23 ديسمبر، 2024 11:11 ص

أول الكلام:
من أجمل ما كتبه أرباب النقد هو كتب “الموازنة” بين الشعراء، وهي دراسات في النقد المقارن، وهذه المفردة الأخيرة أختطفت ليجعل منها في دراسات “الأدب المقارن” بين شعراء من أمم مختلفة..وأحسب أن هذا النوع من الأدب مازال عندنا يحبو ويكاد يقتصر على الأطاريح العلمية النزرة.. والسبب أنه يشترط معرفة جيدة للغة وآداب الشاعرين المعنيان بالمقارنة، وهو أمر لعمري ليس بسهل!
وأخوكم كتب بموضوع الموازنة بين الشعراء نظرية وتطبيقاً، ومنهما على سبيل المثال: الموازنة بين ابن معصوم والحبوبي في عدة حلقات..وفي رثاء الحيوان بين الشعراء في عدة حلقات….وبين تائيتين في عدة حلقات (الشاعر حسن المرواني وعبد الإله الياسري)..الخ. ومازال ينوي مواصلة ما ابتدأ إن سمح الحال والمجال..
وفي الموازنات لا يتم الاختيار والرصد اعتباطاً بل وفق ماهو مؤتلف ومختلف بين الشاعرين من موضوع ومن شخصية الشاعر مايبرر الموازنة تبريراً موضوعياً، ويكشف عن جوانب خافية أو قد غُفل عنها من قبل الدارسين، أو أنها أرض بكر لم تُحرث بعد!
***
والبيتان هما لشاعرين من عصرنا هذا وإن شئت هما من قرننا المنسلخ، وهما هامتان أو قامتان (وفق ماهو سائر) شعريتان كبيرتان أحدهما لُقّب ب “أمير الشعراء” والثاني ” شاعر العرب الأكبر” وكلا اللقبين جائر زائف خادع ومن أراد الوقوف على الأسباب فليراجع سلسلة مقالات ” في ألقاب الشعراء” لكاتب هذه السطور..
يقول الشاعر أحمد شوقي (1868- 1932) من قصيدته الذائعة “جارة الوادي” والمقصود بها زحلة وفي فندق مطلّ على وادٍ جميلٍ أخضر هو وادي الشعراء، إذ قيل أن عدداً من كبار الشعراء كتب على إطلالة الوادي ومن شرفة الفندق ذاته عدداً من القصائد، وكان شوقي قد زارها لأول مرة عام 1925 ثم اشتد به الحنين ليزورها بعد سنتين بصحبة الشاب المطرب الصاعد الذي- لحّنها وغنّاها- فخاطب زحلة ملهوفاً :
إِن تُكرِمي يا زَحلُ شِعري إِنَّني – أَنكَرتُ كُلَّ قَصيدَةٍ إِلّاكِ
ومطلع القصيدة (المنسي) من أجمل المطالع وأعذبها وأرقها:
شيّعتُ أحلامي بقلب باكِ – ولَمَمتُ من طُرق المِلاح شِباكِ
والبيت المعني هو:
لم تبقَ منّا – يافؤاد – بقيةٌ – لفتوةِ أو فضلةٌ لِعِراكِ
هذا البيت يتساوق مع جو القصيدة، حيث كتبها شوقي وهو على مشارف الستين، يجعل الطبيعة حبيبته فيتغزل بها أعذب الغزل ويعاتبها أجمل العتاب ويشكو إليها أنه فارق الشباب، وبلغة موسيقية تزينها قافية الكاف المكسورة، فتكون النبرة هامسة رقيقة على بحر الكامل، وقد يبدو للسامع أن زحلة فتاة رقيقة ممشوقة القوام خاطبها بلغة العيون معانقاً إياها بعد أن تعطلت لغة الكلام، وهي تتلوى دلالاً بين يديه..
وللجواهري أيضاً عتاب مع الطبيعي وهو يقف أمام جبل صنين في لبنان غير بعيد عن زحلة ليقول منبهراً بروعة الجبال والوهاد والوديان:
أرجعي ما استطعت لي من شبابي – يا سهولاً تدثرت بالهضابِ
وهذه القصيدة أعتبرها من أروع ما كتب الجواهري، ومن أكثر قصائده شموخاً وهو يبدأ بلغة الأمر.. ولغة الأمر تتكرر لدى الجواهري، مثل قصيدة “جربيني”..
وعودة الى بيت شوقي نجده ينتقل بالخطاب الى القلب بلغة العتاب، بأن القلب قد تعب من هموم الحياة وليس لشوقي المترف من هموم سوى الحب والجمال، والعِراك هنا بمعناه الواسع فقد صعب عليه أن يكون كهلا أمام حياة قاسية سلبت منه شبابه! ولم تُبقِ له غير الذكريات التي أصبحت صدى السنين الحاكي!
بيت الشاعر محمد مهدي الجواهري (1900- 1997):
يا دجلة الخير قد هانت مطامحنا – حتى لأدنى طماح غير مضمونِ
وهو من قصيدته الذائعة “يادجلة الخير” قوامها 167 بيتاً كتبها في شتاء براغ عام 1962 التي جاءها عام 1961متعباً إثر خلاف مع الزعيم عبد الكريم قاسم، حيث كان الجواهري قد ناصبه العداء بسبب أمنية لم تتحقق له، إذ كان يطمح بوزارة..فأخذ يسب قاسماً في المجالس ويسميه “الزنيم” وكان كل الشتم يصل لقاسم من شخصية نجفية تولت منصباً أمنياً ومقربة من قاسم..لا دليل أو وثيقة لدي ولكنني أحمل مسؤولية أخلاقية بما خصني به شخص موثوق وصديق حميم للجواهري..
دجلة الخير، مطلعها :
حييتُ سفحك عن بُعدٍ فحييني – يادجلة الخير يا أم البساتينٍ
وهي كباقي شعر الجواهري عالية النبرة الخطابية، وبأسلوب متين، تتسم بالبلاغة وحسن التصوير والجزالة اللفظية، والتكرار البلاغي الخطابي ب”يادجلة الخير..” حيث عمّق الحزن والشكوى والحنين وغاص على الذات وتداعياتها بعيداً وعبّر عن ثقافة واسعة في التراث الشعري على مدى القصيدة الطويل.. فالجواهري متنبيُّ النفس، لكنه يعتبر نفسه أقرب الى لبحتري، نعم هو خليط من المتنبي والرضي وأبو تمام وفخامتهم الشعرية ويقترب من بعيد للبحتري ورقته وعذوبة موسيقاه!
وما قلته عن لقب شوقي أقوله أيضاً عن لقب أطلقته احدى الصحف على الجواهري ” شاعر العرب الأكبر”، وهو لقب مجحف بحق كبار الشعراء الذين تتلمذ عليهم الجواهري وشحذ ذاكرته بروائع أشعارهم..
القصيدة هي من البسيط، البحر الذي يستوعب الحزن والغضب والفرح.. وهي نونية القافية مما جعلها طافحة بالمشاعر الجياشة..
بيت الجواهري فيه يأس وقنوط ليس بمنطلق ذاتي محض وإنما بتوجس من مخاطر لا تني تقترب، وقد يئس من إصلاح الوضع في العراق، حيث لم تمض سوا أشهر معدودة وحصل انقلاب 8 شباط الدموي عام 1963 وقد كان هذا التاريخ بداية الهزائم المتلاحقة حتى يومنا هذا!