18 ديسمبر، 2024 9:37 م

بوشكين بالنسبة لغوغول مثل الاستاذ بالنسبة لطالبه , رغم ان الفرق في الاعمار بينهما ليس كبيرا نسبيا, فقد ولد بوشكين عام 1799 بينما ولد غوغول عام 1809 . لقد كان غوغول ( يلتهم! ان صحّ هذا التعبير) كل ما يصدر عن بوشكين من نتاجات , وكان يعتبره المثل والنموذج الاعلى , وعندما وصل غوغول من اوكراينا الى بطرسبورغ , وكان ذلك عام 1829, استفسر رأسا عن عنوان شقة بوشكين و توجه الى هناك دون اي موعد مسبق , وطرق الباب ( بعد تردد كبير ) , وسأل عن بوشكين , الا ان الخادم الذي فتح له الباب قال له , ان بوشكين لازال نائما , فسأله غوغول ( انطلاقا من الصورة الفنية الخاصة جدا التي رسمها غوغول لبوشكين في اعماق روحه وكيانه ) – لأنه كان طوال الليل يكتب القصائد ؟ فأجابه الخادم – لا , لقد كانوا طوال الليل يلعبون الورق , وقد اصيب غوغول بصدمة من جواب الخادم هذا , لانه كان يتصور بوشكين محاطا دائما باجواء الالهام والابداع الادبي البحت.
اللقاء الاول بين غوغول و بوشكين في بطرسبورغ تم فقط في صيف عام 1831 , وذلك في بيت الشاعر والناقد الادبي بليتنيف , وكان غوغول قد أصدر كتابه المتميّز الشهير- ( امسيات عند قرية ديكانكا ) , الذي اطلع عليه بوشكين طبعا وكتب عنه تقريظا ممتازا واعتبره كتابا مرحا مدهشا , بل ان بوشكين وجد فيه حتى ( مقاطع شعرية ) , وقد ساعد هذا التقريظ طبعا على التعارف آنذاك و من ثم التقارب بينهما .
لقد ساند بوشكين – و بقوة وحماس – غوغول , وحاول وبكل طاقته على ان يشغل غوغول مكانة متميّزة في الاوساط الادبية والثقافية , وفتح له مجال النشر في مجلته ( المعاصر ), ونشر غوغول فيها فعلا عدة نتاجات من ابداعه , مثل قصته الطويلة المشهورة ( الانف ) , و ( العربة ) وغيرها , ونشر هناك ايضا مقالته النقدية بعنوان ( عن حركة ادب المجلات في 1834 و 1835), والتي تعدّ لحد الان واحدة من المقالات النقدية المهمة في تراث غوغول . ومن المعروف , ان بوشكين هو الذي أعطى لغوغول فكرة مسرحيته الشهيرة ( المفتش العام) , وكذلك أعطاه فكرة روايته ( الارواح الميتة ), وهما طبعا النتاجان الاساسيان والرئيسان في مسيرة غوغول الابداعية, وقد كتب غوغول نفسه عن ذلك بكل صراحة ودقة , وحاول بوشكين ايضا ان يجد مكانا لغوغول للعمل في التدريس بجامعة بطرسبورغ ( في قسم التاريخ ) , ومن المعروف , ان غوغول ألقى محاضرة (حضرها بوشكين وبعض الشخصيات الفكرية الروسية الاخرى ومن بينهم الشاعر والمترجم الكبير جوكوفسكي ) في جامعة بطرسبورغ بعنوان ( المأمون ) عن الخليفة العباسي ( لا زالت لحد الان صورة غوغول معلقة في جامعة بطرسبورغ ضمن صور الاساتذة فيها , وقد شاهدتها انا شخصيا عندما زرت تلك الجامعة عام 2006 مع رئيس جامعة بغداد آنذاك أ.د.موسى الموسوي ).
و محاضرة غوغول عن المأمون معروفة ومنشورة ضمن كتبه و مؤلفاته الكاملة ومترجمة الى العديد من اللغات, وقد ترجمها الزميل كامران قره داغي الى العربية في بغداد بالسبعينات بشكل رائع ونشرها آنذاك, و تناولها الكثير من الباحثين العرب في بحوثهم وترجماتهم عند الكلام عن الموضوعة العربية في الادب الروسي بشكل عام , ولا مجال للتوسع في هذا الموضوع هنا .
سافر غوغول من روسيا بعد عرض مسرحية ( المفتش العام ) عام 1836 (والتي حضرها قيصر روسيا بنفسه ) و الضجة الهائلة التي ارتبطت بذلك العرض , وسمع بخبر مقتل بوشكين في مبارزته الشهيرة مع دانتيس الفرنسي وهو في اوربا , وتأثر جدا , بل انه قال (حسب ذكريات احد اصدقائه) انه تأثر عند سماعه بموت بوشكين أكثر مما لو سمع بموت والدته , التي تعد أعز انسان لديه . ولم يستطع غوغول – بسبب الحزن – حتى ان يستمر بالعمل في كتابة روايته ( الارواح الميتة ) لفترة من الزمن . وكتب غوغول بعد مقتل بوشكين يقول – ( …لم أعمل اي شئ دون نصيحته , ولم اكتب دون ان اتصور انه امامي ..) .
نود ان نشير هنا الى مقالة غوغول الموسومة ( بضع كلمات عن بوشكين ) , والتي حدد فيها غوغول مكانة بوشكين الحقيقية في تاريخ الادب الروسي , وأطلق عليه تسمية – ( شاعر روسيا الوطني الاعظم ) لاول مرة في التاريخ الروسي , ومدى تأثير ذلك على مجمل حركة النقد الادبي في روسيا ( انظر مقالتنا بعنوان – بعض كلمات غوغول عن بوشكين ).
ختاما لهذا العرض عن العلاقات الفكرية المتبادلة بين قطبين من أقطاب الادب الروسي والعالمي ايضا, من الطريف ان نذكر , ان السينما الروسية المعاصرة انتجت فيلما سينمائيا وثائقيا ( 44 دقيقة ) عام 2009 بعنوان – ( كيف اصبح بوشكين وغوغول أقرباء ) , حيث تزوج ابن اخت غوغول حفيدة بوشكين , ابنة الابن الاكبر لبوشكين , و تم زواجهما عام 1881 في ضواحي موسكو , وهكذا ظهر لهم ابناء يوحدون غوغول وبوشكين , وقد حاز هذا الفيلم على جائزة ( الادب والسينما ) عام 2010 في روسيا.