17 نوفمبر، 2024 2:47 م
Search
Close this search box.

بين الدين والدنيا

يحاول بعض الكتاب إيهام القارئ أن كل فشل، وإخفاق، وعجز، وفساد، في العراق هو نتيجة طبيعية لصعود الأحزاب الإسلامية. وليس ثمة أحد غيرها يتحمل ما لحق بالبلاد من ضرر. أما الأحزاب الأخرى، فكلها خير وبركة وصلاح وتقوى. وهي الوحيدة القادرة على تحويلها إلى دولة عظمى.
وبنظر هؤلاء الذين لا يتركون وسيلة إعلامية أو موقعاً من مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن يدلوا بدلوهم فيه، إن جميع الأشخاص، والرموز، والمفكرين، ورجال السياسة والقانون والأدب، الذين يؤمنون بدور الدين في بناء المجتمع، هم فاسدون ومتخلفون ولصوص وجاهلون .. ألخ ، أما خصومهم فهم ملائكة وقديسون وعلماء، وخبراء، وغير ذلك من النعوت.
وتهدف هذه الحملة إلى الحط من قدر رجال السلطة، الذين جاءوا عن طريق الاقتراع المباشر، في عيون الجماهير التي انتقتهم من بين آلاف المرشحين. ورفضت التصويت إلا لأعداد قليلة من خصومهم. وقد وجد البعض أن لا سبيل إلى قلب هذه المعادلة إلا في النزول إلى الشارع. والإتيان بوجوه جديدة، لم تكن بأفضل حالاً، بل أسوأ منها بكثير.
وبالطبع فإن تجارب العراقيين مع العلمانية مازالت ماثلة للعيان. ومازال الناس يذكرون ما لحق بهم من آلام بسببها. ولذا فهي لا تحظى بالتأييد في الشارع. ولا تحصل إلا على مقاعد ضئيلة في المجلس النيابي. بل أنها جميعاً لم تصل للبرلمان إلا بتحالفها مع قوى إسلامية متطرفة.
والواقع أننا إذا ما قارنا بين الاثنين، فسنجد أن كفة الإسلاميين هي الراجحة. فهم وصلوا للحكم عبر انتخابات مباشرة. ولم يحدث مثل هذا حتى في العهد الملكي، الذي شهد حياة نيابية مشوهة. فقد كان بعض النواب (ينتخب) تارة عن بغداد وتارة أخرى عن العمارة وأحياناً عن (الدليم). وكانت مناطق بأسرها محرومة من التمثيل الحقيقي، مثل الجنوب، الذي لم تكن نسبة تمثيل أبنائه تزيد عن 27% في أحسن الأحوال.
إن ما يحاول الكثيرون زرعه في نفوس النشء الجديد هو أن المرء لا يكون نزيهاً إلا إذا كان علمانياً. أما إذا اعتنق العقيدة الدينية – وبالتحديد الإسلام – فسيكون فاسداً. وهي عبارة فيها الكثير من المغالطة. فالأديان كافة تقوم على ثوابت لا يمكن التهاون فيها، مثل الأمانة والعفة والنزاهة. أما ما سوى ذلك فليس من الدين في شئ. والصحيح أن تجري المقارنة بين أشخاص يمتلكون درجات متفاوتة من الكفاءة، بغض النظر عن الانتماء العقائدي. فما يهم الناس هو تحقيق أعلى قدر من النمو، وإرساء أعلى مستوى من الاستقرار. وبالطبع فإن الناخبين هم وحدهم الذين يقررون من هو الشخص الذي يعقدون آمالهم عليه. وجميع الأحزاب الدينية وغير الدينية تمتلك أعضاء جيدين وسيئين. فهذه سنة الحياة في كل مكان.
إن وجود أحزاب وتكتلات دينية متنافرة لحد العداء السافر، والكراهية العميقة، دليل على أن (الإسلام السياسي) ليس واحداً. وهناك على الدوام جماعات منشقة وفرق دينية تدعي أنها على حق وسواها على باطل. وأنصع مثل على ذلك التيارات السلفية.
والواقع أن الناس في العراق لا يقترعون على اسس دينية أو عقائدية، إلا على نطاق ضيق. وأهم ما يثير اهتمامهم درجة قرابة المرشح منهم. وهؤلاء في الغالب أشخاص محافظون محسوبون على التيار الديني، حتى لو لم يكونوا يمتون إليه بصلة. وليس من المتوقع أن تأتي الانتخابات بأشخاص استثنائيين، لأن الانتخابات هي انعكاس لما في الواقع من ظواهر اجتماعية وإنسانية.
حان الوقت الذي يدرك فيه الناس أنهم بحاجة إلى كفاءات حقيقية لتنوب عنهم في إدارة الدولة، وليس أبناء عم أو عشيرة أو منطقة، أو غير ذلك. فمثل هذه الانتماءات ليست هي المعيار السليم للاختيار. بل هي السبب الرئيس في كل ما أصاب العراق من أذى وقلاقل واضطرابات وتخلف.

أحدث المقالات