22 نوفمبر، 2024 11:58 م
Search
Close this search box.

بين التكلف والبساطة

بين التكلف والبساطة

كان يا ما كان قبل عام من الان صادف ان اشرف احد الاساتذة العراقيين الافاضل على طالب بريطاني في رسالة الدكتوراه وكان هذا الاستاذ بدرجة استاذ مساعد (Assist Prof.) ولمن لا يعرف ما يعني هذا اللقب فهو اللقب قبل الاخير في تسلسل العناوين الوظيفية للأكاديميين في العراق وربما في العالم ايضاً اي انه بقي له مرحلة واحدة ويواجه الوحش وينهي اللعبة! ويصل الى درجة بروفيسور يكون له عندنا الف تقدير والف حساب وتفتح له الابواب وتسهل له الامور ويقوم الناس له على قدم وساق.
على العموم فأن هذه المقدمة جاءت لتوضيح فكرة ستتبين اثناء البحث بعد قليل، وصل استاذنا الى المطار وفوجئ بعدم وجود من ينتظره ويستقبله في المطار وقد كان يظن انه سيستقبله وفد رسمي رفيع المستوى او على الاقل عدة اساتذة من مستواه (كما يحصل عندنا) فهم لا يقيمون لهذه الشكليات وزناً وقد افترضوا انه يعرف كيف يصل الى الجامعة المعنية فأستشاط صاحبنا غضباً وكتمها في نفسه وتدبر امره للوصول الى الجامعة وتوقع هنا ان يقوموا بأستقباله على اكف الراحة ويهيئوا له كل مستلزمات الراحة بعد السفر وتتكرر المفاجأة بأن دعوه مباشرة فور وصوله الى دخول قاعة المحاضرات للاستماع الى عرض تقديمي لأحد الطلبة والذي استمر بدوره عدة ساعات حتى انتهى وهنا خرج صاحبنا متعباً مرهقاً يريد ان يرتاح فسألهم ان يدلوه على مكان اقامته وسكنه فترة اقامته هناك وهنا واجه الضربة القاضية والصاعقة القصوى على رأسه حيث اخبروه انه كان يفترض ان يحجز لنفسه قبل ان يصل في مكان ما ورفضوا حتى ان يسكنوه في الاقسام الداخلية للطلبة بحجة انه يجب ان تكون هناك ترتيبات مسبقة لذلك، فدارت الارض بصاحبنا وانفجر بوجوههم بعد ان تخيل انهم (متقصدينه) وقد جرعوه الهوان واذلوه (بعرفنا السائد) ففوجئوا برد فعله وزادت مفاجأتهم حين عرفوه وعرفوا مرتبته العلمية وحين طلب صاحبنا رؤية المسؤول هناك وهو طبعاً رئيس الجامعة فوجئ به يصل راكباً دراجته الهوائية ويمسك في يده كيساً صغيراً يضم طعامه الذي سيأكله حين يجوع في يوم الدوام الطويل عندهم حين تفتح الجامعات ابوابها للطلبة من 12 ساعة الى 24 ساعة في بعض المدن! فترك صاحبنا دعواه وشكواه وتقبل الامر الواقع وللقصة تتمة ليس هنا محلها.
لست هنا بصدد تأييد او رفض سلوكيات صاحبنا او الطرف الاخر ولكني اود ان اطرح مفهوماً طالما كان ضبابياً وغير صحيح في اذهان الناس وهو التكلف في التعامل في مقابل البساطة في التعامل فهل الاول يعكس التكبر والتجبر دائماً؟ وهل البساطة في التعامل مطلوبة ومرغوبة دائماً؟ دعونا نرى:
مبدئياً وفي كل علاقة جديدة مع اي بشر يفترض بالإنسان العاقل الواعي ان يبتدأ الاخرين بالتصرف ببساطة وقلب مفتوح وكلام يوافق ظاهره باطنه مع اخذ الحيطة والحذر من التمادي في البساطة الى حد البلاهة وتقليل الشأن لصاحبها فأن رأى من المقابل تقبلاً لذلك وتفاعلاً ايجابياً مماثلاً فبها والا فلا، فأن رأى ان الاخرين يرون في البساطة ضعفاً وفي القلب الطيب والكلام المباشر بلاهة وخضوعاً فلابد من لبس القناع ومقابلة المستهزي بالمثل او الابتعاد عنه قدر الامكان فلا خير في ود امريء متملق او منتهز للزلة والعثرة يغتنم فرصة الخطأ والزلل للتشهير بصاحبه والانتقاص منه فالبعد عن مثل هؤلاء غنيمة ومقابلتهم بالمثل توقفهم عند حدهم ولنا في المأثور خير دليل فقد جاء على لسان المعصوم بأن التكبر على المتكبر عبادة فكذلك التكلف مع المتكلف والمتفلسف شيء ضروري ومطلوب وهنا تظهر اهمية التكلف في بعض الاحيان ولكن هذا لا يعني ان نعتمده منهجاً للحياة مع الجميع فلذلك سلبياته ومضاره العاجلة والآجلة فهي تورث الشعور بالنقص والخوف من الجميع والشك في كل قول وفعل من الاخرين مما يدفع بصاحبه الى العزلة والتكبر والانطواء على النفس وغير ذلك الكثير.
في مقابل البساطة مع الجميع وبغض النظر عن ردود فعل الاخرين والذي يقود الى الاستهانة بالبسيط والمتواضع في غير محل التواضع واستغلال الطيبة المفرطة في الاذلال والتسخير في غير محله وهنا لا بد من ثورة على الذات قبل الثورة على الغير وهو الامر الذي يصعب مع تقادم العهد ويصبح شبه مستحيل كلما تقدم العمر بصاحبنا البسيط فخلاصة القول انه لا تكلف مطلق ولا بساطة مطلقة بل امر بين امرين ولكل حادث حديث ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه فصانها وهذبها

أحدث المقالات