أعادتني الضجة التي أثارها الإعلان عن موعد صدور كتاب “الغرفة التي شهدت الأحداث The room where it happened “ لجون بولتون المستشار السابق للأمن القومي الأمريكي إلى الفيلم الملحمي الفرنسي – الجزائري “ Z“ الذي تصدّر شاشات السينما في العام 1969 والمأخوذ عن رواية بنفس الاسم لمؤلفها فاسيليس فاسيليكوس ، والذي يتحدث فيها شهود رئيسيون عن أوضاع حكومية وظروف غامضة ومريبة، مثلما أعربت بعض الأوساط الأمريكية والدولية عن استغرابها ودهشتها إزاء تسريب أسرار ومعلومات وخفايا تتعلق بإدارة الرئيس دونالد ترامب .
جدير بالذكر، أن جون بولتون هو أحد طباخي ” السياسة الأمريكية” ، ومقرب من الرئيس ترامب، ولذلك فإن نشر الأسرار والمعلومات على الملأ أزعجته وأثارت غضبه فأطلق طائفة من الاتهامات والعبارات النابية بحقه، بل إنه طلب منع نشره بزعم مساسه بالأمن القومي وإفشاء الأسرار، لكن القضاء الأمريكي رفض هذا الطلب .
لعلّها ليست المرّة الأولى أن يعمد أحد كبار الموظفين السابقين في البيت الأبيض على نشر مذكراته عن الفترة التي قضاها بالقرب من الرئيس ومن صناعة القرار، ولكن ذلك عادة ما يحدث بعد انقضاء ولاية الرئيس وبدء رئاسة جديدة، غير أن ما حدث هو أن بولتون حاول نشر “الغسيل الوسخ” كما يقال والرئيس ترامب ذاته ما يزال متربعاً على دست الحكم في البيت الأبيض، وتلك سابقة خطيرة، لاسيّما بنشر أسرار ما تزال طي الكتمان أو تسريب معلومات يفترض أن تبقى في الأدراج أو فضح قضايا لم يتم حسم الموقف بشأنها ، والأمر لا يتعلق ببعض الأمور الشخصية، بل إنها تصب في صميم مهمات الرئيس ومسؤولياته وخططه وبرامجه وعلاقاته وصفقاته واتفاقاته، ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب وخطورته.
وبولتون مثل غيره من مستشاري الأمن القومي جاء من “مجمّع العقول” أو “تروست” الأدمغة مثل كيسنجر وبريجنسكي وأولبرايت وستيفن هادلي وكونداليزا رايس، وهؤلاء عادة من المتفوقين الذين تأخذهم الإدارة الأمريكية للاستفادة من إمكاناتهم ، وقد عيّن سفيراً لبلاده في الأمم المتحدة في العام 2005 بعد أن برز كأحد صقور الحزب الجمهوري ومن المحافظين الجدد New Conservative ، وترأس في الفترة من 2013 – 2018 معهد جيستون وهو معهد معادي للإسلام، وقد التحق بإدارة الرئيس ترامب كمستشار للأمن القومي خلفاً لـ هربرت ماكماستر وكان إعلان ترشيحه لهذا المنصب يعني أن إدارة ترامب تتجه إلى التشدد في سياستها الخارجية لما هو معروف من التوجهات المتصلبة لبولتون وقناعته باللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية كحل لفرض هيمنة واشنطن.
لقد وقف بولتون إلى جانب ترامب حين شنّ الديمقراطيون ضدّه حملة شعواء لعزله، ولكن الأخير كافأه بالعزل بعد ذلك، كجزء من مزاجه المتقلب، وقد يكون الإسراع في إصدار مذكراته رغبة في قطع الطريق على الرئيس ترامب من الحصول على ولاية ثانية ، لاسيّما بنشر ما لديه من معلومات وأسرار لا تصب في صالحه، بل تنتقص من إدارته غير المنظمة والتي يتحكم فيها صهره كوشنير وابنته إيفانكا.
وأبرز بولتون الجانب العصابي في شخصية ترامب ونرجسيته وانتهاكاته لمعيار الوطنية الأمريكية، ليس فيما يتعلق بالعلاقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وما أشيع عن دعمه في الانتخابات، بل تدخله لدى الصين لفتح تحقيق مع ابن جون بايدن منافسه الديمقراطي في الانتخابات القادمة، إضافة إلى تخبطاته على المستوى الدولي، فهو غير معني بالقيم الديمقراطية الليبرالية أو الجوانب الإنسانية والحقوقية والقانونية الدولية، وإلّا كيف تنسحب واشنطن من اتفاقية المناخ ومن منظمة الصحة العالمية ، ويصرّ ترامب على رفع ميزانية حلف الناتو إلى 2%، إضافة إلى وقف مساعداته لوكالة غوث اللاجئين وإعلانه عن الرغبة في التخلي عن عضوية لجنة حقوق الإنسان الدولية ، ويتعامل مع العالم العربي والقضية الفلسطينية من موقع تجاري، بل ويخضع كل شيء للتجارة والقوة الاقتصادية.
وبالعكس من ذلك ، يرى بولتون أن القوة العسكرية هي الأساس الذي ينبغي التعامل به مع عدد من القضايا والملفات مثل الملف النووي الإيراني والملف النووي الكوري الشمالي، مثلما كان مع تدمير المفاعل النووي السوري الذي قصفته إسرائيل العام 2007 ويتهم كوريا ببيع أسلحة نووية لسوريا وبتمويل من إيران. وقد وقف ضد مجموعة خان الباكستانية التي تعاونت مع إيران وكوريا الشمالية في مجال الأسلحة النووية، وخصوصاً تخصيب اليورانيوم التي سرقها خان من أوروبا ، حسب ادعاء بولتون.
عرف جون بولتون كل ما كان يجري في غرفة الرئيس، لذلك أراد أن يفتح أبوابها ونوافذها ويظهر خباياها وخفاياها للجميع بحيث يبان الرئيس عارياً ومجرداً من كل ما يستره،لذلك سارع لقطع الطريق على ولايته الثانية بالتوقيع على عقد نشر كتاب الغرفة التي شهدت الأحداث مقابل مبلغ مليوني دولار، ولعلّ ذلك جزء من القوة الناعمة التي استخدمها بولتون بوجه ترامب الذي يقود حروباً ناعمة ضد العديد من الدول والشعوب.