جاء السيد العبادي وفق صفقة سياسية اشترك فيها جميع المتضررين من سياسات سلفه ، بعد مخاض طويل وصراع إرادات كادت أن تودي بالبلاد إلى المجهول ، بين قوى سياسية لم تكن مؤهلة يوما لقيادة بلد كالعراق بتنوعه العرقي والاثني وبثروته الهائلة ، وعلى عجالة ، ادى اليمين الدستوري كرئيس لوزراء العراق ، ليستلم بلدا احتل ثلثي مساحته ، وخزينته خاوية ، بلدا يحكمه أمراء الطوائف وقادة الكتل ، وحيتان الفساد المالي والإداري ، بلا خدمات ،وبناه التحتية تحتضر تنتظر من يطلق عليها رصاصة الرحمة ويحيلها إلى التقاعد .
هكذا وجد نفسه السيد العبادي وسط كم هائل من المشاكل ، تحتاج إلى ثورة حقيقية لحلها ، فكانت الاحتجاجات الشعبية التي خرجت بسبب انعدام الكهرباء في شدة حرارة شهر اّب ، ومن ثم تحولت للمطالبة بالإصلاح ، ودعم المرجعية الدينية الرشيدة لهذه المطالب ، الدافع والحافز لجعله يقود حملة إصلاح ضد الفساد ، تمثلت بحزم من القرارات ، لم تصب كبد المشكلة الحقيقية ، ولم تنكأ الجرح النازف للعراق ، وظلت هذه الإصلاحات تدور في حلقة مفرغة ، لم يلمس منها الشارع العراقي سوى ، تخفيض رواتب الطبقة الوسطى التي تمثل شريحة الموظفين ، وسط تجاذبات سياسية بين الأحزاب والكتل ،في ظاهرها مؤيدة لهذه الإصلاحات وفي باطنها تضع العصي في دواليبها .
إن إصلاحات السيد العبادي بيريسترويكا جديدة بنسخة عراقية ، تحاكي بريسترويكا غورباتشوف آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي ، والتي حاول من خلالها إعادة بناء المنظومة السياسية والاقتصادية والفكرية للاتحاد السوفيتي فنتج عنها تقسيمه وانفراط عقده إلى دول ودويلات ، تنازع بعضها فيما بعد على الحدود والثروة والمياه.
العراق يعيش الآن على مفترق طرق ، ومرحلة صعبة وخطيرة جدا من تاريخه المعاصر ، وحكومته بالكاد تستطيع الحفاظ على ما تبقى منه ، وليس لها القدرة على انتزاع أي امتياز استطاع سلبه في غفلة من الزمن هذا المكون أو ذاك ، وهذه الكتلة السياسية أو تلك ، فأغلب الذين يتصدرون المشهد السياسي العراقي مستعدون للتفريط بالعراق كوطن موحد على حساب مصالحهم القومية والطائفية والحزبية ،بعد أن اغتنوا على حساب المال العام وامنوا مستقبلهم ، والإرباك والفوضى التي يشهدها الآن ، ما هي إلى تجلي لهذه الإرادات الضيقة .
الإصلاحات أصبحت الآن عبئا ثقيلا على الحكومة والتزام لا تقوى على الإيفاء به اتجاه شعبها وتجاه المرجعية الدينية ، بعد تعقدت المشكلة العراقية وتشعبت وتداخلت ، وأصبح الأمر مسألة وجود للعراق الذي يشرف الآن على هاوية التقسيم ، بعد أن اتضحت معالم الدولة الكردية التي زحفت حتى وصلت إلى طوز خرماتو من محافظة صلاح الدين واكتملت مقوماتها بنفط كركوك ، وسط صمت سياسي مخيف من عرب العراق والمحيط الإقليمي ، وطبخة الإقليم السني تعد حاليا في أروقة الكونغرس الأمريكي بمباركة عربية ، وستدخل حيز التنفيذ بعد تحرير محافظة الانبار من داعش ، وذلك لقطع المحور الممتد من روسيا إلى جنوب لبنان ، وشيعة العراق منقسمون على أنفسهم تبعا لمصالحهم الحزبية ، الخيارات قليلة جدا بيد السيد العبادي وزمام المبادرة قد سلب منه ، قبل أن يمسك به ، وما تخطط له أمريكا ماض كما تريد ولا يوقفه سوى بيريسترويكا حقيقية في المنظومة السياسية العراقية ، يتمخض عنها قرارات مهمة ومصيرية ، تقود العراق إلى تحالف جديد ينقله إلى الخندق الآخر المواجه لأمريكا وحلفائها ، وهو خندق روسيا وإيران ، الذي سيكون طوق النجاة ، لهذا البلد وحلا للكثير من أزماته ، وبوصلة تصحح مساره وتبعده عن مستقبل مجهول المعالم والخواتيم .