المقدمة
بداية نشير إلى إننا هنا نستبعد عن مفهوم النخبة تلك الشريحة النتنة والمأفونة من السياسيين العراقيين الطارئين ، الذين لا يتميزون سوى بصفات وخصال ؛ الخطل السياسي ، والدجل الديني ، والجهل الثقافي ، والفشل الأخلاقي . أما أن نسبغ عليهم الطابع الإيديولوجي والانطباع التغربي فذلك كثير عليهم وفوق مستواهم الضحل ؛ فعلى الصعيد الأول (الإيديولوجي) يتطلب أن ينضوي المرء في منظومة متشعبة من الأفكار والتصورات والقيم والرموز ، التي تحدد لجماعة معينة توجهاتها الآنية وخياراتها المستقبلية ، بحيث ترتهن مآربها الشخصية بمصالحها الفئوية على نحو تكون الأفضلية فيه للجانب الجمعي على الجانب الفردي . في حين نجد أن نوازع التغالب والتكالب ودوافع التشاطر والتناحر ، هي ما تتميز به عناصر تلك الشريحة المسماة نخبة (سياسية) في العرف العراقي المعتل . أما على الصعيد الثاني (التغربي) فان الأمر يستلزم قدر معين من (التلوث) – ولا نقول التأثر – بأفكار وقيم العالم الغربي ؛ سواء منها الليبرالية المترسملة ، أو الديمقراطية المتعلمنة ، أو الماركسية المتهرطقة . هذا في حين نلاحظ إن النزعة الطائفية ، والفزعة العشائرية ، والنعرة الشوفينية ، هي ما تتصف به مكونات تلك الشريحة المتسيسة بحكم القوة الغاشمة لا بحكم الاختيار الشرعي ، وبحكم الإجبار الأجنبي لا بحكم الخيار الوطني ، وبحكم دعاوى (التدين) المؤسطر لا بحكم مبادئ (الدين) المؤقر ! . إذ إن (التورط) باجتياف قيم ومعتقدات العالم الغربي قمين بحمل الشخص المعني على إظهار ولو جزء يسير من التفكير العقلاني حتى وان كان اتباعيا”، والتحلي بشيء بسيط من السلوك الإنساني حتى وان كان براغماتيا”. ولهذا فان حديثنا سينصب على النخبة (الأكاديمية) تحديدا”من حيث كونها (البارومتر) الذي يقاس به ومن خلاله ، ليس فقط مستوى الوعي الاجتماعي ودرجة الرقي الحضاري التي أحرزها المجتمع المقصود / المعني فحسب ، بل وكذلك نمط العلاقات السائدة ، وخاصية التصورات الشائعة ، وأنظمة الثقافات الحاكمة ، وماهية الخيارات المتبناة ، وطبيعة التطورات المتوقعة .
لماذا النخبة الأكاديمية بالذات ؟!
بالإضافة إلى كونها (المعيار) الذي يستدل من خلاله على طبيعة المجتمع ومسارات حراكه وآفاق تطوره – كما أشرنا أعلاه – فان أعضاء النخبة الأكاديمية غالبا”ما يعتبرون بمثابة (الكشّاف) الموضوعي ، الذي يعكس علاقة الدولة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية سلبية كانت أم ايجابية من جهة ، فضلا”عن مواقف السلطة من تخصصات تلك العلوم وما قد تثيره من تساؤلات مشاكسة وما تحفزه من انفعالات محرّضة ، حيال العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، والرئيس بالمرؤوس من جهة أخرى . هذا بالإضافة إلى دورها المحوري في إماطة اللثام عما يمكن أن تتبناه الأنظمة السياسية من مناهج علمية وبرامج تطويرية ، أو بالعكس فيما إذا كانت تناصب العداء لكل ما هو كفيل بتحرير الإرادات الإنسانية ، وتطوير العلاقات الاجتماعية ، وتنوير الملكات الذهنية ، وتثوير الطاقات النفسية . وبصرف النظر عن اختلاف المستويات العلمية لأعضاء هذه النخبة ، فضلا”عن تباين قدراتهم الابيستمولوجية ، وتنوع خلفياتهم الإيديولوجية ، وتغاير انحداراتهم السوسيولوجية ، إلاّ إن تعاطيهم – في الغالب – مع مختلف تيارات النظرية السياسية والفلسفات الاجتماعية والبراديغمات المنهجية ، قمين بمنحهم الأفضلية (كعينة اختبارية) لاكتشاف مدى تغلغل الأفكار الوطنية في بنى الوعي الجمعي ، وقياس مستوى انتشار صداها في أروقة السيكولوجيا الاجتماعية . ذلك لأن دور هذه النخبة في عمليات المجايلة (تدوير المعارف وتوريث الخبرات بين الأجيال) التاريخية والثقافية والحضارية كبير
وخطير جدا”، لاسيما وان الغالبية العظمى من المكونات الاجتماعية المنخرطة في عمليات التربية والتعليم ، هي من الفئات العمرية الشابة التي ستكون في يوم ما خميرة المجتمع لإنتاج وتهيئة نخبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية والجغرافية ، الخ .
ولما كانت هذه النخبة (الأكاديمية) تتمتع بكل هذه المواصفات النوعية والامتيازات المعيارية ، فلماذا إذن الخشية من أن تنحرف بوصلة تفكيرها ؛ إما باتجاه (التأدلج) الفكري أو (التفرنج) القيمي ، وتصاب من ثم نظرتها بالزوغان الوطني وتمتلئ خطاباتها بالهذيان العصبوي ، بحيث تصبح من أكثر المصادر خطرا”على وحدة الكيان الاجتماعي ، بدلا”من أن تغدو عامل حيوي من عوامل سمتنة العلاقات وعقلنة الذهنيات وأنسنة السلوكيات ؟! . في الواقع إن عناصر هذه النخبة غالبا”ما تكون في المجتمعات المأزومة سياسيا”والمعاقة حضاريا”– كما هو حال المجتمع العراقي – من أشد عناصر النخب الأخرى تأثرا”بالأزمات وأكثرها تحسسا” للانعطافات ، وبالتالي فهي أقرب إلى صيرورتها كيانات مهيأة نفسيا”مستعدة فكريا”للإفلات من الطوق الناري لتلك الأزمات والانعطافات ، عبر خيار الهجرة (الخارجية) حيث الأمان الشخصي والحرية الفكرية ، أو صوب الغربة (الداخلية) حيث التنصل من كل ما له علاقة بالواقع المحلي (الوطني) من فكريات وعلاقات ، ومن ثم اجتياف كل ما يمت بصلة للعالم الغربي (الأجنبي) من نظريات وفلسفات ومنهجيات ، حتى وان كان بعضها يبشر بعادات ومعتقدات قد تتقاطع جذريا”مع أصولها الاجتماعية وأروماتها الرمزية وموارثها السردية .
سحر التأدلج وغواية التحزب
في المجتمعات البشرية التي لم تبرح تراوح ضمن أطوار بدائيتها على كافة الصعد ؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية ، وتعاني صعوبات الخروج من شرانق تخلفها وانحطاطها ، لا توجد شريحة اجتماعية تتمتع بامتياز الحصول على المعارف وامتلاك ناصية الثقافة سوى نخبة (الأكاديميين) ، الذين ساعدت بعض الظروف والأوضاع على حملهم للدخول في هذا المضمار المعرفي والانتظام في هيكليته والتدرج في هرميته . بحيث أضحى بالنسبة لأعضاء هذه الشريحة المحظوظة ليس فقط بمثابة سيرورة للتقدم في مجال تعميق الوعي وتوسيع المعرفة فحسب ، بل – وهنا بيت القصيد – لتحسين أوضاعهم الاقتصادية ، وتوسيع علاقاتهم الاجتماعية ، ورفع مكانتهم الاعتبارية ، وإشباع نوازعهم النفسية . وذلك عبر الانتماء للأحزاب السياسية والولاء للجماعات الأصولية من جهة ، والانخراط من جهة أخرى بالسجالات الإيديولوجية والمماحكات الكلامية .
ولأن البنية التحتية للشخصية الاجتماعية لتلك الشريحة هي بالأساس بنية هشة إن لم تكن متهرئة ، ولأن المنظومة الثقافية والحضارية والأخلاقية التي تمثلها هي بالأصل منظومة بدائية إن لم تكن رثة ، فان مستوى ممانعتها لإغواء التأدلج وإغراء التحزب غالبا”ما يكون في أدنى درجاته ، لاسيما وان المعايير التي تحكم العلاقات الاجتماعية وتؤطر التواضعات العرفية في مثل هكذا مجتمعات ، لا تخرج عن كونها انعكاسا”للأطر التقليدية المتمثلة بالانحدارات السلالية / الاثنية ، والأصوليات الدينية / المذهبية ، والخلفيات القبلية / العشائرية ، والاستقطابات الجهوية / المناطقية ، والأرومات اللغوية / اللسانية ، بحيث إن كل اعتقاد أو تصرف لا يخرج من رحم تلك الأطر سرعان ما يوصم بالبطلان واللاشرعية . وعليه فإنها – وهي محقة بذلك – لم تعد تعتقد إن التمسك (بالخيار الوطني) هو السبيل الأنسب لبلوغ مآربها الشخصية وتحقيق مصالحها الفئوية ، طالما إن الغالبية العظمى من المكونات والجماعات الأخرى باتت تغلب روابطها الدنيا على انتماءاتها العليا ، وتؤثر صلاتها الفرعية على ولاءاتها الجمعية . بقدر ما كانت تلمس إن الاصطفاف خلف تلك العصبيات والأصوليات
هو الخيار الراجح والرهان الرابح ، على خلفية تنصل الدولة عن القيام بدورها الضابط للمجال السياسي وتخاذل السلطة عن الشروع بكبح جماح فوضى المجال الاجتماعي .
ومن منطلق ديناميات الفعل ورد الفعل بين التصورات والسلوكيات ، فانه كلما تذوقت عناصر تلك النخبة طعم الفوائد والمكاسب التي تجنيها من تلك الخيارات الجانبية والهامشية ، كلما تعززت لديها القناعة بصحة الأفكار التي تتبنها وسلامة المسارات التي تنتهجها ، وبالتالي ازدياد معدلات تعصبها لآرائها وتطرفها في مواقفها وعنفها في علاقاتها . بحيث لم تعد – بالنسبة لها – المعايير العلمية والمقاييس المعرفية التي تتمتع بها ، تشكل أي مانع أو عاصم يحول دون انخراطها في دوامات التحلل الأخلاقي والفساد الاقتصادي والتشدد الديني والتكاره المذهبي والعنف السياسي .
صدمة الحداثة وتشظي الخيارات
لا ريب في أن مظاهر الحداثة الغربية التي اقتحمت بعنف مفاجئ بنى المجتمعات التقليدية مع أولى طلائع الغزو الاستعماري لأوطانها ، أحدثت من الصدمات النفسية والتصدعات القيمية فاق ما تسببت به الحملات العسكرية والممارسات السياسية من خراب اجتماعي ودمار اقتصادي ، وهو الأمر الذي لم تعره البحوث والدراسات السوسيولوجية والانثربولوجية الاهتمام الكافي ، لجهة انعكاساته على تشكيل أنماط الوعي الاجتماعي للأفراد والجماعات ، باستثناء ما يرد عرضا”بين ثنايا تحليلاتها للأحداث وتأويلاتها للوقائع . وكأي ظاهرة جديدة تخترق النسيج الاجتماعي ومن ثم تطرح معطياتها على صعيد العلاقات والذهنيات ، فان أول من يستجيب لتداعياتها ويتأثر بقيمها – سلبا”أو إيجابا”- هي تلك الشريحة التي تتعامل بمنتجات الفكر والثقافة ، كونها تستشعر – أكثر من غيرها – إيقاع تلك التداعيات وأنماط تلك القيم ، ليس فقط على مستوى الوعي الفردي ، بل وكذلك على صعيد السيكولوجيا الاجتماعية .
وعلى الرغم من كون أن عناصر هذه الشريحة أول من يستجيب لمعطيات تلك الصدمات والتصدعات ، إلاّ إن ردّات فعلهم حيال ذلك ستختلف بالضرورة وتتباين بمقدار ما تختلف أصولهم الاجتماعية وتتباين مستوياتهم الثقافية وتتنوع مشاربهم الإيديولوجية وتتغاير نوازعهم النفسية . وإزاء ذلك فقد تشظت تلك الشريحة إلى ثلاث فئات وان كانت الحواجز بينها غير حصينة ، بيد التناقض بين مواقفها والتعارض بين خياراتها من الوضوح بحيث لا يحول دون تصنيفها بحسب أنماط قبولها أو رفضها لتلك المعطيات والتداعيات . وهكذا فقد تبنت الفئة الأولى التي غالبا”توصم (بالتقليدية / الرجعية) خيار (الرفض المطلق) لأي شكل من أشكال التعاطي مع نواتج تلك الصدمات ؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية ، من منطلق التمسك بالتقاليد الدينية والأعراف القيمية التي طالما اعتبرت بمثابة الأسس البنيوية لبقاء المجتمع والمحافظة على وحدته ، إزاء التحديات الوافدة من الخارج سواء بصيغة اجتياح عسكري أو انتداب سياسي أو غزو ثقافي . وإذا ما اضطرتها الظروف وأجبرتها الضرورة على التعامل مع مخرجات حداثة المستعمر ، فإنها حينذاك ستتخذ جانب الحذر والتوجس حيال كل مفردة أو فكرة يطرحها خطاب تلك الحداثة ، الأمر الذي سيغلب على تصوراتها وتصرفاتها طابع الأحادية في الرؤى والمواقف ، ويسوقها بالتالي إلى تبني خيارات التعصب لمعتقداتها والتطرف في علاقاتها ، وهو الأمر الذي تجسد عبر صيغة الاصطراع التقليدية ما بين (الأصالة) و(المعاصرة) كما راج في الثقافة العربية والإسلامية طيلة عقود القرن المنصرم . هذا في حين ستلجأ الفئة الثانية من هذه الشريحة الاجتماعية إلى تبني خيار الانتقاء والمزج الاعتباطي بين ما اعتبرته ثوابت القومية والوطنية من جهة ، وبين نظريات وطروحات الليبرالية والماركسية من جهة أخرى ، بحيث اعتبرت محاولاتها وممارساتها هذه من قبيل ما بات يعرف في الأدبيات الإيديولوجية (بالتلفيقية) السياسية و(التوفيقية) الفكرية ، التي وصمت أغلب حركات التحرر الوطني
والقومي في بلدان العالم الثالث لحقبة ما بعد الاستعمار الغربي . وعلى الرغم من تلك المثالب والمآخذ فان عناصر هذه الشريحة تبدو ، بالقياس إلى نظيرتها الأولى (التقليدية) ، أكثر تفتحا”وأوسع تفهما”وأشد حرصا”حيال التغييرات والتحولات التي أضحت عوالم السياسات والإيديولوجيات تتعرض لها على نحو متسارع ، الأمر الذي استلزم منها إبداء مظاهر المرونة والتكيف لتلك المعطيات ، على النحو الذي يجعل من استجاباتها متوافقة مع مصالحها الوطنية وقضاياها القومية ؛ إن في مجال الذود عن مكاسب الاستقلال السياسي ، أو في إطار الدعم لجهود التنمية الاقتصادية ، أو في مضمار تنشيط الحركة الثقافية .
وإذا ما عرجنا إلى مواقف وممارسات الفئة الثالثة من شريحة النخبة الأكاديمية – التي هي محور هذا المقال – سنلاحظ إن غالبية أعضائها عمدوا إلى انتهاج السبيل المعاكس لما تبنته نظيرتها الأولى (التقليدية) من طروحات وسياسات تماما”، بمعنى أنها أحدثت قطيعة فكرية ونفسية مع كل ما كانت تعتقد انه مسؤول عما أصاب أوطانها من تخلف اجتماعي وعنف سياسي وتطرف ديني . لاسيما وان البيئات الاجتماعية والثقافية التي انحدرت منها كانت تميل إلى الأفكار والقيم الليبرالية ، على خلفيات تنوعها القومي / الاثني ، والديني / المذهبي ، واللغوي / اللساني . وهكذا فقد اتجهت هذه العناصر للانفتاح كليا”ليس فقط على معطيات الحداثة السياسية (مؤسسات وتنظيمات) فحسب ، بل وكذلك لاجتياف مثلها الفلسفية (فكريات وأخلاقيات) ، بحيث أضحى من المتعذر عليها التكيف والتعايش مع الأنماط التقليدية من الذهنيات والعلاقات التي كانت سائدة في عصور السيطرة العثمانية .
ومما ساعد على تسريع وتيرة التحول باتجاه (الغربنة) واتخاذها خيارا”فكريا”وسياسيا”، هي إن الضرورة العلمية والمعرفية قد فرضت على الغالبية من أعضاء تلك الشريحة إتقان اللغات الأجنبية ، لاسيما الانكليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من اللغات الحية التي قدمت لتلك الشريحة ما كانت تحتاجه من خيارات عابرة للأطر القومية والدينية والاجتماعية ، لا بل وحتى الوطنية التي نحت – بفضل التوجهات الشوفينية والطوباوية للإيديولوجيات القومية والإسلامية – باتجاه توظيف الذاكرة التاريخية واستثمار المتخيل الجمعي ، لا لتعزيز أواصر القرابة الثقافية والتاريخية بين الجماعات المتذررة مذهبيا”والمكونات المتبعثرة قبليا”، وإنما لتبرير نزوعها إلى التعسكر الاجتماعي والتمركز السياسي ضد ما اعتبر بقايا عصر الاستعمار ومخلفاته المرفوضة .
ولأن (الدولة) المسماة (وطنية) تجاوزا”التي أقامتها السلطات الاستعمارية عشية احتلالها البلدان المستعمرة ، تحت إلحاح الضرورات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية ، استمرت تعاني الضعف في بنيتها والفشل في ممارساتها والقصور في وظائفها ، الأمر الذي كرس لديها الحسّ الأمني / الاستخباراتي وأضفى عليها الطابع البوليسي / القمعي ، فضلا”عن عواقب وقوعها بين فكي كماشة التبعية الاقتصادية من جهة والاستتباع الإيديولوجي من جهة أخرى ، على خلفية انخراطها في أتون صراع المصالح وتقاطع الإرادات بين ضواري العالم . بحيث سرعان ما تخلت كليا”وتنصلت نهائيا”عن كل ما له علاقة بوعودها الوطنية السابقة ، التي كانت ترمي من خلالها إلى إحداث تنمية اقتصادية وتحديث سياسي وتغيير اجتماعي وتطوير علمي وتنوير ثقافي وتثوير حضاري ، ولعل حقول التربية والتعليم – وتحديدا”الجامعي بمختلف تخصصاته العلمية والإنسانية – كانت الأكثر تضررا”جراء تلك السياسات والممارسات المتمخضة عن عقود من العسكرة السوسيولوجية والتجييش السيكولوجي .
وهكذا عبر تظافر العوامل الذاتية (استعداد نفسي وتقبل ثقافي واجتياف قيمي) والظروف الموضوعية (انحراف سياسي وتخلف اقتصادي وتطيف اجتماعي) ، فقد اكتملت – لدى عناصر تلك الشريحة – الشروط
والمقومات الكفيلة بتهميش (الخيار الوطني) وإزاحته عن سلم أولوياتها ، سواء على صعيد اهتماماتها الآنية أو على مستوى تطلعاتها المستقبلية . بحيث لم يمض طويل وقت حتى شرعت أبرز عقول تلك الشريحة من مغادرة أرض الوطن باتجاه المجتمعات الأوروبية والأمريكية ، التي شكلت عوامل استقراها السياسي وثرائها الاقتصادي وتطورها العلمي وتقدمها الحضاري ، مراكز جذب واستقطاب لكل الباحثين عن منافذ للهروب من جحيم أوطانهم وجحود مجتمعاتهم حيث الأمان والكرامة والعيش الرغيد فحسب ، بل وكذلك لتحقيق أحلامهم المؤجلة وبلوغ طموحاتهم المقموعة . وكما لاحظ الأستاذ في كلية الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في جامعة باريس (حميد بوزارسلان) ، وهو يدرس ويحلل (تاريخ العنف في الشرق الأوسط) ، فان ظاهرة (التغريب) التي اعتبرت (( كآلية ارتقاء إلى الحضارة أو دخول عصر الأنوار بالنسبة إلى جزء من الانتلجنسيا ، يعني في الواقع عنفا”ثلاثي الأبعاد : ضد المؤسسات القديمة ، ومن بينها مؤسسات رئيسة كالدين الذي أتهم بأنه مسؤول عن تخلف البلدان الإسلامية ، ضد المجتمع الذي أعلنه المتعلمون المغرّبون في حالة رثة ، وأخيرا”ضد النفس ، لشدة ما أحسّ المثقفون أن التغريب هو شكل استلاب مأساوي . بقيت عامة الشعب منطوية على الدين والمؤسسات التي تؤمن بقاءها وتماسكها ، إلاّ أن المثقفين واجهوا إحساس رفض الذات والإدراك الحاد بأنهم خارج الزمان والمكان )) .