22 ديسمبر، 2024 10:10 م

بيتٌ في منطقة المنصور

بيتٌ في منطقة المنصور

يقول أبي في بعض من مواعظه : المكان الذي تفارقهُ روحكَ قبل جسدكَ ، لا يصلحُ لكَ ولاتصلحُ له ،لأن قصوره اشباح وصرائفه نواح.

صدى رؤية أبي تسكنني الآن وأنا أتجول بين اروقة قصور نبلاء النمسا التي تم تحويل اغلبها الى متاحف ، وفي صدى مسامعي عشق أحد المعلمين لأغنية أسمهان ( ليال الأنس في فيينا ).

 تلك الأغنية التي تجعلنا نطير في خيال أمنية سماع موسيقى موتزارت في البناية الهائلة لأوبرا فيينا ، وفي شجن التخيل والأماني يصيح أحد المعلمين محذرا :انتبهوا ثمة عاصفة ترابية قادمة ، وستطير صريفتنا مثل العجاجة السابقة .

وقتها ننسى اسمهان والعاصمة النمساوية ونتمنى أن لا تطير الصريفة فننام هذه الليلة في العراء او نتوزع على صفوف المدرسة .شكل الصريفة ، بعض من أطياف اللون الطفولي في خطوات تعلم الرسم عند تلاميذ المدرسة في الحضر والريف ، فكلما يطلب المعلم من تلامذته رسم منظر ريفي تهرع اقلامهم الى النهر والصريفة والطيور والمشحوف ، هذا هو المنظر الريفي في خيال جميع تلامذة العراق.

ولأن بساطة هندسة الصريفة التي لا يحتاج بناؤها الى اسمنت وطابوق وحديد ( شيلمان ) وابواب خشب ونوافذ بزجاج وشُرفات ، صارت الشكل الاقرب جماليا وسهولة لخطوات التلاميذ في بدء تنمية موهبة الرسم لديهم .هذا المكان ( الصريفة ) تساوي قصر الزهور : هكذا يقول شغاتي .

وحين سألته : هل شاهدت قصر الزهور .؟

قال : كلا شاهدت الملك فيصل الثاني والوصي عبد الإله ولم اشاهد القصر ؟

قلت :وأين شاهدتهما وأنت كما تقول لم تزر اي مدينة في حياتك عدا كربلاء والنجف والناصرية والجبايش.قال :رأيتهما في طوابع المعاملات ، وأحببت صورة الملك يوم كان صبيا .

ذات يوم جاءنا كتاب من مديرية التربية يخبرنا بضرورة استلام حاسبة يدوية لحساب الارقام تشتغل ببطارية ، يومها فرح مدير المدرسة وقال انها ستعينهُ في احصاءات عديدة بعد أن كان يستعين بمعلم الرياضيات في جمع وتقسيم درجات ، واعطيت مهمة استعمالها لذات المعلم الذي تولع بها وصارت ازرارها شغله الشاغل حتى اراد في ليلة صافية مقمرة ان يعد بها نجوم السماء.ذات مساء كنا نجلس أمام قصرنا المصنوع من القصب نستمتع بصوت اسمهان فيما كان معلم الحاسبة منشغل في الضرب والتقسيم لرواتبنا وعلاواتها وبدلات الاشتراك لنقابة المعلمين عندما مرَّ امامنا قطيع جواميس آل فرحان ، وهم اكثر من يمتلكون من الدواب في أم شعثه ، حتى بتنا نسمي قطيعهم حين يمر امامنا راجعا من قيلولة الماء ب ( عباءة الشمس السوداء ).فجأة نادى معلم الحاسبة على الحاج فرحان وهو يمسك ذات العصا التي مسكها جلجامش ويضرب بها مؤخرات جواميسه التي تعد بالعشرات .أتى الرجل بعد أن اوكل مهمة قيادة القطيع الى ولديه وقال : تفضل استاذ.

قال المعلم : كم عدد جواميسك يا حاج فرحان ؟

قال :من خير الله وأهل البيت مِائة وعشرون مقسمة بين اولادي.ــ وكم سعر الواحدة ؟

ــ 300 دينار ؟

ــ نضرب 120 في 300 فيكون السعر لجميع الجواميس  ستة وثلاثين الف دينار .

ــ والقصد يا ولدي ؟

ــ بهذا المبلغ تستطيع انتَ وعائلتك أن تنتقل الى بغداد تشتري سيارة وبناية بعشرة دكاكين وقصرا في منطقة المنصور وتعيش بعيش رغيد ، وتودع هذا القهر ولسع البعوض.

ضحك الحاج فرحان وقال : دخيلك أستاذ ، وأقضي ( حاجتي ) في غرفة ضيقة ومسقّفة وأبتعد عن فضاء الله هذا ؟