في 14/تموز/1958 ، أُعلن النظام الجمهوري في العراق . ومنذ الشهور الاولى من مسيرة هذا النظام ، كانت المؤشرات تفصح عن أن العلاقات التحالفية بين أطراف (جبهة الاتحاد الوطني) تسير نحو القطيعة . وامتد التوتر الداخلي الى خارج العراق ، بحكم الامتدادات الاقليمية والدولية لبعض الاحزاب الوطنية العراقية . وهكذا إنتقل السجال (الداخلي) الى الجوار الأقليمي ، وكانت مصر (أو الجمهورية العربية المتحدة) ، واحدة من المراكز الاقليمية التي تدخلتْ في الشأن العراقي ، وكان الاعلام المصري وسيلة مهمة ومؤثرة في هذا التدخل .
بين : بهاء الدين والريماوي
كانت القيادة المصرية – الناصرية ، قد مارست سطوة الاعلام بشكل مبالغ فيه . بل أن النظام المصري خلال عَقدَيْ الخمسينات والستينات من القرن الماضي ، كان السبّاق في استخدام الاعلام ، في التعبير عن مواقفه ، وفي تفنيد مواقف الطرف الآخر ، بغض النظر عن المصداقية والموضوعية . كان الاعلام المصري – الناصري ، ذراع طويل من أذرع الوصاية الناصرية على الانظمة العربية ، بل وحركات التحرر العربي .
وفي أوراقي القديمة أقرأ : بعد قيام ثورة (14/تموز/1958) بأشهر قليلة ، حصل سجال اعلامي ، طرفاه : الصحفي والكاتب المصري احمد بهاء الدين ، والكاتب والصحفي والسياسي العراقي : عزيز الحاج . وقبل عرض جانب من وقائع هذا السجال ، من المفيد تقديم قراءة مختصرة في سيرتيهما .
مَنْ هُما ؟
هو احمد بهاء الدين . ولد في محافظة اسيوط 1927 . تخرج في كلية الحقوق بجامعة فؤاد الاول (جامعة القاهرة حالياً) عام 1946 . رأس تحرير مجلة (صباح الخير) عام 1957 ، وكان أصغر رؤساء التحرير حين أسند اليه ذلك العمل . كما رأس تحرير الهلال والاهرام ومجلة العربي الكويتية (1976 – 1982) . وكتبَ المقالات في العديد من الصحف المصرية والعربية . كان أول من هاجم عشوائية سياسة الانفتاح الاقتصادي المتبعة في عهد السادات بمقاله الأشهر (السدّاح المدّاح) . توفي عام 1996 ، بعد صراع طويل مع المرض . من مؤلفاته : شرعية السلطة في العالم العربي .
أمّا عزيز الحاج ، فهو سياسي عراقي يساري . ولد عام 1926 . ويُتعبر ، برأي مراقبين ، من الكادر الفكري في الحزب الشيوعي العراقي ، ومن الذين أسسوا المنهج الدعائي لافكاره منذ أواسط اربعينات القرن الماضي ، وحتى مغادرته الحزب . دخل السجون في العهد الملكي . وكان في طليعة من طالب حزبه بالتصحيح والتغيير . أصدر عام 1981 ، كتاباً تحت عنوان : (مع الاعوام) يشرح فيها قصته الكاملة مع الحزب الشيوعي . عين بعد عام 1969 ، ممثلاً للعراق في اليونسكو في باريس .
السجال الاعلامي
واذا أردنا تحديد الالتزام الفكري لكلا الشخصيتين ، نقول : أن احمد بهاء الدين كان قومياً معتدلاً ، وهو أقرب لليسار القومي . أمّا الحاج فكان يسارياً أممياً .
للوهلة الاولى ، يبدوا أن الطرفين في خندقين فكريين متقاربين ، على الأقل في الطابع التقدمي لكليهما . إلاّ أن منهج صم الآذان امام الحوار الهادئ الموضوعي ، أفضى بهما ، وبكثيرين غيرهما الى الصدام . وهذا صِدام ضمن معسكر واحد . لذلك كان قاتلاً لاطرافه .
ومن أوراقي الصحفية : كان عزيز الحاج من اكثر اليساريين كتابة في الصحف الصادرة آنذاك . وعلى ما أتذكر كان يكتب في جريدة (صوت الاحرار) . وقد مُنحت الجريدة إمتيازاً بالصدور في (16/10/1958) ، وكان صاحب الامتياز لطفي بكر صدقي ، أما رئيس تحريرها فكان فريد محمود .
في ذلك التاريخ ، كنتُ قد إجتزتُ الصف الثاني المتوسط ، في الطريق نحو الصف الثالث . وفي منطقة الصفاة بمدينة سوق الشيوخ ، كانت هناك مقهى يتجمع فيها اليساريون . وعلى لوحة أشبه باللوحة الاعلانية ، كان صاحب المقهى يعلق الصحف المؤيدة لليسار ، أو صفحات منها ، خاصة تلك التي تعالج موضوعات ساخنة .
وذات مرة ، لُصِقت على لوحة الاعلانات هذه ، صفحة كاملة من جريدة (صوت الاحرار) ، ضمت مقالاً سياسياً موسعاً كتبه السياسي العراقي اليساري عزيز الحاج . وكان هذا المقال بعنوان : ثورة العراق بين بهاء الدين والريماوي . و (الريماوي) شخصية قومية أردنية لجأت الى ىسوريا ومنها الى مصر ، بعد انفصال سورية عن الوحدة مع مصر .
السجال بين هذين المنبرين كان حاداً وتصاعد في حدته ، وكان يُنبئ أن السفن كانت تسير باتجاه الخلجان الخطرة . وليس هناك من يحذر ، وإذا وجد من يحذِّر فلا آذان تسمع ..
وبقية القصة المؤلمة معروفة ..