وأدخل يده في كُمّه وأخذَه وَقَبَلَهُ بيده .

قال عباد :

فمّد بعضهم يده اليه ، وهو يرتعد كأّنه حية تنهشه ،

ثم قرأه ،

فجعل سفيان يبتسم تبسُم المتعجب ،

فلما فرغ من قراءتهِ قال :

اقلبوه واكتبوا للظالم على ظهره ،

فقيل له :

يا ابا عبد الله انه خليفة ،

فلو كتبتَ اليه في بياض نقيّ لكان أحسن ، فقال :

اكتبوا للظالم في ظهر كتابه ،

فان كان اكتسبه من حلال فسوف يُجزى به ،

وان كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به ،

ولا يبقى شيء مسّه ظالم بيده عندنا ، فيُفسدُ علينا ديننا !

فقيل له :

ما نكتبُ اليه ؟

قال :

اكتبوا له :

بسم الله الرحمن الرحيم

من العبد الميت سفيان الى العبد المغرور بالآمال هارون ، الذي سُلب حلاوة الايمان ، ولذة قراءة القرآن

أما بعد :

فاني كتبتُ اليك أعلمك أني قد صرمت حبلك وقطعتُ ودّك ،

وانك قد جعلتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت على بيت مال المسلمين .

فأنفقته في غير حقه ،

وأنفذتهُ بغير حكمه ،

ولم ترض بما فعلته وانت ناءٍ عني حتى كتبتَ اليّ تشهدني على نفسك ،

فاما أنا قد شهدت عليك ، أنا واخواني الذين حضروا قراءة كتابك .

وسنؤدي الشهادة غداً بين يديْ الله الحكم العدل

يا هارون :

هجمتَ على بيت مال المسلمين بغير رضاهم …))

ولا نريد الاسترسال بذكر تمام تلك الرسالة الساخنة التي لم يبق ولم تذر، … فقد عبّرت خير تعبير عن الموقف الرصين الرافض، لا لكلّ ألوان الظلم فحسب بل لكلّ الاغراءات التي يقدّمها السلطان بغية ايقاع العلماء في فخّه .

والمهم هنا :

تشديد الانكار على انفاق المال العام في قنوات لا تتسم بالمشروعية .

ومن هنا بالذات :

علت صيحات العلماء ، وتوالت مستنكرة ما شهدته السنوات الثمان العجاف (2006-2014) من تبذير وإسراف في انفاق المال العام فضلاً

عن الاستمرار الرهيب في نهبه : بالعقود الوهمية، والعمولات الفلكية، والأساليب الشيطانية، حتى أصبحت خزانة الدولة خاوية تشكو العجز الفظيع ….

وأمضُّ ما يوجع القلب :أنَّ هناك من يتبرقع بالدين ، ويتظاهر بالصلاح وسيماء المتقين ، كان في طليعة السارقين ..!!

إنّ موقف المرجعية الدينية العليا ، المندّد بتقصير الحكومة السابقة في الخدمات ، وغضها النظر عن ملاحقة ومحاسبة كبار اللصوص والمفسدين ، يعتبر العامل الأبرز في إفشال اطروحة (الولاية الثالثة) التي وقانا الله أيامنها الداكنة .

*[email protected]