أخذ بهندر مهوارج يواصل نحيبه ، إذ أن كفيله مالك مركب الصيّد لم يأذن له بالذهاب لبلده ،كونه قد أمضى سنة واحدة فقط على أجازته السابقة ،وكان نحيبه ودموعه الصامتة يعبران عن حاجة عاطفته لإمتلاك ذروتها المشوشة ، ورغم أنه بذل محاولات لتجاوز أزمته لكنها لم ترق لمستويات القناعة من أنه يجب أن ينتظر العام القادم ، فقد كان ينظر بشفقة لأغراضه التي رزمها ، وينظر بشفقة لهداياه التي أشتراها ،والأكثر من ذلك لتذكرة السفر التي أقتناها على حسابه الخاص ،
حفزني ذلك أن أتشاجر مع نفسي ، وأعيّل عليها من عدم رغبتها في فعل مايفعل بهندر مهوارج ، ورغم تواصلي المستمر مع من أحب عبر وسائل التواصل لكن المشهد أقنعني أن التخيّل شكلٌ والحضورَ المباشرَ شكلٌ آخرَ، وأنا أحمل الآن في مخيلتي صورا لمناطق بغداد ولكن من يجزم أنها بقيت كما هي ليس بالشكل وبالمكان وإنما بمدلولاتها النفسية وصلة عمقها في الروح ،أهي الآن مجرد أسماء..؟ ، أهي الآن مجرد تشكيلات من بُنيويةٍ صيّرَتها نتاجا من الحجر والإسمنت ..؟، تمنيت هذه اللحظة أن
أستعيد حدسي الحيواني وأن لاتكون بيني وبين ماأشعر تلك الحدود العقلانية التي تجعل الأشياء تقوم على أساسياتها المفترضة والمفروضة وهي أقرب إلى مخلفات من الأجناس المتفانية تحت نحيب مهوارج وهو يتمتم في أن تظل الحياة تحت مجهر كونياتها الزائف على أن التفكير في النهاية سيكون بأن البشر قادرٌ على التصدي لألآمه وعارفا بطبيعة ما سيمُت إليها لاحقا بأي صلة ،
عند ذلك خفّتت الأمواج وأكتست السواد وظهرت أحجار أخرى لم يألفها الشاطئ من قبل ، لذلك تشنج اليأس وخفُتَ ضوءُ الفنار ولم تعد المراكب تأبى بتحذيراته ، فأقترحت عليه أن أقرأ له:
(كرامة الأباء )
أو
( الممكن اللاهوتي )
لأجمع له بين تقدير الغيب وتقديره للمتوقع الذي ينتظره من فَمِ مالكِ مركب الصيّد ،
بين تلك البينتين لم تُشم أيُ رائحة للسمك الذي خرج من الماء ، ولم تُشم روائح العرق التي تكاثفت على جباه وثياب الصيادين بل لم يُشاهد أحد من المارة أمام الكافتيريا الوحيدة التي تطل على ترنيمات اللسان الضيق حيث تنتحر عليه الأمواج الصاخبة ،
وجدت بعد عودتي لركني المنعزل الوحيد أنني أفرطت في العموميات وأنتُزعت مني العلامات السِّحرية وجلست مابين عقلين إنشطرا منيَ كل منهما يحتاج لتفسير خاص بقياس خاص ، فأصبح العقلُ اللحظةَ شبيها بالأشياء التي نقتنيها ،ذلك حين وجدت إنعدام فاعلية العقل الأول وعدم إنحيازهِ الى وجدانية العاطفة، وأقتنعت بالآخر حين وجدته لن يتحقق مني ومن نحيب مهوارج ،
أنحنيت وحسبت على الرَّمل أنقطاعي عن بغداد، ولم تأتِ تلك الحسابات كأرقام ، بل أتت كأسماء وأماكن وشواهد كثيرة سالت حلاوتها من أدمعي فطار من طار منها مع النوارس وبقي من بقي معي يتسأل والبحر ، أردت أن أنتقي صياغةً ما لطلب العذر وأخرى لتصديقي وكأن أوهامي أصابتها الفطنةُ وأنا أقترب من المسند الذي أتكأَ عليه مهوارج وأسمعَهُ يخرج مع أنفاسه لحنا حزينا أمام مشاهد عينيه المتقدتين لفردوسه المفقود، إن أصر المالك على المماطلة في العام القادم على منحه أجازته فانه سيشارك أسطورته ماينبغي ، شريطة أن يُعذر إن ثرثر طوال السنة الحالية بعقله الثالث والذي لايدركه الصيادون ولاصاحب المركب ولا أنا ،