نيقولاي الكساندروفيتش بيرديايف ( 1874-1948 ), ويكتبون لقبه في بعض المصادر العربية هكذا – ( بيرديائيف ), وهي صيغة غير دقيقة لا تعتمدعادة على اللغة الروسية وانما على لغات اخرى وسيطة .و بيرديايف هو – فيلسوف روسي شهير , ولد وترعرع وتبلور فكريا وبرز في مجال الفلسفةفي بداية القرن العشرين , واصبح استاذا في جامعة موسكو عام 1920, واضطر ان يهاجر من روسيا السوفيتية عام 1922 بعد ان اختلف مع مسيرة ثورة اكتوبر الاشتراكية 1917 وافكارها وطروحاتها مثل العديد من ادباء روسيا وكبار مثقفيها آنذاك , واستقر اولا في المانيا ثم انتقل عام 1924 الى فرنسا , وبقي فيها الى انوافته المنية عام 1948 وتم دفنه هناك . أصدر خلال مسيرة حياته حوالي 25 كتابا فلسفيا بالاساس ونشر كثيرا من الدراسات والمقالات الفلسفية والفكرية المتنوعة , واصبح علما من اعلام الفلسفة الاوربية بشكل عام والروسية بشكل خاص, وكل مؤلفاته كانت باللغة الروسية طبعا , ولا نريد ان نتناول جوهر فلسفته ومفاهيمها الواسعة هنا ولا التحدث عن جوانبها الفكرية العميقة , ولكننا نود في هذه المقالة الوجيزة ان نلقي نظرة على موقفه من الكاتب الروسي الكبير دستويفسكي(1 182 – 1881 ) وكيف تعامل مع فلسفته ليس الا .
لم اسمع باسم بيرديايف بتاتا عندما درسنا في الاتحاد السوفيتي بستينيات القرن العشرين في كلية الاداب بجامعة موسكو, اذ كان ضمن قائمة اسماء ( المغضوب عليهم ) طبعا في ذلك الزمان , على الرغم من علاقته الفكرية المعمقة والجذرية مع دستويفسكي وفلسفة رواياته المعروفة والخالدة, ولكني اكتشفت بيرديايف فجأة عندما انتقلت من روسيا – بعد انهاء دراستي فيها – الى فرنسا للدراسة في قسم الدراسات العليا في جامعة باريس نهاية الستينات , اذ تبين لي هناك , ان بيرديايف هو أحد عمالقة الفكر الفلسفي الروسي والاوربي المعاصر , وشاهدت بام عيني وتلمست بعقلي وقلبي مكانته المتميزة في الحياة الفكرية من حولي , وكان لابد لي من ان اتخذ موقفا – ما تجاهه , وهكذا بدأت مسرعا– وبالضرورة – بالاطلاع على بعض المصادر الروسية الاساسية حوله , كي ابلور معرفتي بفلسفته وجوهر افكاره بشكل عام في الاقل كي أتعامل بشكل علمي وموضوعي مع هذا الواقع الذي بدأت أعيش به وأتعايش معه, وهذا ما تحقق فعلا , ومن حسن الحظ والصدف , ان صديقيوزميلي في الدراسة بالاتحاد السوفيتي سليمان اللوس , خريج كلية الفلسفة في جامعة موسكو , والذي جاء الى فرنسا ايضا للدراسة في قسم الدراسات العليابجامعة باريس بعد انهاء دراسته في روسيا , اختار بيرديايف وفلسفته موضوعا لاطروحة الدكتوراه , وغالبا ما كنا نجلس سوية في قاعة المكتبة السلافية بباريس لنتصفح المصادر الروسية ونقرأ ونطلع على كتب ودوريات روسية لم نكن نحلم حتى ان نراها عندما كنا ندرس في موسكو, اذ انها كانت امٌا ممنوعة او شبه ممنوعة هناك , وكنا نتحدث بعد ذلك طبعا عن تلك القراءات المشتركة وعن انطباعاتنا بشأنها والاراء التي تتبلور عندنا حولها , وكم استمعت من سليمان اللوس الى احاديث ممتعة عن بيرديايف ومفاهيمه الفلسفية العميقة , وكم استمع هو مني الى احاديث عن تشيخوف وابداعه خلال تلك الايام الجميلة الخوالي في العاصمة الفرنسية باريس , وقد كنت مندهشا ومعجبا جدا بموقف بيرديايف من دستويفسكي , هذا الموقف الذي يتميز بالذكاء والتفهم العميق لنتاجاته الابداعية , اذ انه طرح فكرة رائدة في عالم الدراسات عن دستويفسكي تكمن في اعتباره فيلسوفا كبيرا يعبر عن مفاهيمه الفلسفية في رواياته واحداثها وابطالها وليس في مؤلفات فلسفية بحته كما يفعل الفلاسفة الكبار عادة بشكل عام. ان هذا الطرح الاصيل والمبتكر من قبل بيرديايف حول دستويفسكي وابداعه الروائي كان يعد في ذلك الزمان خطوة فكرية جديدة وجريئة بكل معنى الكلمة , وقد رسٌخهابيرديايففي عشرينيات القرن العشرين وعبر مسيرته في دنيا الفلسفة والفكر منذ اضطراره للهجرة من وطنه روسيا عام 1922 والى حين رحيله عن الحياة في فرنسا عام 1948 , وقد اصبحت هذه الفكرةفي الوقت الحاضر طبعا جزءا لا يتجزأ من التراث الفكري العالمي حول دستويفسكي ورؤية العالم لابداعه , و يشغل دستويفسكي الان فصلا متكاملا ومستقلا في تاريخ الفلسفة الروسية اولا و تاريخ الفلسفة العالمية ثانيا , رغم انه لم يكتب سوى رواياته الشهيرة المعروفة تلك .لقد ابتدأ بيرديايف بدراسة فكر دستويفسكي قبل ثورة اكتوبر1917 ولكن الاحداث الهائلة لذلك العصر( الحرب العالمية الاولى عام 1914 ثم الثورة الروسية عام 1917 ثم الحرب الاهلية التي أعقبتهاثم الهجرة الاضطرارية من الوطن عام 1922 ) قد عرقلت الاعلان عن تلك الدراسات, وفعلا , ما ان اصبح بيرديايف خارج روسيا وأحداثها التراجيدية تلك حتى أصدر كتابه الشهير عن دستويفسكي عام 1923 في براغ, وهو من كتبه المبكرة ضمن القائمة الطويلة من مؤلفاته الفلسفيةالاخرى, والتي بدأت تصدر تباعا بعد هجرته . عنوان الكتاب هذا بالروسية عن دستويفسكي يتكون من كلمتين , الكلمة الثانية هي اسم الكاتب طبعا , اي دستويفسكي , ولكن الكلمة الاولى هي التي حيٌرت المترجمين , وقد ترجمها المفكر والفيلسوف المصري الكبير الدكتور عبد الرحمن بدوي عندما تناول فلسفة بيرديايف في موسوعته الفلسفية هكذا – ( روح دستويفسكي ) , وقد أخذ هذه التسمية عنه ايضا – على ما يبدو – الصحفي اللبناني الاستاذ ابراهيم العريس في مقالته الجميلة والموضوعية عن بيرديايف . ان هذه التسمية– من وجهة نظرنا – غير دقيقة في الواقع , رغم انها – في نهاية المطاف – كما يقال صحيحة و صائبة بشكل عام, انها اجتهاد شخصي ليس الا , و هيترجمة تفسيرية لكلمة اجنبية , وذلكلعدم وجود المفردة الملائمة والمطابقة لها باللغة العربية , ولكن المترجم المصري الاستاذ فؤاد كامل قدٌم لنا اجتهادا أفضل وهو – ( رؤية للعالم ) , وهكذا صدر كتاب بيرديايف هذا عن دستويفسكي باللغة العربية في بغداد عام 1986 عن دار الشؤون الثقافية العامة في وزارة الثقافة والاعلام العراقية وبترجمة فؤاد كامل وبعنوان عربي جميل وسلس ومفهوم و معبٌر فعلا عن مفردة بيرديايف بالروسية , رغم ان المترجم صاغها باستخدامه لكلمتين , والعنوان هذا جاء كما يأتي – ( رؤية دستويفسكي للعالم ) , وأنا شخصيا أود أن اصفق للمترجم الاستاذ فؤاد كامل على اجتهاده الجميل هذا و على صياغته العربية السليمة والمقبولة لعنوان كتاب بيرديايف عن دستويفسكي , وبالمناسبة , فقد سألتني قبل فترة وجيزة المستشرقة الروسية الجنسية والاذربيجانية الاصل الدكتورة الميرا علي – زاده , التي تعمل في معهد الاستشراق التابع لاكاديمية العلوم الروسية , عن هذا المترجم وجنسيته , اذ يبدو ان صدور كتابه هذا في العراق قد أثار شكوكها , وأجبت عن سؤالها طبعا , وقلت لها بانه مصريوان صدور كتابه في العراق أمر طبيعي جدا .ان موضوع بيرديايف ودستويفسكي كبير جدا , اذ ان بيرديايف استمر به حتى بعد صدور كتابه المذكور , وكتب العديد من المقالات والدراسات عنه , وقد اطلعت قبل فترة وجيزة على خلاصة اطروحة دكتوراه روسية بعنوان – ( دستويفسكسي في فلسفة بيرديايف ) , تمت مناقشتها عام 2011 في جامعة كوبان الروسية عن هذا الموضوع بالذات , تقدمت بها طالبة الدراسات العليا في قسم الفلسفة بتلك الجامعة بوبوفا , وتضمنت هذه الخلاصة الاشارة الى مصادر كثيرة وجديدة حول العلاقة الفكرية بين الفيلسوف الروسي بيرديايف والكاتب العملاق دستويفسكي , وهذا يعني – بلا أدنى شك – ان هذا الموضوع لا زال يمتلك اهميته وحيويته وضرورته ايضا سواء في روسيا او خارج اطارها , وكم اتمنى ان تثير هذه المقالة الوجيزة اهتمام المتخصصين العرب بهذا الموضوع , اذ اننا بحاجة ماسة الى الاطلاع – وبعمق – على التجارب الفكرية للشعوب الاخرى للاستفادة منها في مسيرتنا اللاحقة , خصوصا وان هذا الموضوع يتناول قضايا فكرية و انسانية عامة تشمل كل البشر , اذ ان كلمة ( فلسفة )تعني كما هو معروف – ( حب الحكمة والمعرفة ) .