أجرى معهد استطلاع الرأي العام الروسي مرة استبيانا شاملا حول الادباء الروس الاكثر قراءة بين الروس انفسهم داخل روسيا وخارجها في الوقت الحاضر, وقد جاء بوشكين اولا بنسبة 42% داخل روسيا و 38% خارجها , وجاء تولستوي ثانيا بنسبة 27% داخل روسيا و35% خارجها , و تم اجراء هذا الاستطلاع في النصف الثاني من العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين . لقد تذكرت – عندما اطلعت على نتائج هذا الاستبيان الطريف – جملة لتولستوي قالها عن بوشكين مرة , وهي كما يأتي – (أنا أتعلّم الكثير من بوشكين , انه أبي , ويجب ان اتعلّم منه..) , وقلت بيني وبين نفسي – ياللدهشة ويا للروعة , فالاب بوشكين ( عاش 38 سنة , اذ ولد عام 1799 وتوفي عام 1837 ) والابن تولستوي ( عاش 82 سنة , اذ ولد عام 1828 وتوفي عام 1910 ) يتصدران الادب الروسي لحد الآن بين القراء الروس, ونحن في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين !!!
موضوعة بوشكين وتولستوي قديمة في تاريخ النقد الادبي الروسي ومسيرته , وقد ابتدأت واقعيا منذ الثلث الاخير من القرن التاسع عشر , ولا زالت مطروحة ( ان صحّ هذا التعبير ) لحد الان , ومن الطريف ان نشير هنا , الى ان بعض الباحثين الروس قد وجدوا حتى صلة قرابة بين بوشكين وتولستوي وهم يتابعون (أغصان شجرة!) العائلتين وارتباطاتها وتشعباتها, ولكن أحد أصدقائي علّق على هذا الخبر قائلا , انه لا يمتلك اي اهمية في مجال دراسة الادب , وقال وهو يضحك – ( انه كلام نسوان ) , فأجبته وأنا أبتسم , ان نابليون قال – ابحثوا عن المرأة , وان الروس لحد الان يستخدمون هذه الجملة كواحد من الامثال السائدة في المجتمع الروسي ويلفظوها بالفرنسية كما ذكرها نابليون – ( شيرشي لا فام !) , بل ان أحد المعلقين الروس قال , انهما مثل شجرتين تتشابك جذورهما في الاعماق, ولكن ثمارهما مختلفين . و هناك باحث آخر كتب مقالة يعرض فيها رأيه حولهما , وطرح موضوعا جديدا , وهو كما يأتي – لو ان بوشكين كتب رواية ( الحرب والسلم ) مثلا , فماذا كان سيكتب عن هجوم نابليون على روسيا العام 1812 … الخ ..ولكن كل هذه الامثلة الطريفة لا تعني , ان النقد الادبي الروسي لم يطرح بشكل علمي ودقيق موضوعة بوشكين وتولستوي كواحدة من أبرز قضايا الادب المقارن في اطار الادب القومي الواحد , وهي القضية الاصعب مقارنة بقضايا الادب المقارن بين الآداب القومية المختلفة , ونضرب مثلا على ذلك ما تم كتابته في النقد الادبي الروسي حول حكايات بوشكين وتولستوي . ان دراسة هذه الحكايات الشعبية عند الكاتبين ومقارنتهما مع بعض تشكّل فصلا مهما جدا في مجال الدراسات الفلكلورية الروسية والعالمية ايضا, ويمكن كذلك القول – و بكل تأكيد- ان مقارنة تلك الحكايات عند بوشكين وتولستوي مع مضامين الحكايات العربية , وخصوصا مع الف ليلة وليلة يعدّ موضوعا حيويا كبيرا بالنسبة للدراسات المقارنة بين الادبين الروسي والعربي , وهو موضوع طريف جدا لا زال ينتظر الباحث العربي الشجاع في مجال الادب الروسي – العربي المقارن .
ويشير بعض الباحثين الروس , الى ان تولستوي هو الاقرب بين كبار الادباء الروس في القرن التاسع عشر الى بوشكين , مقارنة بليرمنتوف وغوغول وتورغينيف ودستويفسكي مثلا , ويرون , ان نتاجات تولستوي تتوافق وتنسجم في نهاية المطاف مع تلك الافكار التي طرحها وتحدث عنها بوشكين في نتاجاته , ويجدون – رغم التناقض والتنافر الخارجي – هارمونية داخلية بين يفغيني اونيغين مثلا عند بوشكين وابطال الحرب والسلم او آنّا كارينينا عند تولستوي , او بين الصور الفنية للقوقاز عند بوشكين وتولستوي , فكلاهما انطلقا من النظرة الروسية البحتة للقوقاز , مؤكدين على القيم الانسانية والمشاعر النبيلة …
ختاما لهذه الملاحظات الاولية حول بوشكين وتولستوي نشير الى مقارنة طريفة جاءت عند أحد الباحثين الروس حولهما , ونحن نتفق معها , و ملخص تلك المقارنة يعتمد على الصورة الفنية للشمس , اذ يرى الباحث , ان بوشكين يجسّد شروق شمس الادب الروسي وكل الاحاسيس الساطعة والمتفائلة المرتبطة بهذا الشروق وطبيعته, اما تولستوي فانه يجسّد غروب شمس ذلك الادب , الغروب بكل الوانه الساحرة والمتنوعة والمدهشة الجمال . شروق الشمس رائع , لانه بداية سطوع الضياء , وغروب الشمس رائع ايضا , لانه جميل ومدهش , ولكنه – مع ذلك – بداية انحسار الضياء .