19 ديسمبر، 2024 10:29 م

بونين يدق بابنا

بونين يدق بابنا

لا يمكن ان يكون عنوان مقالتنا صحيحا اذا قلنا – (بونين في العراق ) , فهو ليس مثل غوركي او تشيخوف او بوشكين او دستويفسكي او تولستوي او تورغينيف…الخ اسماء الادباء الروس الكبار والمشاهير عندنا , و الذين بدأت شهرتهم بالتدريج منذ الثلث الاول للقرن العشرين فصاعدا , لكن بونين مع ذلك دخل الى العراق بشكل متأخر مقارنة بتلك الاسماء, وانه دخل دون (تأشيرة دخول , او فيزا كما نقول) , لأنه كان من المغضوب عليهم في الاتحاد السوفيتي بعد رفضه لثورة اكتوبر, ثم هجرته من روسيا السوفيتية, ثم (ثالثة الاثافي!) وهي حصوله على جائزة نوبل للآداب في الثلاثينات, و لكنه – مع هذا – فقد حصل على ( الاقامة !) القانونية في بلدنا رغم هذا الدخول غير القانوني والمتأخر , ويمكن الان ان نقول انه موجود بيننا في العراق – بشكل او بآخر – مثل بقية الادباء الروس الكبار, الذين ذكرناهم اعلاه, رغم انه لم يصل بعد الى شهرتهم وشعبيتهم الواسعة.
بونين في العراق يرتبط قبل كل شئ باسم د. جودت هوشيار, والذي يمثّل ظاهرة فريدة وجميلة جدا في تاريخ الادب الروسي في العراق , اذ انه جاء الى الادب الروسي من اختصاص بعيد جدا عن الادب , وهو الهندسة و الكهرباء , فقد تخرّج في معهد الطاقة ( جامعة الطاقة الان) في موسكو, حيث كان معنا ضمن الطلبة العراقيين الاوائل في الاتحاد السوفيتي بداية الستينات , وحصل على شهادة الدكتوراه في اختصاصه ذاك , وعاد الى العراق وعمل بشكل ناجح هناك في مجال اختصاصه , ولكن جودت كان عاشقا كبيرا للادب الروسي ,وقد تفاعل مع هذا الادب بحكم دراسته الطويلة في روسيا واتقانه للغة الروسية بشكل معمق وممتاز, والعشق يمنح للعاشق قوة جبّارة وخارقة كما هو معروف, و يستطيع العاشق بها ان يحقق المعجزات , وهذا ما حدث فعلا , وهكذا برز د. جودت هوشيار في مجال الترجمة عن اللغة الروسية , وأصدرت له وزارة الاعلام العراقية كتابا مترجما عن الروسية في بداية السبعينات عنوانه – ( دراسات معاصرة ), وفيه اشارات عميقة الى بونين , ثم نشر قصصا مترجمة لبونين في الدوريات العراقية , وانتبه الى ترجماته استاذ جيلنا د. علي جواد الطاهر , الذي كان يرصد ما يجري آنذاك في مجال الادب بعيونه النقدية الذكية , وطرح استفسارا حول بونين , اذ لم يكن لا بونين ولا هوشيار من الاسماء المعروفة آنذاك للطاهر, ويفخر د. جودت بكل هذه التفاصيل حول بدايات مسيرته الترجمية حول بونين , والذي تبين انه (اي جودت هوشيار) كان من المعجبين جدا بادبه ومن المطلعين بعمق على ابداعه. وأذكر جيدا , ان صديقي المرحوم د. احسان فؤاد ( الشاعر الكردي الرقيق وخريج جامعة موسكو والمثقف العميق) , الذي كان مديرا عاما لمديرية الثقافة الكردية في وزارة الاعلام (و التي أصدرت بالذات ذلك الكتاب آنذاك) كان معجبا جدا بموهبة جودت الترجمية والادبية عموما , وقد حدّثني مرة عن ذلك . واستمر د. جودت بتقديم بونين لنا لحد الان في نشاطه الادبي المتنوع , اذ لانزال نقرأ نصوصا لبونين بترجمته ودراسات عميقة وجميلة عن مكانته في مسيرة الادب الروسي, وكم اتمنى ان ارى يوما كتابا خاصا يضم تلك الكتابات البونينية ( ان صحّ التعبير ), خصوصا وان جودت هوشيار اصبح اليوم نجما من نجوم الباحثين العراقيين في مجال الادب الروسي والعالمي ايضا , وذلك عندما (تحرر!) من اختصاصه الهندسي الكهربائي وتفرّغ كليّا لعشقه الادبي …
ولابد من التوقف هنا عند اسم آخر هو – حسين علي خضير الشويلي , التدريسي الان في قسم اللغة الروسية بكلية اللغات في جامعة بغداد , الذي أصدر اول ديوان لبونين في العراق , وربما في عالمنا العربي ايضا حسب علمي المتواضع حول شعر بونين بالعربية . الشويلي كان طالبا في قسمنا , وقد طلب منيّ – بحكم العلاقة بين الطالب واستاذه – ان اكتب مقدمة لديوانه ذاك , وقد كتبت تلك المقدمة بكل سرور وحب , وصدر الديوان فعلا بترجمته الحلوة تلك ومقدمتي ( انظرمقالتنا بعنوان – مترجم جديد في قبيلتنا ) . وأصدر الشويلي كتابا آخر في بغداد يضم مختارات من الشعر الروسي , وهناك ايضا بعض قصائد لبونين . يقول البعض , ان الشويلي كان جريئا جدا حين أقدم في اول عمل ترجمي له على هذه الخطوة , وانه كان يجب عليه ان يتمرّن اكثر في مجال الترجمة قبل ذلك , ولكن البعض الآخر يقول , ان اي عمل ابداعي يتطلب الشجاعة والاقدام , وان عمله هو محاولة جريئة تحمل روح الشباب وحماسه , وانه اجتهاد ابداعي جميل , ومثل كل اجتهاد , قد يخطئ وقد يصيب , ولكنه عمل جيد ومفيد في كلا الحالتين.
ويجب الاشارة حتما الى اسم عبد الله حبه عند الكلام عن بونين الذي يدق باب العراق , فهو الذي ترجم كتابه الشهير ( الدروب الظليلة) , رغم ان الكتاب صدر في موسكو ضمن منشورات دار رادوغا المعروفة عام1987 ( انظر مقالتنا بعنوان – عبد الله حبه والادب الروسي ) . ان عبد الله حبه عراقي اصيل يعيش في موسكو منذ ستينيات القرن العشرين ولحد الان نتيجة ظروفه الحياتية الخاصة ( اي حوالي ستين سنة !), ولكن نشاطه الابداعي يمكن ان نسجله لوطنه الام – العراق ايضا , وليس عبثا , ان دار المدى العراقية قد اعادت اصدار هذا الكتاب في العراق قبل فترة قصيرة…
بونين يدق باب العراق , فلنفتح له الابواب على مصراعيها , واهلا وسهلا ومرحبا بالمبدعين الروس وغير الروس من امثاله في البلاد التي تحتضن اور و بابل ونينوى وبغداد والكوفة وسرّ من رأى…

أحدث المقالات

أحدث المقالات