نعرفُ الشهرة بمفهومها العام أن يكون شخص ما مميزا ومعروفا لدى أوسع قطاع من الناس، والشهرة عالم فضفاض غير خاضع الى أية معايير أخلاقية أو مقاييس إعتبارية، فليس بالضرورة أن تكون هذه الشهرة قد جاءت نتيجة أفعال خيرة يقدمها أحدهم الى المجتمع، أو علم ينتفع منه، أو أدب أو فن راقٍ يرفع من إنسانية الإنسان، فقد أشتهر مجرمون وقتلة وحمقى وأفّـاقين، أما مساحة الشهرة فهي تتفاوت من (مشهورٍ) الى آخر، على وفق أمزجة وثقافة وذائقة المجتمعات البشرية.
هناك من إشتهر لأنه قدم خدمات إنسانية للبشرية جمعاء مثل العالم توماس إديسون الذي كانت إحدى إنجازاته العلمية – التي تجاوزت الألف – إنارة النصف المظلم المأهول من الكرة الأرضية، فيما كان خالق الكون قد إكتفى منذ الأزل ومازال بإنارة نصفه الآخر، لكن شهرته لم ترق الى شهرة العالم الفرد نوبل الذي إبتلانا بإختراع الجلاتين المتفجّر ما عرف بعد ذلك بالديناميت، والفارق الزمني بين الإختراعين ستة أعوام فقط !.
شهرة المهاتما العظيم غاندي لا ترقى هي الأخرى الى شهرة الجزّارين هتلر وموسوليني وستالين، وبالمطلق أن أي إستطلاع معاصر يقارن شهرة نيلسن مانديلا بشهرة أسامة بن لادن فإن الأخير يتفوق عليه، أما أغرب معايير الشهرة فهي تلك التي ألفناها نحن مواطني حافات العالم، فلدينا من المفارقات العجيبة والغريبة في جميع ميادين الحياة، فهناك من العلماء والأدباء والفنانين من غـُمِرو ولم ينلوا الشهرة والحظوة التي نالها غيرهم من السفهاء.
عندما سأل أحد الصحفيين العرب الأديب يوسف الصائغ في إحدى المرابد – تعقيبا على وصفه شاعر مهرجانات المربد : لماذا لم تحصل على الشهرة التي حصل عليها غيرك من الشعراء فقال (الشهرة عندنا إحدى غرائبنا، ففي بغداد شيءٌ أسمه همبركر أبو يونان، وقد ألِفَ الناس أن يقفوا طابورا طويلا أمام شباك هذا المطعم الصغير، فيما كان هناك أكثر من مطعم على أمتار منه يقدم نفس الطعام ومكوناته وربما أحسن، لكنه فشل في مجاراة شهرة أبو يونان ما إضطرها الى غلق أبوابها، أبو يونان مات وطابور الزبائن بقي على حاله، ويونان باع المطعم وهاجر الى كندا، والطابور على حاله).
لو سألنا ألف عراقي من تعرفون من هاتين السيدتين العراقيون : الأولى هدى عماش الملقبة بـ (الجمرة الخبيثة) والثانية زهى حديد ؟ لأجابت الأغلبية (هدى عماش)، وواحد منهم قد يعرف المعمارية العالمية زهى حديد التي رحَّبَ بها في الصين أكثر من نصف مليار إنسان عندما بنت لهم أشهر مول في العالم، العراقيون يعرفون الغجرية ساجدة عبيد، لكن الذين يعرفون عملاق الأغنية العراقية الموسيقار صالح الكويتي لا يتجاوزون العشرات، وشهرة الكيولية سناء تفوق مئات المرات شهرة الفنانة الراحلة زينب على سبيل المثال، ولكثرة ما جمعت سناء من ملايين الدنانير في مزرعتها الواقعة على الطريق الى سلمان باك، إستبدل أسمها الى (ملايين)، أما الإذاعي معلم الأذواق سعاد الهرمزي، فلم يحصل على واحد بالمئة من شهرة المذيع المُسفّه ماجد سليم التي فاقت شهرته شهرة العظيم رائد النحت العراقي جواد سليم، ففي إحدى حلقات التسفيه الإذاعي التي كان يقدمها هذا المذيع من إذاعة السفيه الآخر عدي صدام، كان قد سأل مستمعيه من هو جواد سليم؟. فلم يعرفه آنذاك أي منهم، بل جاءت معظم الإجابات وعلى مدى أكثر من ساعة مدة برنامجه أنه شقيقه (إي شقيق ماجد سليم)!!، برغم أنه حاول أن يغششهم ويقرب لهم الجواب متحدثا عن الباب الشرق ثم حديقة الأمة ثم نصب الحرية ولكن دون جدوى!, وفي لقاء صحفي لماجد هذا عام 2003 قال للزميل نبيل جاسم : لو أرشح نفسي لرئاسة الجمهورية لحصلت على أصوات أكثر من أي مرشح آخر!.
في حفل أقامته إحدى الكليات كان المؤرخ المرحوم حسين أمين من بين المدعوين، وقد تحلق حوله جمعٌ من الطلبة إحتفاءا به، يمطرونه بالأسئلة وهو بهدوئه المعهود يجيبهم، وإذا بالجمع ينفضُّ من حوله على حين غرة – وهو لم يكمل حديثه – مهرولين نحو باب القاعة عند سماعهم وصول المغني محمود العيساوي، فأسقط الرجل في يده!.
هناك شهرة تصنعها الأكاذيب، وهناك تشهير يسقط ناجحين، ففي عراق القرنين الماضيين – على وجه التقريب – ولغاية ستينات القرن الماضي كانت مقهى المحلة تتكفل بترويج كل ذلك، كانت تصنع شهرة لأحدهم لدوافع معينة، يقابل ذلك تشهير بآخر لأغراض معينة وإن كان الأخير ذو كفاءة أو مروءة، وهي سابقا – أي مقهى المحلة – المصدر الأبرز للمعلومة، الصائبة والمخطئة على حد سواء، وهي المؤثر الأهم للشهرة أو التشهير في الوسط الشعبي، لكن الخبر الكاذب أو المعلومة الملفقة كانت وستظل عندنا الأكثر إستهواءاً للمتلقي، فهي تحمل في طياتها عنصري التشويق والإثارة، فبإمكانك أن تطلق توليفة كاذبة ببغداد لتجد صداها بعد أيام في شوارع البصرة والموصل.
في العراق إشتهرت عوائل بأسماء الإمهات، ولتلك حكاية من الفائدة أن نذكرها، فعندما كانت المرأة تترمل تُجْبر ظروف بعضهن على العمل لأعالة أبنائها، فهذا إبن الخبازة وذاك إبن الخياطة، وشهرة أولائي محدودة ضمن عدد من الأزقة في محلاتهن، لكن الشهرة الأبرز تذهب للنساء اللائي يضطررن للعمل في السوق وسط عالم الرجال فتتصف رويدا رويدا بسلاطة اللسان وسفاقة الوجه، وهي صفات تكتسبها لا من قوتها بل من حياء الرجال من حولها، فتقاليد ذلك العصر كانت تعيب على الرجل أن يقف بوجه إمرأة, كقولهم إذا أردتَ أن تهين رجل إبعثْ له إمرأة، فتجد هذه المرأة من المكانة ما يجعلها تمتلك شهرة تفوق شهرة رجال السوق من حولها، ومنهن من إستفدن من هذه الحظوة فنجحن بعملهن وتجارتهن وصرن من أصحاب المال والأملاك بل فاقت شهرتهن شهرة رجال أغنياء حتى وإن كانوا أكثر غنىً منها، وبعد أن يرث الأبناء هذه الثروة يرثوا معها أسم الشهرة المرتبط بأمهم، وأمثلة ذلك الكثير من العوائل الشهيرة في كل بلدات العراق وأريافه.
أما التشهير فهو فصل آخر من فصول الشهرة، فهو من يطبق الآفاق أكثر من أي شهرة أخرى عندنا، وأحد أمثلة فصول الشهرة القائمة على التشهير ما ناله المطرب سعدي الحلي رحمه الله، أما القصة التالية التي سنردها هنا فهي من أشهر قصص التشهير التي عرفها البغداديين والتي مازالت الأجيال تتوارثها الى اليوم، وتؤلف من حولها الكثير من الأخبار والقصص، وهي في مجملها إنطلقت من كذبة روّجها (جمعٌ) أراد أن يشهّر (بجمعْ) آخر, دون الحاجة الى ذكر من هؤلاء ومن هؤلاء.
أتحدث عن إمرأة من سكنة كرادة مريم نزلتْ سوق العمل بمنطقة الكرخ بعد أن ترمّلت، حالها كحال مثيلاتها سابقات الذكر، فعملتْ وكافحتْ لسنوات طويلة من أجل إعالة أبنائها، فجمعتْ مالاً وإمتلكت بيتا، وفي الستينات عندما أقعدها التعب، إشترت لولديها شاحنة لنقل الركاب تعمل بين بغداد والبصرة، كان خطأها الأكبر إنها تبرعتْ ذات يوم من العام 1957 الى (جمع سياسي) ببعض المال، فطار صواب (الجمع السياسي) المضاد وهم يشكلون غالبيةٍ في منطقة الكرخ المعروفة – بين سكان بغداد القدامى – بعصبياتهم القبلية وبقدرتهم على التشهير وتوزيع النعوت اللاأخلاقية على خصومهم بالمجان، تشكّلت حلقات تلك المقاهي سالفة الذكر تؤلف حولها من القصص الكاذبة ما فاق التصوّر، ثم ألصقوا بها هوية إمرأة أخرى مطعون بسمعتها ومتوفية منذ نهاية الأربعينات كانت تسكن محلة الذهب، فإنطلتْ الكذبة على الناس، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل بعثوا بأخبارها الى إذاعة (صوت العرب) المصرية – وكانت تحترف أنذاك ما تحترفه قناة الجزيرة اليوم – لتبث ضمن باقة من الأخبار التحريضية اليومية الموجهة ضد عراق عبدالكريم قاسم كما كانوا يسمونه.
شاءت الظروف أن إلتقي بإمرأة مصادفة في العام 1972 تملك حافلة لنقل الركاب أردنا إستئجارها لمناسبة خاصة، كانت إمرأة في نهاية الخمسينات من عمرها، غاية في اللطف والطيبة والبشاشة، وأعترف من أني صُعقتْ عندما عرفت من أحدهم عقب لقائي الأول بها أني أمام (ح . م)، وإزدّدتُ فضولا للوقوف على حكايتها، ولم أتمكن من رؤيتها إلا في مطلع الثمانينات وتحت ذرائع واهية برفقة زوج إبنتها (ق . ح) وكان مدربا للخيول بنادي الفروسية، فوجدت الكِـبَرَ وتعب السنين قد أخذ منها مأخذاً، إستدرجتها لمحادثتي فكانت محافظة على لياقتها وبشاشتها.
حدثتني – رغم أميّـتها – عن وقائع سياسية عاصرتها، وعن شخوص إشتهروا في منطقتها، من سياسيين وشقاوات وكرماء وأنذال وشرفاء وفُجّار، عن الإتجاهات الوطنية السياسية في أيامها وكيف توزّعت الولاءات بين زملائها في السوق، فهذا يتبرع لتلك الجهة السياسية وذاك يتبرع لغيرها، مفتخرة أنها كانت تتبرع لفصيل سياسي وطني، وإنها عانت بسبب ذلك من عداوات كثيرة.
رجحتُ حينها أن تكون غير عارفة بما هو أبعد من هذه العداوات، أو إنها لم تسمع بما قيل ويقال عنها، أو هي لا تعرف أنها مشهورة كل هذه الشهرة (التشهيرية) على مستوى العراق كله تقريباً، ويبدو إن لا أحد أسمعها أو تجرأ وأخبرها بذلك, أو هي تعمدت التغاضي عن ذلك الجرح الذي أصاب سمعتها، وتوصّلت الى أن كل ما حيك حولها من قصص مشوهة للسمعة هي من أمهات خيال (الجمع المضاد)، ولا صحة لها إطلاقاً.
في لقاء جمعني بالأديب المرحوم محمد شمسي بمقر مجلة فنون بالصالحية عام 1986، نقل لي – عندما دار الحديث عن الإمرأة (ح . م) – أنه كان قد سأل يوما السياسي المؤرخ أمين الممّيز – صاحب (بغداد كما عرفتها) الكتاب الذي تطرق فيه لأسماء المشاهير (السفلـيّين) ومنهم النساء الغواني وغير ذلك – فنفى له الممّيز نفياً قاطعاً ورود أسم هذه الإمرأة في كل الأوساط التي تناولها، وإن ما نسمعه هو (تسفيط) على حد تعبيره.
تعطينا هذه القصة أكثر من مغزى إجتماعي وإخلاقي وطبائعي ونفسي، بل لابد من التوقف عندها طويلا، لما تكشفه لنا عن مدى قدرة البعض على الإدعاء والتزوير والتطبيل، ومدى قدرتهم على إيقاعنا أسرى تحت ضغط التشهير والتضليل.
ــــــــــــــــــ
بعد الإعتذار مقدما من أبناء وأحفاد هذه المرأة العراقية أعلن لكم أنها المرحومة (حسنية موسى واهي) التي ألصق بها الجمع المضاد ظلماً لقب (حسنة ملص)، وهو لقب ذو دلالات غير أخلاقية.
وللحديث عن الشهرة والتشهير بقية باقية.
[email protected]