العراقية الفضائية منها أطل علينا – في عودة مقيتة للتاريخ الأهدل – الإعلامي غسان ، وهو يركب سنن شمعون متي طبقا عن طبق ، بعد شريط احمر حمل خبر ( بيان البيانات ) ، الذي كتبه الرفيق المجاهد السيد نوري المالكي ، والذي كنا نتصور – في واحدة من آمالنا الضعيفة – انه سيكون على سنة حسني مبارك بالانسحاب من المنافسة على منصب رئاسة الوزراء ، حلا للازمة التي تعصف بالعراق واستجابة للمطالب المرجعية والتوافقات الوطنية ، وحماية للبلاد من خطر التمزق ، وربما خجلا من الفشل الذي ثبت دون لبس في أدائه الأمني والخدماتي و الاداري ، لكنّ الرجل كان يسير على سنة عمرو بن العاص مع اسامة النجيفي – الذي خلع نفسه عن المنافسة استنانا برأي ابي موسى الأشعري – ، فثبّت المالكي – في بيانه – نفسه في السلطة ، كما ثبّت عمرو بن العاص خاتمه .
لم يكن مقدم الأخبار ( غسان ) حين قرأ ذلك البيان متذكرا للواقع المأساوي لمدينته التي قدم منها نحو ( بغداد ) ومجدها التليد ، لذلك أعاد البيان مرتين ، في واحدة من مفارقات عراق البعث الدعوتي الجديد ، لكنه لم يرجع البصر ، ليرى من فطور . وتلك سنة اللاعقين لقصاع السلاطين ، وما أكثرهم على موائد الاعلام اليوم ، حيث يؤكدون لنا كل يوم ما قاله الشهيد الصدر بما مضمونه ( كلهم دنيويون ) ، وهو الغالب كما ارى .
قناة العراقية – المحتلة – هي رسميا قناة لكل العراقيين ، ويتم تمويلها من خزينة الدولة العراقية ، لذلك من المفترض بعد هذا البيان – الذي تمت قرائته باسم تنظيم سياسي عراقي وبطريقة تعبوية – ان يقوم البرلمان العراقي بإحالة كوادرها على التحقيق ، بعد ان يصدر قرار باستبدالهم .
( بيان البيانات ) للسيد الرئيس القائد المالكي كان ردا سريعا وواضحا على طلب المرجعيات الدينية – بمختلف عناوينها ومدارسها – ، والمتمحور حول مبدأين ، احدهما ترشيح شخصية تحظى بتوافق وطني لمنصب رئيس الوزراء ، والآخر هو تقديم تنازلات متبادلة بين الأطراف المختلفة لحفظ وحدة الصف الوطني . لكنّ الرجل كان يسير باتجاه منطقة ( انا ربكم الأعلى ) ، لذلك ابى واستكبر وكان من الجاهلين ، وسريع النسيان لمواقف المرجعيات الدينية الاخيرة ، والتي أوقفت زحف داعش الإرهاب وداعش الفساد – الذي جاء به هو – نحو حصونه المالكي – لمن لم يستوعب ردات فعله المتزمتة – يخشى حتى رفاقه في الحزب الذي يقوده ، لذلك هو لا يجرؤ على ترشيح احدهم بديلا عنه ، وبالتالي تحقيق ما ادعاه من حق كتلته الأكبر في هذا المنصب . هو يعي انهم تجمع سلطة ، لا تجمع عقيدة ومبدأ ، لذلك يخشى احدهم الاخر ، حيث لا صداقات ولا عداوات دائمة كما يعبّرون .
احد المحللين السياسيين الأمريكان كان اكثر وضوحا من أصنام السياسة والإعلام في العراق ، حيث وقع على الجرح ، واصفا حال المالكي بعد بيانه هذا ، اذ قال : هذا الرجل ليس مخلصا لبلده .
نعم ، العراق يتمزق ، ومن الممكن رأب الصدع ببعض التنازلات ، لكنّ السيد المالكي لازال يعيش تحت وهم المؤامرة والأعداء ، وانه مستهدف ، كما يتم استهداف كل الناجحين ! ، لازال يعيش شوفينية المنتصر ، ولا من ناصح غيور يخبره ان هذه الأوهام هي التي قادت ( صدام ) لجحر ، ثم الى حبل المشنقة ، بعد ان ترك العراق خنادق متصارعة ومتعادية ، خلف سواتر الخراب .
يقول البعض – وانا منهم – ان الأكراد هم احد الأطراف الانتهازية المحورية فيما يجري ، نعم ، لكنهم سادتي اضعف الأطراف العراقية ، وأقلهم امتلاكا لأوراق المساومة ، ومع ذلك لعبوا على دماء الصراع الشيعي السني ، وغباء ساسة الطرفين ، الناشئ عن نهمهم وشرههم ، والاهم انه فهموا الطريق الى قلب المالكي ، حيث انه الرجل الأكثر تنازلا في مفاوضاته عن مصالح بعيدة المدى مقابل مصالح آنية له ولحزبه ، كما انه صاحب افشل السياسات السلطوية ، والتي تتلخص بحل أزمة آنية عبر خلق أزمة اكثر تعقيدا .
لقد خسر هذا القائد الفريد في دهره فرصة قيام الصحوات ، كما خسر اندفاع الكثير من العشائر السنية نحو العملية السياسية ، حيث اقتنعوا بواقع الحال ، وذلك لمصالح كان يظنها بتأثير مستشاريه ، فلتات عصرهم .
والإعجب من المالكي هو هذه الجموع الشعبية التي تعيد انتخابه كل موسم ، فيما هو يؤكد كل يوم فشله الأمني والخدماتي والاقتصادي ، بمعية سلطان الكذب ( حسين الشهرستاني ) دامت تأجيلاته وملفاته ومافياته ، ولا أبقى الله لنا غروره ونفوره وحقده الأزلي .
الناس في سيرتهم هذه يؤكدون لي – كباحث – حقيقة ما قيل ( كيف ما كُنْتُمْ يولّى عليكم ) ، وهذا يعني ان مجتمعنا يعاني اختلالات ومساوئ جمة ، لابد من تشخيصها ودراستها ، لتتم معالجتها . حيث من المؤكد ان شبيه الشيء منجذب اليه ، وبالتالي ان وصول المفسد والفاشل لإدارة مقومات الأمة ناتج عن وجود من يشبهه فيها ، وبكثرة .
ومما يُنقل عن كتاب بحار الأنوار عن ابي عبد الله عليه السلام انه قال : ( يزجر الناس قبل قيام القائم عليه السلام عن معاصيهم بنار تظهر لهم في السماء وحمرة تحلل السماء وخسف ببغداد وخسف ببلدة البصرة ودماء تسفك بها وخراب دورها وفناء يقع في اهلها وشمول اهل العراق خسوف لا يكون معه قرار ) .
وهذا الحديث كافٍ في إفهام الناس ان ( داعش ) والفساد والخراب وكل ما يأتي من مصائب هي تجليات سلوكياتهم ، وحقيقة ما يستحقون ، لأنهم ابتعدوا عن الله ، وركنوا الى الطواغيت ، واخلدوا الى الارض . ويكفي ان المتحدثين – من اهل السياسة – باسم الدين الاسلامي هم حماة الخمور والفجور في بغداد ، وهم شركاء الليالي الحمراء في كل مدن العراق .
اما المتحدثين باسم علي بن ابي طالب وجعفر بن محمد الصادق فقد كانوا مخلصين في محاربة شريعة الله التي جائت عنهما ، وليست تلك المواقف عنا ببعيد ، حيث اشتركت فيها ( الكرفتات والعمائم ) ، حين نادى حالهم العملي ( ارجع يا ابن فاطمة ) . لذلك كنت أتوقع بلاء أشد من هذا البلاء يقع فينا ، الا ان لطف الله بهذه الارض التي هي عاصمة الحجة ومنطلقه كان حائلا دون شمول البلاء واتساعه .
ومن الغريب الطريف المبكي ان ( المرجعية ) التي تعلن الجهاد وتسير بالآلاف نحو محرقة غير مفهومة البداية من النهاية تعجز حتى اليوم عن اعلان الجهاد ضد المفسدين وتشخيصهم !! . فيما هو واجبها ، استنادا الى ان كل الذي يجري هو من الحوادث الواقعة ، وان الأمة العراقية كانت تنقاد دائماً للمرجعية سلبا وإيجابا . ( وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنَّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم ) .
يذهب الآلاف من المخلصين لوطنهم – احتراما لفتوى المرجعية – نحو ساحات القتال ، وخلفهم الآلاف من أفراد عوائلهم يعانون من انعدام الخدمات الاساسية ، في مفارقة قيادية عجيبة . ان الناس هم محور هذه المفارقات ، حيث يفشلون في تشخيص قيادتهم ، ومن ثم يطيعون ! ، والغريب انهم يقعون وحدهم في النتائج الكارثية لهذه الأخطاء . وانا لا أقول ان المسيرة تنجح بلا اتباع لرأي القيادة الدينية ، بل بالعكس ليس هناك في العالم اجمع من سينجح في قيادة هذا البلد سوى ( العمامة العلوية المخلصة ) ، التي اثبتت وتثبت انها الأقدر على التشخيص وقراءة المعطيات نحو المستقبل ، لكنّي أتحدث في اتباع الناس لقيادات دينية غير واضحة المعالم او الرؤى ، ومتموجة الخطوات ، تتناقض متبنياتها النظرية مع خطواتها العملية ، كتناقض النظري والعملي مع الذات .
( ان الفشل في تشخيص القيادة اليوم مقدمة للفشل في تشخيص القيادة مستقبلا ) ، لذلك انا من الذين يساوون كل هذا الاكشن الإعلامي والمنظماتي والحركاتي والميليشياتي وهذا التهويل والتطبيل بعفطة عنز ، لسببين : انه غير منتج على الارض ، كما انه ساهم بهدم الشخصية العراقية .
التناقض بين ما جاء في ( بيان البيانات ) للسيد المالكي وبين رأي المرجعيات الدينية هو ذاته التناقض الذي يعيشه الكثيرون من الذين يدعون احترامهم للمرجعية الدينية ويوافقون المالكي في سياساته الفئوية .
ولنضرب مثلا لبعض من يرتدي ( رداء ابي ذر ) ويعيش ( صمت المتصوفة ) ، ان ثمانية سنوات – من حكم فلتة زمانه المالكي – تعني ثمانية أضعاف الاكتفاء من المنتوج الكهربائي حسب القاموس الصيني .
كما ارى من الضروري ان احمل فرشاتي واعمل عمل ( دافنشي ) ، في رسم لوحة ( ضمير ) للسادة قادة الأحزاب والمليشيات العراقية ، ( ماذا لو قدتم هذه السيارات الكبيرة لآلاف المتطوعين اليوم ، في زمن سابق نحو ساحات الرفض والاحتجاج ، مطالبين باحترام الانسان العراقي ، والإصرار على توفير حاجاته الاساسية والخدمات العامة ؟ ) ، الم يكن ذلك واجبا كفائيا أيضاً ؟! .
يُنقل عن أمير المؤمنين علي عليه السلام انه قال حين قام إليه صعصعة بن صوحان فقال : يا أميرالمؤمنين ، متى يخرج الدجّال ؟ :
( احفظ ، فانَّ علامة ذلك ، إذا أمات النّاس الصلاة ، وأضاعوا الأمانة ، واستحلّوا الكذب ، وأكلوا الرِّبا ، وأخذوا الرُّشا ، وشيّدوا البنيان ، وباعوا الدِّين بالدُّنيا ، واستعملوا السفهاء ، وشاوروا النساء ، وقطعوا الأرحام ، واتّبعوا الأهواء ، واستخفّوا بالدِّماء. وكان الحلم ضعفاً ، والظلم فخراً ، وكانت الاُمراء فجرة ، والوزراء ظلمة ، والعرفاء خونة ، والقرَّاء فسقة ، وظهرت شهادة الزُّور ، واستعلن الفجور ، وقول البهتان ، والإثم والطغيان ، وحليت المصاحف ، وزخرفت المساجد ، وطوّلت المنارات ، واُكرمت الأشرار ، وأزدحمت الصفوف ، واختلفت القلوب ، ونقضت العهود ، واقترب الموعود ، وشارك النساء أزواجهنَّ في التّجارة حرصاً على الدّنيا ، وعلت أصوات الفسّاق واستمع منهم ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، واتٌّقي الفاجر مخافة شرِّه ، وصُدِّق الكاذب ، وائتُمن الخائن.
واتُّخذت القيان والمعازف ، ولعن آخر هذه الاُمّة أوَّلها ، وركب ذوات الفروج السروج ، وتشبّه النساء بالرِّجال والرِّجال بالنساء ، وشهد الشاهد من غير أن يُستشهد ، وشهد الآخر قضاء لذمام بغير حقٍّ عرفه ، وتُفقّه لغير الدِّين ، وآثروا عمل الدُّنيا على الآخرة ، ولبسوا جلود الضأن على قلوب الذِّئاب ، وقلوبهم أنتن من الجيف وأمرُّ من الصبر ) .
او كما يُنقل من حديث الصادق عليه السلام :
( … ورأيت من أكل أموال اليتامى يحدَّث بصلاحه ، ورأيت القضاة يقضون بخلاف ما أمر الله ، ورأيت الولاة يأتمنون الخونة للطمع ، ورأيت الميراث … ورأيت الصلاة قد استخفَّ بأوقاتها ، ورأيت الصدقة بالشفاعة لا يراد بها وجه الله وتعطى لطلب الناس ، ورأيت الناس همّهم بطونهم وفروجهم ، لا يبالون بما أكلوا وبما نكحوا ، ورأيت الدنيا مقبلة عليهم ورأيت أعلام الحق قد درست … ) .
ان من يسعى لتحقيق الانتصار العسكري على النواصب او غيرهم قد يحقق بعض غاياته ، لكنه لن يدرك الفتح الحقيقي , والبلاء سيظل قائما ما دامت النفوس غير منتصرة .
سادتي سيداتي – من رجال دين ومن عوام سيما المدعين التشيع لعلي – ان ما يجري من بلاء سلطوي وداعشي وغيره هو تجلي لباطنكم وظاهركم ، فلا تتوقعوا النصر والفرج الا بالعودة الى الله ، هو مولاكم الحق .
(( فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِين ))