18 ديسمبر، 2024 7:35 م

ملامح التغيير في خريطة القرن الأفريقي

ملامح التغيير في خريطة القرن الأفريقي

تُعد منطقة القرن الأفريقي من أكثر المناطق اتساعاً وأشدها تأثيراً من الناحية الجغرافية، ما ينعكس على وضعها الاستراتيجي على المستوى القاري والدولي. إذ تتصف الجغرافية الطبيعية للقرن الأفريقي بتعقيداتها وتبايناتها الكبيرة، مكانياً، لاشتمالها على دولٍ تتمتع بأهمية استراتيجية على المستويين القاري والدولي. وتمتد حدودها عبر النتوء الشرقي للساحل الشمالي الشرقي لأفريقيا، المطل على خليج عدن والمحيط الهندي والمداخل الجنوبية للبحر الأحمر الممتد من الداخل حتى حدود أثيوبيا وكينيا والسودان والصومال.

فضلاً عن الأهمية الاستراتيجية للمنطقة فهي تتميز بالترابط بين مكوناتها المختلفة، حيث ارتبط تاريخ الحبشة بالصومال وإريتريا ارتباطاً وثيقاً، فعندما احتل الإيطاليون إريتريا؛ تطلعوا إلى احتلال الحبشة (أثيوبيا) في عهد منليك الثاني، واعتبرتها امتداداً لتوسعاتها الاستعمارية في المنطقة ، حين كانت شرق أفريقيا ميداناً للتنافس بينها و بين بريطانيا وفرنسا.

وعليه تعددت اتجاهات الوجود الدولي الحديث في القرن الأفريقي واتخذت عدة صور؛ منها:

اتجاه التعاونى: كما بين (الولايات المتحدة وأثيوبيا – روندا ، السودان والصين).
اتجاه المساومة: كما بين الولايات المتحدة مع السودان ).
اتجاه الإستقطاب السياسي: كما في( كينيا ، أثيوبيا، أريتريا من قبل الوجود الإسرائيلي ) .
واتجاه الوجود العسكري: والذي انتشر في خريطة القرن الأفريقي.
الخريطة السياسية الداخلية للقرن الأفريقي.
لرسم الخريطة السياسية فى القرن الأفريقي، علينا قراءة جُملة من الأحداث بشكل مترابط بين الصراع الجاري في منطقة القرن الأفريقي ، والصراع الدولي؛ فلا يُمكن فهم الخريطة السياسة للقرن الأفريقي دون دراسة متأنية لكل مُعطىً من المعطيات الداخلية والخارجية والتي سوف نُعرِّفها في سطور:

المعطى الأول : وهو معطى خارجي مُتعلقٌ بالصراع الخفي بين الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى، والصين كقوة صاعدة، ولكل واحدة منهما أهدافها ومصالحها الحيوية. والسؤال في هذا المعطي هو: هل ستصعد القوة الصينية في العقد القادم على حساب تراجع القوة الأمريكية والأوروبية في القارة الأفريقية عامة ومنطقة القرن الأفريقي خاصة؟ وماهي تداعيات هذا الصعود على دول المنطقة؟

في ذات إطار تنافس القوى الخارجية على القرن الأفريقي يأتي الصراع الإقليمي، حاملاً فى طياته الاستراتيجية الصفرية، خاصة ما بين كل من ( قطر– تركيا) من جانب، ( السعودية – الإمارات) من آخر، وهذا النوع من الصراع يتجلى فى بعض القرارت والمواقف كما حدث في موقف دول القرن الأفريقي إبان التوقيع على قرار مقاطعة (قطر) من بعض دول مجلس دول التعاون الخليجي ومصر، إذ انقسمت الدول الأفريقية بين مؤيدة للقرار ورافضة له وقفت بجانب قطر رغم العقوبات المفروضة عليها.

المعطى الثاني : معطى داخلي يخص دول منطقة القرن الأفريقي التي تعمل دون تخطيط استراتيجي على مستوى نظامها السياسي أو علاقاتها البينية؛ فقد خاضت دول المنطقة العديد من الحروب الأهلية الداخلية والحدودية فيما بينها .

ولكن حتى الآن لم يتم تقديم دراسات عميقة و أوراق تحليلة توضح الأسباب الحقيقية لتلك الحروب ونتائجها وتداعياتها على المجتمعات الإنسانية وعلى الفضاءات السياسية والاقتصادية؛ فمثلا لا توجد دراسة حقيقية قُدِّمت للقارئ الأفريقي أو العربي عن أسباب سقوط الدولة فى الصومال، أو أسباب الصراع الإريتري الجيبوتي

المعطى الثالث: وهو معطى الشخصيات التى لعبت دوراً كبيراً في تغيير خريطة العلاقات القرن أفريقية، وهو الرئيس الأثيوبي ” أبي أحمد “، فمن هو هذا الرجل؟ وماهي المقومات التي يمتلكها حتى يتمكن في فترة وجيزة من تغيير خريطة العلاقات الثنائية في المنطقة برمتها؟

أبي أحمد أكاديمي حاصل على درجة الدكتوراه في علم إدارة الأعمال من معهد دراسات السلام والأمن في جامعة أديس أبابا 2017؛ وعلى ماجستير ادارة التغيير والتحول من جامعة غرينتش بلندن 2011، كما درس تطبيقات التشفير 2005 في جامعة بريتوريا، تلك التوليفة العِمليِّة صنعت منه رجلاً أكاديمياً مُتعدد الكفاءات ما بين الإدارة والهندسة والسياسة .

وكرجل سياسة فقد بدأ مسيرته عضواً في الجبهة الديمقراطية لشعب أورمو وتدرج في عضوية اللجنة التنفيذية للائتلاف الحاكم في الفترة مابين 2010-2012، ثم انتُخِب عضواً بالبرلمان الإثيوبي عن دائرته” أغارو” بمنطقة جيما في إقليم الأورمو وفي هذه الفترة لعب دورا محورياً مع العديد من المؤسسات الدينية ورجال الدين لإخماد الفتنة وتحقيق مصالحة تاريخية في المنطقة، ثم تولى وزراة العلوم والتكنولوجيا بالحكومة الفدرالية ثم منصب مسؤول مكتب التنمية والتخطيط العمراني بإقليم أوروميا، ثم نائباً لرئيس الإقليم، أواخر 2016 ثم ترك كل تلك المناصب ليتولى رئاسة الحزب.

إنه رجل المخابرات العسكرية الذي التحق رسمياً بقوات الدفاع الوطني الإثيوبية عام 1991 في وحدة المخابرات والاتصالات العسكرية وتدرج بها حتى وصل إلى رتبة عقيد 2007، والمهم في هذه الرحلة العسكرية التحاق ” أبي أحمد”بقوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في رواندا عقب الإبادة الجماعية. وإبان الحرب الاثيوبية الاريترية 1998-2000 قاد ” أبي أحمد ” فريقًا استخباراتيًا لاكتشاف مواقع الجيش الإريتري في الجهات الأمامية للقتال وكان نبوغه في العمل الاستخباري سبباً في التحاقه بجهاز المخابرات بقوات الدفاع الإثيوبية (الجيش). وبهذا يعتبر هذا الرجل من القلائل الذين يجمعون فى داخلهم معارف عديدة ودقيقة تترواج بين المهارات السياسية والأكاديمية والأمنية .

على مستوي الدول:
ارتبطت التطورات في دول القرن الأفريقي بوصول أبي أحمد إلى الحكم في إثيوبيا وسعيه الى تصفير المشكلات الخارجية للتفرغ للمشكلات الداخلية، لذا كانت مبادرته الأولى من داخل البرلمان الإثيوبي بفتح الملف الحدودى الارتيري وانهاء قطيعة امتدت قرابة عقدين من الزمن .

و فى الملف الصومالي هناك عدة حراكات سياسية من نوع جديد، فهناك حراك على مستوى رؤوساء الأقاليم، و آخر على المستوى الفيدرالي، و ثالث على المستوى السياسي، مرتبطاً بتعيينات السياسيين الكِبار فى مناصب شبه قيادية مثلما حدث مع الدكتور عبد الرحمن باديو، والذى تم تعيينه كمستشار للدولة فى شؤون المصالحة، وعودة الدم الجديد فى المشهد السياسي الذي جمع كل من رئيسي أثيوبيا وإريتريا وتعزيز التعاون الاقتصادى والسياسي والاجتماعي والثقافي والأمني بينهم، في صورة جديدة على ساحتى المجتمع الدولى لإقليم القرن الأفريقي.

والسؤال المطروح هنا هو، هل تم رسم خريطة القرن الأفريقي على مستوى العلاقات البينية بعيداً عن الدور الجيبوتي؟ الإجابة هي نعم، إذ نلاحظ أن تسارع الأحداث، هو الذي يصنع خريطة جديدة للقرن الأفريقي، ويعود ذلك إلى الخطوات السريعة للدكتور أحمد آبي والذي تمكن من خلط الأوراق بسرعة وفي وقت وجيز، وصنع قرنا أفريقياً جديداً من خلال عدم التوقف عن العمل فى تقريب وجهات النظر بين كيانات المنطقة السياسية ومحاولته صناعة (قرناً أفريقياً) خالٍ من التوترات، والسؤال ماذا لو نجحت سياسية الرجل ذو التكوين الثلاثى ( أكاديمي وسياسي وعسكري/ مخابراتي)؟

الإجابة هي، إن ذلك سيؤدي بالضرورة إلى خلق دولة عميقة فى إثيوبيا تقف أمام حالة جديدة ومأزق سياسي نوعي؛ وسيسعي الرجل بخطوات سريعة على المستوى الاقليمي، ومن لا يلحق بركبه، ربما لن يكون طرفاً في أي معادلة أو خريطة جديدة تتشكل في القرن الأفريقي.

والسؤال: من المستفيد من رسم هذه الخريطة الجديدة للقرن الأفريقي؟

تعد إثيوبيا المستفيد الأول وبلا منازع؛ حيث باتت تتمتع بعلاقات اقتصادية وتجارية مع العالم الخارجي عبر أكثر من منفذ ( الصومال – ارتيريا- السودان جيبيوتي )، بل يمكن أن نقول إن النظام السياسي الجيبوتي استيقظ بعد سباته العميق على حقيقة أن موانئ إريتريا أصبحت بديلاً محتملاً عن موانئه، ولهذا تم الإتصال مع المجتمعين فى أسمرا من قبل الرئيس الجيبوتي ( إسماعيل عمر جيله ) فى وقتٍ متأخر من الاجتماع، وأكّد لهم بأنه مستعد لركوب السفينة، ولهذا يعد النظام الإريتري هو الرابح الثاني بعد إثيوبيا، لذلك يبدو وكأنه يعيش حالة من السعادة الذاتية لأنه وجد من خلال الدكتور أبي أحمد، نافذة سياسية للتعامل مع العالم والانفتاح عليه، فيما يتسم النظام السياسي الجيبوتي ببعض البطء في كل تحركاته، بل يلاحظ فى تحركاته الأخيرة الكثير من التخبط والتعثر في المواقف .

و يمكن في هذا الإطار الإشارة بصفة خاصة إلى اليمن والسودان وكينيا بوصفها دولاً ترتبط بعلاقات بالغة الخصوصية مع القرن الأفريقي، على هذا الأساس، فإن مايحدث في السودان الآن من إقالة حكومة الوفاق الوطني برئاسة بكري حسن صالح، مع قرار تقليل عدد وزراء الحكومة الاتحادية إلى 21 وزيرا بدلا من 31 حقبة وزراية، متربط بجانب المشكلات الداخلية، بشكل أو بآخر، بتسارع خطى التخلق الجديد للقرن الأفريقي .

والسؤال هنا عن مدى ديمومة الاتفاقيات التي يبدو أنها لا ترتبط بمواقف النُظم الداخلية وإنما بتضارب المصالح الأمريكية الصينية؟ وهل ستشكل الأطراف الاقليمية والدولية معول بناء أم هدم لها؟ وهل النظم السياسية لدول القرن الأفريقي وشعوبها مستعدة لقبول نتائج هذه الاتفاقيات ؟

خريطة الوجود الدولي العسكري.
إذا نظرنا إلى الصومال ، سنرى بوضوح وجود القواعد العسكرية الموزع ما بين تركيا في مقديشو، وقاعدتان عسكرية إماراتيتان تحت الإنشاء في بربرة عاصمة إقليم “أرض الصومال”، وفي بواصاصو عاصمة إقليم أرض النبط .

وفي إرتيريا تلك الدولة المستقلة عن اثيوبيا في عام 1993 والتي تحتوى على وجود عسكري إسرائيلى في أرخبيل دهلك حيثت تجري عمليات تزويد الوقود للغواصات الإسرائيلية، ومركزا لجمع المعلومات الاستخباراتية حول الانشطة العسكرية في البحر الأحمر؛ وبشكل تاريخي هناك وجود ايراني في عصب بدعوى حماية مصفاة النفط المملوكة للدولة والتي يعود تاريخها للحقبة السوفيتية.

وفي السودان؛ هناك قاعدة تركية محتملة في سواكن، فضلا عن أن هناك مفاوضات حول قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر، كما يوجد نفوذ عسكري تاريخي للجمهورية الايرانية في المواني السودانية .

أما جيبوتي؛ وهى الدولة التي قررت أن تكون مقرا للقواعد العسكرية التابعة للقوى الدولية العظمى؛ فهناك قاعدة “ليمونيه” العسكرية الأمريكية/ مقر قوة العمل المشترك في القرن الأفريقي- وقاعدة “فورس فرانسيس جيبوت” الفرنسية، وقاعدة عسكرية يابانية وأخرى صينية؛ حيث حرصت الصين على تعميق التعاون العسكري بينها وبين جيبوتي، خاصة بعد إنشاء قاعدة عسكرية أمريكية داخلها.

وعلى الجانب الآخر، كانت الصين مصدرًا مهمًا للأسلحة التي حصلت عليها بعض دول القرن الإفريقي مثل الصومال، وإريتريا، وإثيوبيا . ووفقا لبعض الإحصاءات فقد وصلت قيمة الأسلحة التي حصلت عليها إثيوبيا وإريتريا من الصين خلال فترة الحرب الحدودية بينهما نحو مليار دولار وكان ذلك تجاوزًا للحظر الذي فرضته الأمم المتحدة على مبيعات السلاح للطرفين .

الإرهاب على خريطة القرن الأفريقي.
دائما ما تربط الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الأوروبية الإرهاب بالمسلمين بصفة عامة، وداخل منطقة القرن الأفريقي بصفة خاصة .ولكن، من خلال تحليل ودراسة العمليات الإرهابية التي وقعت داخل منطقة القرن الإفريقي يمكن لإي باحث متخصص أن يصل إلى نتجية مفادها أن معظم الأعمال الإرهابية التي وقعت داخل منطقة القرن الأفريقي كانت لاعتبارات سياسية أكثر من كونها مرتبطة بدوافع دينية، وعلى العكس فإذا أُخذ بالبعد الديني كمقياس للعمليات الإرهابية لوجد الباحث أن معتنقي المسيحية في منطقة القرن الأفريقي هم الأكثر تنفيذا لهذه العمليات الإرهابية وليسوا المسلمين، والمثال الواضح في هذا الإطار أوغندا التي كانت من أكثر دول المنطقة تعرضاً لعمليات قامت بها جماعة ” جيش الرب “.

من هنا يمكننا القول إن الربط بين الإرهاب والمسلمين داخل منطقة القرن الإفريقي ليس صحيحًا من الناحية الواقعية، وإن هذا الربط من جانب الولايات المتحدة وغيرها من القوى الدولية، لا يعدو كونه مجرد تبنٍّ خاطئ لمقولة صدام الحضارات، وبحثاً عن عدوٍ جديد بعد غياب الاتحاد السوفيتي من ساحة الصراع الدولي.

وفي النهاية هل توافقت المصالح الإثيوبية والإماراتية والأمريكية على ضرورة تحقيق المصالحة في القرن الأفريقي؟ فالمشهد يوضح أن هناك أطراف خارجية تحاول استبعاد جيبوتي، وهناك أطراف داخلية على رأسها أديس بابا تدعو لدمج جيبوتي تقديراً لوقوفها بجانبها خلال الحرب ضد ارتيريا.

وإذا أرادت دول القرن الأفريقي استغلال الفرصة التي تعيد بها رسم الخريطة التصالحية فإن عليها السعي لتحقيق حزمة من الإجراءات الضروريّة على أكثر من مستوى ثقافي واقتصادي وسياسي فدول المنطقة بحاجة إلى:-

تسهيل التمكين الثقافيّ للمجتمعات المهمّشة ثقافيّاً ( الأورمو) .
تزويد كلّ الجماعات العرقيّة بحقوق المواطنة العادلة .
استهداف مصادرها الاقتصاديّة في المناطق المحرومة لضمان تمثيل كافٍ لتلك المناطق في العملية السياسيّة .
استراتيجيّة جديدة لبناء الدولة مع تنسيق إقليميّ يشمل قضايا مثل الحدود المفتوحة والمواطنة الثنائيّة.