يُعدّ ترسيم الحدود بين الدول من الإشكاليات المركّبة في حقل العلاقات الدولية، لما يتداخل فيه من اعتبارات قانونية وتاريخية وسيادية. وتبرز الحالة العراقية–الكويتية مثالًا بارزًا على تعقيد هذا النوع من النزاعات، حيث لم يحسم الجدل حول الحدود الثنائية رغم مرور عقود على تأسيس الدولتين الحديثتين. وقد زاد هذا التعقيد بفعل اعتماد بعض الأطراف على وثائق إشكالية من حيث المصدر والصياغة، من أبرزها ما عُرف بـ”رسالة نوري السعيد” المؤرخة عام 1932، والتي تُقدَّم أحيانًا كأساس قانوني لترسيم الحدود.
تسعى هذه الدراسة إلى تحليل هذه الوثيقة ضمن سياقها الزمني والسياسي، وفحص مدى اتساقها مع المواقف الرسمية العراقية، والمبادئ المعتمدة في القانون الدولي لترسيم الحدود. ويُعتمد في ذلك على مجموعة من الوثائق والمراسلات الرسمية التي توفّر إطارًا مرجعيًا يُسهم في إعادة قراءة القضية من منظور قانوني محايد، بعيدًا عن التوظيف السياسي غير الموثوق. ومن خلال هذا التحليل، تُطرح تساؤلات جوهرية حول مدى قانونية الادعاءات الحدودية، وحدود المشروعية في ضوء الوثائق الفعلية لا الادعاءات المتداولة.
هذا المقال يهدف إلى تفكيك هذا الادعاء من جذوره، عبر تقديم ملف موثّق من الوثائق والمراسلات الرسمية التي تُظهر أن العراق لم يُبرم اتفاقًا لترسيم حدوده مع الكويت في أي مرحلة سيادية حقيقية.
بل تُبيّن هذه الوثائق أن العراق امتلك دائمًا أساسًا قانونيًا وتاريخيًا متينًا للعودة إلى الحدود الأصلية كما وردت في معاهدة 1913، وأن الرسالة المشار إليها ليست سوى أداة دعائية بلا قيمة قانونية.
وفي هذا السياق، فإن تحليل الحالة العراقية–الكويتية يُظهر خللًا مركزيًا لا في مضمون الادعاءات فقط، بل في بنية الاستناد القانوني ذاته.
فالادعاء بوثيقة غير موقّعة، مجهولة الأصل، ومتناقضة مع السياق الرسمي والسيادي العراقي لعقود متتالية، لا يمكن أن يُنتج أثرًا قانونيًا ملزمًا. بل يُعدّ نموذجًا لما يُعرف في فقه القانون الدولي بـ**”التوظيف السياسي للمستندات غير المُعتد بها قضائيًا“**.
الأخطر من ذلك أن هذا النوع من الادعاءات، عندما يُقرن بمحاولات فرض أمر واقع على الأرض عبر اتفاقات انتقائية في ظروف غير مستقرة، يتحوّل إلى شكل من أشكال الهيمنة الناعمة على السيادة، وهو ما يُخالف ميثاق الأمم المتحدة، والمبادئ الناظمة لعلاقات حسن الجوار.
من هنا، فإن إعادة فتح هذا الملف وفق أدوات القانون الدولي لا يُعد تهديدًا للاستقرار، بل استعادة لمنطق القانون في مواجهة سرديات ملفّقة، وخرائط رُسمت خارج الشرعية.
يتم ترسيم الحدود بين الدول بطريقتين:
الطريقة الأولى تكون من خلال لجان مشتركة من الدولتين تتفق فيما بينها، ويتم ترسيم الحدود، وتُوقّع من قِبل الدولتين، ثم يُصوَّت عليها في مجلس النواب أو أي جهة تشريعية أخرى تمثّل السلطة التشريعية العليا في الدولة. بعد ذلك، يُودَع الاتفاق في الأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، وجهات دولية أخرى معنية بالاعتراف القانوني بالحدود الدولية.
الطريقة الثانية تُستخدم في حال حصول خلاف بين البلدين حول ترسيم الحدود أو عائدية منطقة معينة لأحد الطرفين، ويجري حينها اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، وهي الجهة المخوّلة قانونًا بالبتّ في هذه القضايا بموجب القانون الدولي.
هاتان الطريقتان هما الحصريان لترسيم الحدود بين الدول، وفق المعايير القانونية المعترف بها دوليًا.
أما في حال صدور قرارات من مجلس الأمن تُشير إلى تشكيل لجان لترسيم الحدود بين دولتين، فإن هذه الإشارة وما يترتب عليها لا تحمل أي قيمة قانونية بموجب القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
فمجلس الأمن جهة غير مخوّلة قانونًا بتشكيل لجان لترسيم الحدود بين الدول، ولا تندرج هذه الصلاحية ضمن نطاق مهامه المنصوص عليها في الميثاق، سواء تحت الفصل السادس أو السابع.
فيما يخص المسألة العراقية–الكويتية وترسيم الحدود بين البلدين، لم يتم التوصل إلى أي اتفاق رسمي بين الدولتين، رغم تشكيل لجان متعددة، سواء في العهد الملكي، أو الجمهوري، أو حتى بعد عام 2003.
حتى قرار مجلس الأمن رقم 833 الصادر عام 1993، الذي أشار إلى ترسيم الحدود بين العراق والكويت، فهو لا يحمل قيمة قانونية ملزمة، وفقًا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، لأنه لم يصدر بموجب آلية التوافق الثنائي أو عبر محكمة العدل الدولية.
وبالرغم من ضعف النظام العراقي بعد عام 1991، فإنه لم يوقّع على أي وثيقة رسمية تُقرّ ترسيم الحدود مع الكويت. أما ما يُشاع عن “تنازلات” تمت في خيمة صفوان، فهو ادعاء لا يستند إلى أي مستند قانوني.
فالمفاوضات التي جرت هناك كانت شفوية، تتعلق بتنسيق انسحاب القوات العراقية، ولم ينتج عنها توقيع أية ورقة رسمية.
ولو كانت الحكومة الكويتية، أو أي جهة رسمية عراقية، تملك وثيقة تثبت توقيع اتفاق ترسيم حدود في تلك المرحلة، لكان حريًّا بهم أن يُبرزوها.
وعليه، فإن الحدود العراقية–الكويتية، من منظور قانوني دولي، لم تُحسَم رسميًا حتى سقوط النظام السابق في 2003.
من الملفت أن الكويت لا تملك “ورقة قوة” حقيقية في ملف ترسيم الحدود، بدليل أنها لم تلجأ إلى محكمة العدل الدولية للحصول على حكم يُكرّس حدودها الدولية، وهو ما كانت لتفعله لو كانت تملك مستندًا قانونيًا موثّقًا لا لبس فيه.
أما العراق، فعلى النقيض من ذلك، يمتلك مجموعة من الوثائق التاريخية والرسمية التي لو قُدمت إلى محكمة العدل الدولية، لأثبتت أن التجاوزات الكويتية قد تخطّت الحدود الأصلية المتفق عليها، ولأجبرت الكويت على التراجع إلى مواقعها الحقيقية، كما قد تفتح الباب للمطالبة بتعويضات مستحقة عن سنوات التجاوز.
وسنورد في الفقرات التالية بعضًا من هذه الوثائق والنقاط القانونية التي تُشكل دعائم قوية لموقف العراق، في حال قرّر تفعيل المسار القضائي الدولي.
وقبل الدخول في عرض المستندات العراقية، لا بد من التوقّف عند واحدة من أكثر الادعاءات التي تكرّرها الكويت عند الحديث عن ترسيم الحدود، وهي ما يُعرف بـ”رسالة نوري السعيد” المؤرخة في 21 تموز/يوليو 1932، والتي يُقال إنها تحتوي توصيفًا للحدود بين العراق والكويت.
إلا أن التدقيق في هذه الرسالة يكشف أن لا وجود لتوقيع نوري باشا السعيد عليها، كما أن أصلها مفقود من الوثائق البريطانية والأرشيف الرسمي البريطاني، وهو ما يُضعف مصداقيتها، بل يُسقطها قانونيًا بوصفها مستندًا غير موثّق.
بل إن مواقف نوري السعيد المعلنة والموثقة، قبل هذا التاريخ وبعده، تتناقض جوهريًا مع مضمون هذه الرسالة المزعومة، الأمر الذي يُعزّز القول بأنها وثيقة مفبركة نُسبت زورًا إلى الباشالتُستخدم لاحقًا كورقة ضغط سياسي لا أكثر.
وفي هذا السياق، يُشير صبحي عبد الحميد، وزير خارجية العراق (1963–1964)، إلى حقيقة بالغة الأهمية، فيقول:
“إن إصرار الكويتيين في تلك المرحلة، أثناء استيزاري، على الدخول في مفاوضات لتحديد الحدود، يدلل بوضوح على أنه لو كانت لديهم اتفاقات سابقة مع نوري السعيد أو وثائق تثبت الحدود، كما يدّعون، لكانوا اكتفوا بعرضها، وقالوا: هذه حدودنا، ثبتوها معنا.”
وهذه الشهادة تُعزّز حقيقة أن الكويت لم تكن تملك وثيقة ذات قيمة قانونية مُلزمة، بل كانت تبحث عن اتفاق لاحق تستند إليه، مما يُسقط ادعاء وجود أساس ترسيمي قديم.
نعود الآن إلى نقاط القوة القانونية التي يستند إليها العراق في قضية ترسيم الحدود مع الكويت، وهي موثّقة تاريخيًا ومعززة بسوابق رسمية:
أولًا:
معاهدة عام 1913، التي وُقّعت بالأحرف الأولى بين الدولة العثمانية وبريطانيا، والتي ورغم أنها لم تُصادق رسميًا ولم تكتسب الصفة الإلزامية النهائية، فإنها تُعدّ المصدر التاريخي المادي الأول لإنشاء الحدود بين العراق والكويت، حيث وضعت الأساس الأولي لتلك الحدود.
ثانيًا:
بريطانيا، بصفتها الدولة المنتدبة على العراق والمُشرفة على شؤون الكويت، اعترفت بحدود الكويت والعراق كما وردت في معاهدة 1913، مما يُضفي على تلك المعاهدة قوة قانونية غير مباشرة ومصداقية دولية، بحكم أن الاعتراف جاء من دولة كانت في موقع سيادي فعلي على الطرفين آنذاك.
ثالثًا:
كلا من العراق والكويت أقرا بصحة الحدود المشتركة وفق ما ورد في معاهدة 1913، سواء من خلال بيانات منفردة أو اتفاقات مشتركة.
وقد جاء هذا الاعتراف أولًا من جانب العراق كدولة مستقلة ذات سيادة في اتفاقية عام 1932، والتي أشارت صراحة إلى حدود معاهدة 1913، ثم تكرّر الاعتراف من الطرفين عام 1963 بعد استقلال الكويت، حيث جدّدا الإقرار بالحدود وفق ما ورد في المعاهدة العثمانية–البريطانية.
وبناءً على ما سبق، فإن أي عملية ترسيم قانونية معترف بها دوليًا بين العراق والكويت لا بد أن تعود إلى معاهدة عام 1913 كمصدر مرجعي أصلي.
رابعًا:
رسالة وزارة خارجية العراق بتاريخ 25 تموز/يوليو 1932، التي جاءت ردًا على المطالب البريطانية لتحديد حدود العراق الدولية بمناسبة انضمامه إلى عصبة الأمم كدولة مستقلة.
وقد أكدت الرسالة في ما يخص الكويت على ما يلي:
وتشير الفقرة الثالثة بوضوح إلى رفض العراق للعلامات الحدودية التي وضعتها الكويت من طرف واحد، وتُعد هذه الوثيقة – الصادرة من الخارجية العراقية برئاسة نوري السعيد – دليلًا قاطعًا على أن الرسالة المنسوبة إليه بتاريخ 21 تموز 1932 لا أساس لها من الصحة.
خامسًا:
في عام 1956، وبعد توقف أنبوب النفط العراقي عبر سوريا إثر العدوان الثلاثي، عرضت الحكومة العراقية مشروع مد أنبوب نفط من البصرة إلى الخليج العربي عبر مدينة الأحمدي.
وقد اشترطت بريطانيا – حينها – أن يُوافق العراق على الحدود الكويتية وفق خارطة بيرس كوس (1923)، المستشار السياسي البريطاني، غير أن نوري السعيد رفض ذلك بشكل قاطع، وهو ما يُفنّد مجددًا ادعاء الرسالة المنسوبة إليه.
وفي لقاء جمعه بممثلي شركات النفط، صرّح نوري السعيد:
“إن معاهدات بريطانيا مع آل الصباح (1899 و1913) عُقدت مع شيوخ لا تتجاوز سلطتهم حدود قلعة مدينة الكويت، بينما المناطق الأخرى تعود لعشائر عراقية. لذلك لا يوجد شيء اسمه حدود الكويت يمكن أن يُسبب نزاعًا. وإذا ما قررت شركة (IPC) تنفيذ الأنبوب، فأنا أضمن عدم تدخل الكويتيين، ومستعد لتوفير القوة العسكرية الكافية لحماية المشروع“.
وأضاف تصريحًا لافتًا:
“سور مدينة الكويت هو حدودهم، وكل من خارج السور هم عشائر عراقية“.
سادسًا:
وثيقة رسمية صادرة عن رئيس حكومة الاتحاد العربي بين العراق والأردن، نوري السعيد، بتاريخ 5 تموز/يوليو 1958، ومرسلة إلى الحكومة البريطانية، تتضمن توصيفًا رسميًا للحدود، جاء فيها:
“إن حكومة الاتحاد العربي تعلن أن جميع الجزر الموجودة في المياه الإقليمية هي ضمن حدود الاتحاد، وأن خط الحدود يبدأ من التقاء وادي العوجة بوادي الباطن، ويمتد شرقًا إلى الجهرة على بحر الخليج.
وإذا اختار شيخ الكويت الانضمام إلى الاتحاد، فلا حاجة لبحث الحدود. أما إذا اختار الحل الثاني، فإن الحكومة مستعدة لعقد معاهدة صداقة وحسن جوار.”
وهذه الوثيقة تُعد أول تحديد رسمي صادر من حكومة عراقية بشأن حدودها مع الكويت، وتُظهِر أن الاعتراف الوحيد الممكن كان مشروطًا بانضمام الكويت للاتحاد، ما يعني أن أي اعتراف سابق لم يكن قائمًا أو معترفًا به.
إن هذه الوثائق مجتمعة — من مذكرات رسمية، وتصريحات وزراء، ورسائل دبلوماسية، ووثائق حكومية — تُشكّل ملفًا قانونيًا متماسكًا يدحض مجمل الادعاءات الكويتية، ويؤكد أن أي ترسيم حدود لا يستند إلى اتفاق ثنائي صريح، أو إلى حكم صادر عن محكمة العدل الدولية، يُعد باطلًا من وجهة نظر القانون الدولي.
بل إن التفاصيل الدقيقة الواردة في هذا الملف تُسقط أي ورقة تفاوضية تُحاول الكويت الاستناد إليها، خاصة وأن الكويت كانت حتى عام 1960 مجرّد محمية بريطانية، لا تملك أهلية قانونية مستقلة لتوقيع اتفاقات حدود مع العراق.
وإن نقاط القوة التي يمتلكها الجانب العراقي — قانونيًا وتاريخيًا — تُتيح له المطالبة بضم جزيرتي وربة وبوبيان إلى السيادة العراقية، باعتبارهما امتدادًا طبيعيًا للأرض العراقية، وكذلك تثبيت خط الحدود كما رسمه نوري باشا السعيد، الذي أقرّ بأن جميع القبائل الواقعة خارج سور مدينة الكويت هي قبائل عراقية الأصل والانتماء.
منذ سقوط النظام السابق عام 2003، سعت الحكومة الكويتية بشكل مكثّف لاستثمار حالة الضعف السياسي والسيادي التي مرّ بها العراق، من أجل الحصول على اتفاق رسمي موقّع من حكومة عراقية يتضمن ترسيم الحدود بشكل نهائي.
وقد سلكت الكويت عدة مسارات لتحقيق هذا الهدف، من بينها إبرام اتفاقيات ثنائية مع مسؤولين عراقيين، رغم علمها المسبق بأن أي لجوء عراقي جاد إلى محكمة العدل الدولية سيُفضي إلى نتيجة ليست في صالحها.
ولذلك، اتبعت الكويت — ولا تزال — أساليب التفاف سياسي وقانوني، تسعى من خلالها للحصول على تنازلات عبر أطراف عراقية فاقدة للتمثيل الحقيقي، أو خاضعة لإرادات خارجية.
إن الشعب العراقي لم ولن يُقدّم أي تنازل يمسّ سيادة بلاده أو يُفرّط بأرضه، لكن بعض الجهات التي ارتبطت بالمحتل، وراكمت مكاسبها على حساب العراق، لم يكن من الصعب استمالتها مرارًا.
وهكذا، وجدت الكويت ضالّتها في هذه الفئة من الساسة، لا في الإرادة الوطنية العراقية التي لا تزال ترفض المساس بحقوقها السيادية.
و اخيرا نقول ما بين “أكذوبة الرسالة“ التي تتشبث بها الكويت، و**”حقيقة الوثائق”** التي يحتفظ بها العراق، تقف حدود لم تُرسم بعد، وحدود أخرى رُسمت بقلم السياسة لا بحُكم القانون.
ولا يمكن لأي مسار تفاوضي أن يُثمر دون الاعتراف بالوثيقة لا بالشائعة، وبالشرعية لا بالفرض.
وإذا ما قرر العراق أن يُعيد فتح هذا الملف، فإن الوثائق المتوفرة بين يديه لا تمنحه فقط حق الدفاع، بل تمنحه أدوات الهجوم القانوني المشروع، سواء على مستوى السيادة، أو على مستوى المطالبة بالتعويضات، أو استرداد الأرض.
فالسيادة لا تُجزّأ، والتاريخ لا يُزوَّر، وما يُبنى على وثيقة منسوبة بلا توقيع، يبقى بلا قيمة ولو مرّت عليه العقود.