يُعدّ السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي أحد أبرز القادة في التاريخ الإسلامي، وقد رسّخ اسمه في الذاكرة الإنسانية بوصفه نموذجًا فريدًا للقائد الذي جمع بين القيم الإيمانية والأخلاقية، والحنكة السياسية، والشجاعة العسكرية. فقد أحدث صلاح الدين بإنجازاته تحولاً تاريخيًا غير مسبوق، بدءًا من توحيد الجبهة الإسلامية في أقاليم متعددة من العالم الإسلامي، ووصولاً إلى تحرير القدس، ما جعله رمزًا لعصر جديد من الوحدة والنهوض. وجذب هذا الدور البارز اهتمام المؤرخين والباحثين والمستشرقين على مدى العصور، إذ سعوا لفهم عمق شخصيته وأبعاد تأثيره.
غير أن هذا الاهتمام المكثف بسيرة صلاح الدين الأيوبي لم يكن بمعزل عن بعض الاِدعاءات المثيرة للجدل، التي تزعُم أن المؤرخين الشيعة هم من دوّنوا وحفظوا سيرته، ودوره التاريخي. ولذلك، تأتي هذه المقالة لتحليل هذا الزعم، ومساءلته بموضوعية، بالاستناد إلى استقصاء المصادر والوثائق التاريخية المختلفة، بهدف تقديم صورة متكاملة حول من وَثّق تاريخ صلاح الدين فعليًا، ونحاول فهم الكيفية التي أسهم بها المؤرخون في مختلف الاتجاهات في حفظ سيرته، بعيدًا عن التفسيرات الطائفية، والمعلومات غير المدققة.
من أبرز المؤرخين السُّنة الذين وَثَّقوا سيرة الناصر صلاح الدين الأيوبي، يبرز القاضي ابن شداد (539-632هـ / 1136-1234م)، وهو المعروف بالقاضي بهاء الدين يوسف بن رافع بن شداد. ويعتبر من كبار فقهاء ومؤرخي العهد الأيوبي. وشغل ابن شداد، الذي ينتمي إلى المذهب السُّني الشافعي، منصب قاضي العسكر في خدمة صلاح الدين، مما أتاح له قُرباً استثنائياً منه خلال حملاته العسكرية. وقد ألف كتابه الشهير “النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية”، الذي يُعد من أهم المصادر التاريخية التي وثّقت حياة صلاح الدين بشمولية وبدقة، بفضل معايشته المباشرة للسلطان. ويصف الكتاب الجوانب السياسية والعسكرية في حياة صلاح الدين، فضلاً عن إدارته للشؤون القضائية في دولته، معززاً بذلك قيمة هذا العمل كمصدر أساسي يقدم رؤية مؤرخ عاش الحدث.
أشار ابن شداد في كتابه إلى شخصية صلاح الدين قائلاً: “كان السلطان صلاح الدين رجلاً تقياً ورعاً، ملتزماً بالعبادة، محباً للخير، وكان لا يترك صلاة الجماعة، ولا يفتر عن ذِكر الله، وكان من أشد الناس تواضعاً وأحسنهم أخلاقاً” (ابن شداد، 1964م، ص 123).ويبرز كتاب “النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية” بخصائص عدة، منها:
وبناء على ذلك، اعتبر كتاب “النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية”؛ مرجعاً رئيسياً لفهم الفكر السياسي والعسكري لصلاح الدين، وطرق حكمه، ودوره في توحيد المسلمين في مصر والشام والحجاز واليمن والعراق.
وإلى جانب القاضي ابن شداد، اشتهر المؤرخ عز الدين بن الأثير (555-630هـ / 1160-1233م) كواحدٍ من أبرز مؤرخي العصر العباسي المتأخر، والمنتمي إلى المذهب السني الشافعي. وفي كتابه “الكامل في التاريخ”، قدّم ابن الأثير توثيقًا شاملاً لتاريخ العالم الإسلامي في تلك المرحلة. ويُعتبر كتابه مرجعاً مهماً لأحداث حياة صلاح الدين الأيوبي، رغم عدم ارتباطه المباشر به. وقد ركّز ابن الأثير على الأحداث الكبرى في حياة صلاح الدين، مثل معركة حطين وفتح القدس، وكما دوّن تاريخ الدولة الأيوبية برؤية معاصرة للأحداث، مما منح رواياته التاريخية مصداقية وشمولية حول تلك الحقبة التاريخية. وفي وصفه لشخصية صلاح الدين، كتب ابن الأثير: “وكان رحمه الله كريمًا، حليمًا، حسن الأخلاق، متواضعًا، صبورًا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يُعلمه بذلك ولا يتغير عليه” (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج10، ص 119).
وأما المؤرخ عماد الدين الأصبهاني (519-597هـ / 1125-1201م)، فهو من الأعلام البارزين في توثيق جهود صلاح الدين العسكرية. وقد ولد محمد بن صفي الدين المعروف بالأصبهاني في أصفهان، وثم انتقل إلى بغداد حيث تلقى تعليمه في المدرسة النظامية، وشغل مناصب عدة في العراق. وبعد وفاة نور الدين زنكي، وفد الأصبهاني إلى دمشق حيث توطدت علاقته بصلاح الدين الأيوبي، وبفضل توسط القاضي الفاضل، تقلد عماد الدين منصباً في ديوان الإنشاء، ورافق صلاح الدين ككاتب ومستشار في كثير من صولاته وجولاته العسكرية.
وفي كتابه “الفتح القسي في الفتح القدسي”، قدم الأصبهاني وصفاً دقيقاً لحملات صلاح الدين، لا سيما فتح القدس، مستفيداً من علاقته المباشرة من السلطان، وشكّل انتماء الأصبهاني للمذهب السني الشافعي أساساً قوياً لعلاقته بصلاح الدين، خاصةً بعد القضاء على الحكم الفاطمي في مصر، مما جعل الأصبهاني شاهدًا مباشراً على سياسة صلاح الدين الرامية إلى توطيد المذهب السني. ويعتبر كتاب الأصبهاني مصدراً هاماً يعكس التوجه السني في توثيق سيرة صلاح الدين، ويُقدم فهمًا معمقًا للحياة السياسية والعسكرية في تلك الفترة. وقد تميز الأصبهاني أيضاً بأسلوبه الأدبي الراقي، ومهارته الكتابية، مما أضفى على كِتابه قيمةً أدبيةً، وتاريخيةً عالية.
واشتهر المؤرخ والقاضي جمال الدين محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم الحموي، المعروف بـ“ابن واصل” (604 – 697ه/ 1207 – 1298م)، وقد ولد في مدينة حماة السّورية. وذاع صيته لكونه مؤرخاً وعالماً في الفقه والقضاء، بالإضافة إلى براعته في الأدب والشعر، وكان ينتمي إلى المذهب الشافعي في الفقه، وهو السائد في بلاد الشام في زمانه.
عاش ابن واصل مرحلة اضطرابات سياسية وعسكرية كبيرة، خاصة بعد الحروب الصليبية، وما تبعها من صعود الأيوبيين في الشام ومصر. ومن أهم مؤلفاته كتابه التاريخي الكبير “مفرّج الكروب في أخبار بني أيوب“، وهو من المصادر الرئيسية لدراسة التاريخ الصلاحي والأيوبي في بلاد الشام ومصر. ويعرض فيه تفاصيل دقيقة حول الأحداث السياسية والعسكرية في زمن الأيوبيين، بدءاً من تأسيس الدولة على يد صلاح الدين الأيوبي،وحتى نهاية حكمهم. ويتميز الكتاب بالتفصيل، والدقة في سرد الأحداث، ويعتمد على الشهادات المباشرة والمصادر الموثوقة، مما يجعله من الأعمال التاريخية المعتبرة. وعُرف ابن واصل بأسلوبه الأدبي والبلاغي الرفيع، مما جعل كتابه ليس مجرد عرض تاريخيشامل، بل عملاً أدبياً أيضاً؛ يجمع بين الأحداث التاريخية،والتحليلات العميقة، ويقدم رؤية واضحة عن دور الأيوبيين في حماية العالم الإسلامي من التهديدات الخارجية. وقد قال ابن واصل في كتابه عن صلاح الدين: “كان صلاح الدين منصفاً في حكمه، عادلاً بين رعيته، وشجاعاً لا يخاف في الله لومة لائم“. (ابن واصل، 1957، ج2، ص431).
ومن المؤرخين السُّنة الذين أرّخوا سيرة صلاح الدين، المؤرخ شمس الدين الذهبي (673-748هـ / 1274-1348م)، وهو الآخر تناول سيرة صلاح الدين في كتابه “سير أعلام النبلاء“، وقد ركّز على حياة السلطان الناصر، وإنجازاته، والإمام الذهبي كان فقيهًا ومؤرخًا سنيًا من المذهب الشافعي. حيث تناول حياة صلاح الدين ضمن تراجم لأبرز الشخصيات الإسلامية، وركز على إنجازات صلاح الدين العسكرية والدينية، معتمدًا على المصادر الموثوقة التي سبقته، ورغم أن الذهبي لم يُعاصر صلاح الدين، لكنه قدّم سيرة متكاملة استنادًا إلى المصادر التاريخية الدقيقة التي عاصرته.وجاء في “سير أعلام النبلاء“: “ وكان خليقًا للإمارة، مهيبًا، شجاعًا، حازمًا، مجاهدًا، كثير الغزو، عالي الهمة، كانت دولته نيفًا وعشرين سنة. وتملك بعد نور الدين، واتسعت بلاده” (الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج21، ص 279).
بينما أشار ابن كثير (700-774هـ / 1300-1373م) في موسوعته التاريخية “البداية والنهاية“ إلى سيرة صلاح الدين باختصار، مع تركيز على دوره في تحرير القدس. وابن كثير كان فقيهًا ومؤرخًا سنيًا شافعي المذهب، وهو معروف بتفسيره للقرآن، وبكتابه “البداية والنهاية”، إذ تناول سيرة صلاح الدين ضمن عرضه لأحداث التاريخ الإسلامي، وكتابه يتميز بالاعتماد على مصادر موثوقة، ويعد من أهم المصادر المختصرة لتاريخ الدولة الأيوبية.
وقال ابن كثير في حديثه عن معاملة صلاح الدين للأسرى وعوائلهم بعد معركة حطين والفتح الصلاحي للقدس: “.. وأطلق السلطان خلقًا منهم من بنات الملوك بمن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهم، وشفع في أناس كثير، فعُفي عنهم، وفرّق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يدع منه شيئًا مما يُقْتَنى ويُدَّخَر. وكان حليمًا كريمًا شجاعًا مقدامًا رحيمًا. أسأل اللّه تعالى أن يجدّد رحمته عليه، وأن يُقبل بوجهه الكريم إِليه” (ابن كثير، البداية والنهاية، ج14، ص 349).
وهناك المؤرخ تقي الدين المقريزي (766-845هـ / 1364-1442م)، وكان من فقهاء المذهب السني الشافعي، واهتم بتأريخ الدولة الأيوبية والمملوكية. وهو كتب عن صلاح الدين الأيوبي في كتابه “السلوك لمعرفة دول الملوك”، حيث ركز على دور صلاح الدين في إنهاء الحكم الفاطمي في مصر، وتأسيس الدولة الأيوبية، وهو تناول أيضًا تأثير صلاح الدين في نشر المذهب السني، ودوره في محاربة الصليبيين، مما عزّز من مكانة صلاح الدين في الأدبيات السنية.
وقد كتب المؤرخ شهاب الدين أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي (1032-1089هـ / 1623-1679م)، في كتابه “شذرات الذهب في أخبار من ذهب“ تاريخ صلاح الدين الأيوبي. وكان ابن العماد الحنبلي مؤرخًا وفقيهًا سنيًا؛ حنبلي المذهب، واشتهر بكتابه “شذرات الذهب في أخبار من ذهب“، والذي ضم تراجم لأهم الشخصيات الإسلامية، وقد ذكر صلاح الدين الأيوبي في سياق الأحداث التاريخية الكبرى مثل تحرير القدس، وتوحيد العالم الإسلامي، مشيرًا إلى إنجازاته ودوره في تقوية المذهب السني.
أما المؤرخ الحنفي ابن اياس (859 – 923ه/ 1455 – 1517م)، وهو مؤرخ مصري، وابن اياس معروف بتأريخه للأحداث المهمة في تاريخ مصر، ويعتبر من المصادر التاريخية المهمة في الحديث عن الحكم الفاطمي لمصر، وحتى نهاية الدولة الأيوبية. وقدّم ابن إياس تقييماً متوازناً لشخصية صلاح الدين الأيوبي، حيناعتبره قائدًا عسكريًا بارزًا وناجحًا في مقاومة الصليبيين في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور“. ولم يكن ابن إياس من المؤرخين الذين مدحوا صلاح الدين بصفة مطلقة، بل عرض بعض جوانب حكمه بنقد، فقد كان ابن إياس من المؤرخين الذين نظروا إلى صلاح الدين الأيوبي من زاوية السيطرة على مصر بعد نهاية الدولة الفاطمية الشيعية، وتحويل مصر من المذهب الشيعي الإسماعيلي إلى المذهب الإسلامي السُّني، فنراه يتناول الأمر من زاوية تبدل السلطة الحاكمة في مصر أكثر من كونه توثيق تلك الفترة على أنها توحيد للعالم الإسلامي في سلطنة صلاح الدين الأيوبي.
وقد ذكر من العلماء الكبار صلاح الدين الأيوبي ووصوفه بأروع الأوصاف مثل شيخ الإسلام ابن تيمية (توفي 728هـ / 1328م)، الذي أشاد بصلاح الدين الأيوبي، واعتبره من أعظم القادة المسلمين الذين ساهموا في مقاومة الغزوات الصليبية. وفي كتابه “الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح“، يُبرز ابن تيمية دور صلاح الدين في توحيد الجهود الإسلامية لمواجهة الصليبيين، ويعتبره نموذجًا للقائد المسلم الذي يجمع بين الشجاعة والإيمان.وأنه امتاز بخصائص قيادية كبيرة، مثل الفطنة والذكاء، مما ساهم في انتصاراته. كما يصفه بأنه كان ذو دين وورع، وهذا ما جعله محبوبًا بين جنوده ورعيته.
واشتهرت الكثير من الكتابات الحديثة في سيرة صلاح الدين الأيوبي، ولعل من أشهرها كتاب صلاح الدين الأيوبي لمؤلفه الدكتور علي محمد الصلابي، يتناول الكتاب سيرة صلاح الدين منذ نشأته حتى وفاته، مع التركيز على جهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس. وقد تُرجم لعدد من اللغات الأجنبية. وكتاب صلاح الدين الأيوبي: بطل حطين ومحرر القدس من الصليبيين لمؤلفه عبد الله ناصح علوان. يركز الكتاب على دور صلاح الدين في معركة حطين وتحرير القدس، مع تسليط الضوء على جوانب من شخصيته القيادية. وكتاب صلاح الدين وعصره لمؤلفه محمد فريد أبو حديد. وهو يستعرض الكتاب حياة صلاح الدين وسياق الأحداث التاريخية التي عاشها، مع تحليل لشخصيته وإنجازاته. وغيرها من الكتب والبحوث والرسائل العلمية المعاصرة التي حفظت سيرة صلاح الدين الأيوبي، وتعمقت في جوانبها الحضارية والجهادية والدعوية والإنسانية.
شهدت بعض الكتابات من مؤرخين شيعة معاصرين لصلاح الدين أو لاحقين له بفترة قصيرة تناولًا محدودًا لدوره التاريخي وتأثيره. ولعل من أبرز هؤلاء ابن طاووس (1193-1266م)، وهو فقيه ومؤرخ شيعي، حيث أشار في مؤلفاته مثل “اللهوف في قتلى الطفوف” إلى أحداث حكم الأيوبيين، ولكنه ركّز بشكل أساسي على التاريخ الشيعي، خاصة واقعة كربلاء، ولم يقدم سيرة موسعة لصلاح الدين، وإنما أشار إلى أثره في إنهاء الحكم الفاطمي،وتراجع النفوذ الإسماعيلي. وكذلك، كتب كمال الدين بن العتائقي الحلي (1274-1340م) عن تأثير الأيوبيين على الشيعة في مصر والشام دون توثيق سيرة مستقلة لصلاح الدين، مكتفيًا بتناول الأحداث من زاوية تأثيرها على المجتمع الشيعي.
وكما أشار ابن أبي الحديد المعتزلي (1190-1257م) إلى بعض الأحداث المرتبطة بالصراع السني الشيعي في عهد صلاح الدين، خاصة في سياق تفسيراته لنهج البلاغة وأحداث السياسة الأيوبية.ورغم أنه لم يكن مؤرخًا متخصصًا في سيرة صلاح الدين، إلا أنه قد أشار في تعليقاته على “نهج البلاغة”، وبعض أعماله التاريخية والفلسفية إلى الصراعات بين السنية – الشيعية في عهد صلاح الدين، وركز على الصراع بين الأيوبيين والفاطميين.
وتجدر الإشارة إلى أنه في العهد الصلاحي الأيوبي، فشلت عدة محاولات لاغتيال صلاح الدين الأيوبي، منها محاولة وقعت أثناء حصار عزاز عام 571هـ، يقول المقريزي: “ وفي سنة 571هـ، في رابع عشر ذي الحجة، وثب عدة من الإسماعيلية على السلطان صلاح الدين، فظفر بهم بعدما جرحوا عدة أمراء والخواص“. وتكررت محاولة أخرى أثناء حصار السلطان لحلب، وفي سنة 584هـ، بعد تحرير المسجد الأقصى من الصليبيين، حيث “ثار اثنا عشر رجلاً من الشيعة في الليل ينادون: يا علي! يا علي! وسلكوا الدروب وهم ينادون كذلك، ظناً منهم أن رعية البلد يلبون دعوتهم، ويقومون بإعادة الدولة الفاطمية فيخرجون من في الحبوس ويملكون البلد، فلما لم يجيبهم أحد تفرقوا“ (علوي السّقاف وآخرون، موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام، ج6، ص 380).
عندما لم تنجح محاولات اغتيال صلاح الدين الأيوبي جسديًا، اتجه بعض الكتاب الشيعة إلى محاولة تشويه صورته التاريخية والاغتيال المعنوي لشخصيته، من خلال إلحاق مختلف النقائص به. ويعد المؤرخ الشيعي حسن الأمين مثالاً بارزًا في هذا السياق، حيث قدم في كتابه “صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين” نقدًا شديدًا لصلاح الدين، معتمدًا على رؤية تنطوي على نزعة اتهامية (حسن الأمين، 1995م، ص 124 – 140).
وإن القارئ لهذا الكتاب يجد صورة مخالفة تمامًا لسيرة وأخلاق صلاح الدين الأيوبي، إذ تبرز محاولة لإعادة تفسير تاريخه من منظور مختلف عن الصورة التاريخية الراسخة التي تبنتها كثير منالمصادر. وفي هذا الكتاب، يتناول الأمين شخصية صلاح الدين بانتقادات لاذعة، حيث يصور من أشادوا بأعماله وأخلاقه على أنهم متأثرون بانتصاراته، ويصفه بأنه كان ساعيًا للسلطة بأي وسيلة، وطامحًا إلى المجد الشخصي عبر الغدر والخيانة. ويمضي الكتاب في اتهامه بالخيانة، وبالتعطش للدماء وجمع الأموال، وتوزيعها على أقربائه وأنصاره، بل ويدعي أنه كان ميالاً لتعاطي الخمر، وأن لديه ميولًا نحو النصرانية واليهودية.
وقد اعتمد الأمين في رواياته على مصادر استشراقية أو يهودية أو شيعية غير مسندة، مما أثار تساؤلات حول دقة طرحه. ويظهر عدم حياد الكاتب أيضًا في كتابه “موسوعة المعارف الإسلامية الشيعية”، حيث أنكر وجود بنات أخريات للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) غير فاطمة (رضي الله عنها)، بهدف دعم فكرة الإمامة لدى الشيعة الاثنى عشرية (علوي السّقاف وآخرون، موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام، ج6، ص 380).
ودافع المرجع الشيعي العراقي “ناصر الأسدي” عن كتاب“حسن الأمين” زاعماً أنه لم يأت بشيء من عنده، وإنما هي المصادر الموثوقة والوقائع التاريخية، الأمر الذي يؤكد أن هذا الموقف من صلاح الدين الأيوبي ليس موقفاً منفرداً، بل هو موقف جماعي لدى الشيعة. ونرى كاتباً آخر من كتّاب الشيعة، وهو الشيعي المصري “صالح الورداني” يعتبر صلاح الدين الأيوبي” هو واحد من أولئك الذين غطت السيوف على انحرافاتهم، وحجبت عن أعيننا مساوئهم، وغمرت بالدماء التي أسالتها جسد الحقيقة”، ثم يفيض في السب والهجاء لصلاح الدين الأيوبي حتى يصوره لنا مجرماً سفاكاً لدماء المسلمين متساهلاً مع اليهود والنصارى، ومحارباً للعلم والعلماء. (السّقاف وآخرون، المرجع نفسه، ص 380).
وذكر رجل الدين الشيعي “السيد جعفر مرتضى العاملي“ في كتابه “مختصر مفيد أسئلة وأجوبة في الدين والعقيدة”؛ تحدث عن موقف صلاح الدين بالشيعة بعد قضائه على الدولة الفاطمية، فيقول: “بدأ سياسته القاسية ضد الشيعة، واضطهدهم، وقتل زعماءهم، وأبعد أهل الرياسة فيهم، بذرائع واهية، واستناداً لفتاوى حاقدة ومتعصبة، وواجههم بأصعب وأشق أنواع العقوبة والتعذيب.. بل هو قد عالج اعتراضات الناس بأساليب لا إنسانية مفعمة بالحقد، وبالجريمة إلى حد أنه كان يصلب فئات كثيرة ويعلِّقهم [أي يشنقهم] بعمائمهم، وكان يحرق مناطق واسعة فيها الألوف من البيوت ـ يحرقها ـ بما ومن فيها من أطفال ونساء، وشيوخ، ليكسر شوكة المعترضين عليه.. لذلك تعددت التحركات التي تهدف إلى الاعتراض على سياسات صلاح الدين، واختلفت مواقعها. فكان يواجهها بشراسة، وقسوة بالغة.. وبعد هذا، فمن الذي يجرؤ على التخلف عن النفير الذي يطلقه صلاح الدين، في أي زمان، وهم يرون أفاعيله بالناس، وسياساته فيهم، التي هي سياسة الاستئثار بكل شيء..”. وسرد العاملي الأمثلة عن تسامح السلطان صلاح الدين مع اليهود والصليبيين وبطشه بالشيعة وتنكيله فيهم، بقوله: “… لإطفاء نورهم، وإبادة خضرائهم..” (السيد جعفر مرتضى العاملي، ج7، ص 47).
ختاماً، تتبدى لنا من خلال هذا المقال صورة تاريخية تعكس تنوع الرؤى والتصورات حول سيرة صلاح الدين الأيوبي، وتبرز تباين المصادر في توثيق سيرته. حيث أولى المؤرخون السُّنة اهتمامًا بالغاًبتفاصيل سيرته وإنجازاته وآثاره، معتبرين إياه رمزًا لمرحلة الوحدة والتحرير والنهوض الإسلامي، مما جعل أعمالهم التاريخية، مثل مؤلفات ابن شداد وابن واصل والحنبلي والأصبهاني، مرجعًا أساسيًا، ومصدرًا غنيًا لدراسة العهد الصلاحي والأيوبي. وفي المقابل، نجد غيابًا واضحًا لشخصية صلاح الدين في المصادر الشيعية، قديمها وحديثها، وهو ما يبرز تأثير الخلافات السياسية والمذهبية في تشكيل الذاكرة لدى بعض المؤرخين الشيعة، فقد جاءت بعض تلك الروايات بنقد وتحامل وافتراء واضح على صلاح الدين.
وهكذا، يصبح التاريخ مرآةً تنعكس فيها المواقف والأفكار المتباينة، وندرك ضرورة قراءته بوعيٍ عميق، ومنهج علمي رصين يتجاوز الإيديولوجيات والانتماءات. فالتاريخ ليس مجرد سردٍ للأحداث، بل مصدرٌ لاستخلاص الدروس والعِبر، واستكشاف جوانب أعمق لشخصيات كان لها دور في إحداث التغيير، وتغيير مسار التاريخ.
المراجع: