19 ديسمبر، 2024 9:36 م

بوشكين و غريبويديف

بوشكين و غريبويديف

عاش الكساندر سرغييفيتش غريبويديف 34 سنة ( 1795 – 1829) , وعاش الكساندر سرغييفيتش بوشكين 38 سنة ( 1799 – 1837 ) ( كلاهما – وياللغرابة – بنفس الاسم واسم الاب !!!) , اي ان غريبويديف كان اكبر من بوشكين اربع سنوات فقط عندما كانا على قيد الحياة, و ليست هذه الفترة كبيرة بين الاثنين , رغم انها انعكست في بداية مسيرة حياتهما بشكل واضح المعالم, اذ لم يشارك بوشكين في الحرب الفرنسية – الروسية ( عندما هجم نابليون على روسيا عام 1812) , فقد كان عمر بوشكين آنذاك 13 سنة ليس الاّ , اما غريبويديف فقد تطوع للمشاركة في الحرب , ولكن كلاهما ذهبا بعدئذ للعمل في وزارة الخارجية الروسية . اصبح غريبويديف سفيرا لروسيا في طهران وهناك قتله المتطرفون الاسلاميون عام 1829( انظر مقالتنا بعنوان – تمثال غريبويديف في طهران اولا , ثم في موسكو ثانيا) , اما بوشكين فلم يكن ياخذ بنظر الاعتبار عمله في الخارجية , لكنه اصبح مع ذلك (سفيرا في روسيا وفي العالم !) للادب الروسي كما كتب أحد الباحثين الروس وهو يحاول المقارنة بينهما , وتم قتل بوشكين ايضا في مبارزة مع اللاجئ دانتيس عام 1837 . اتهمتهما الحكومة الروسية بعد حركة الديسمبريين 1825 بالانتماء الى تلك الحركة , وحقّقت معهما ( جرى حتى استدعاء غريبويديف واحتجازه رهن التحقيق لفترة طويلة) , ولكن لم تثبت الحكومة اي شئ ضدهما , وألغت بعدئذ كل الاجراءآت ضدهما بالنسبة لهذه القضية.
لاحظ الباحثون , ان بطل مسرحية غريبويديف الشعرية ( ذو العقل يشقى , وهي النتاج المركزي له) كان بعمر بوشكين , وان بطل رواية بوشكين الشعرية ( يفغيني اونيغين , وهي النتاج المركزي له ايضا) كان بعمر غريبويديف , ومن المؤكد ان ذلك جاء بمحض الصدفة ليس الا , الا ان ذلك – مع هذا – اصبح موضوعا للتأمل لدى الباحثين الروس الذين يدرسون موضوع المقارنة بين الاديبين وفي كل المجالات المتنوعة وبالتفصيل, اذ أشار بعضهم , الى ان بوشكين اراد ان يكون بطله في روايته الشعرية تلك ( انضج منه , اي من بوشكين نفسه) , وان غريبويديف اراد ان يكون بطله في مسرحيته الشعرية ( اصغر منه , اي من غريبويديف نفسه). لكن كل نقاط التشابه والتباين في هذه الدراسات الادبية المقارنة ( وما أكثرها طبعا ) بين الاثنين لم تؤثر على المحصلة الاخيرة والنهائية , و التي جعلت الباحثين الروس يسمون غريبويديف (مولير روسيا) , ويسمون بوشكين (شكسبير روسيا) , وهناك دراسات واسعة وعميقة بالروسية حول دور غريبويديف و دور بوشكين في تاريخ المسرح الروسي ومسيرته وتطوره.
لقد كانت العلاقات بين غريبويديف وبوشكين علاقة الند للند , بل ان غريبويدف كان يبدو بعض الاحيان حتى أكثر سطوعا من بوشكين بموقعه المتميّز ( والذي كان يتقدّم في ذلك الموقع الوظيفي بوضوح) في وزارة الخارجية الروسية , ومعرفته للعديد من اللغات ( منها لغتنا العربية قليلا , انظر مقالتنا بعنوان غريبويديف والمتنبي ) , رغم ان بوشكين أصبح طبعا في تلك الفترة واحدا من أكبر الاسماء وابرزها في دنيا الادب الروسي شعرا ونثرا ومسرحا وصحافة . ومع كل هذا , فان بوشكين وغريبويديف لم يصبحا صديقين قريبين , رغم انهما كانا يعرفان بعضهما البعض والتقيا عدة مرات معا , ولكن عندما قتلوا غريبويديف في طهران , فان بوشكين كان من ضمن المستقبلين لجثمانه في القوقاز , وقد كتب بوشكين عن ذلك في كتابه ( رحلة الى ارضروم) ( الذي ترجمه الزميل عبد الله حبه عن الروسية قبل فترة وجيزة وصدر عن دار المدى في بغداد ) , وتحدّث بوشكين في ذلك الكتاب عن تاريخ تعارفه بغريبويديف وطبيعة علاقاته معه.
النقطة الاساسية في موضوعة بوشكين وغريبويدف , والتي يركز عليها الباحثون الروس عندما يتناولونها في بحوثهم ( وهم على حق) , هي الآراء التي طرحها بوشكين حول مسرحية غريبويدف ( ذو العقل يشقى) , هذه الآراء التنبؤية بكل معنى الكلمة , والتي توقع بوشكين فيها ان تتحول الكثير من مقاطع تلك المسرحية الى حكم وامثال روسيّة , وهذا ماتم فعلا . آراء بوشكين حول مسرحية غريبويديف جاءت في عدة رسائل شخصية كتبها بوشكين لاصدقائه ومنهم بيستوجيف وفيازمسكي في اواسط العشرينات من القرن التاسع عشر , وقد دخلت هذه الرسائل باعتبارها وثائق في مؤلفات بوشكين الكاملة , وكذلك تم نشرها في كتاب بعنوان – ( بوشكين عن الادب ) , وهو كتاب يضم كل المقالات والملاحظات التي كتبها بوشكين حول الادب والادباء .
موضوعة بوشكين وغريبويديف لازالت مطروحة وحيوية في تاريخ الادب الروسي وفي مسيرة دراسات الادب المقارن (في اطار الادب الروسي نفسه) , ولكن هذه الموضوعة بعيدة عن قضايا الادب الروسي في العالم العربي , اذ لا يعرف القارئ العربي لحد الان النتاج المركزي لغريبويديف – ( ذو العقل يشقى) , وبالتالي لا يعرف طبعا اهمية هذا الكاتب وقيمته في مسيرة الادب الروسي كما يجب , اذ لم يتجاسر اي مترجم عربي على ترجمة تلك المسرحية الشعرية لحد الان حسب علمنا المتواضع . دعونا نأمل ان نرى هذه المسرحية الشعرية بالعربية يوما ما …

أحدث المقالات

أحدث المقالات