تحتفل روسيا سنويا بعيد ميلاد شاعرها الكبير الكساندر بوشكين , الذي ولد في السادس من حزيران/يونيو عام 1799,وخصصت روسيا هذا التاريخ ايضا للاحتفال بيوم اللغة الروسية, لأن بوشكين واللغة الروسية يرتبطان عضويا, اذ وضع بوشكين اسس اللغة الروسية المعاصرة , وبالتالي فان بوشكين بشعره ونثره يمثٌل اللغةالروسية احسن تمثيل , واللغة الروسية تتجسد في ابداعه بابهى صورها, وتجري هذه الاحتفالات سنويا في وسائل الاعلام كافة,
وقد ذكرتني هذه الاحتفالات الان بما حدث لي عام 1999 في بغداد, عندما احتفلت روسيا والاوساط الادبية العالمية بذكرى مرور قرنين على ميلاد هذا الشاعر, اذ هاتفني احد الاصدقاء وقال لي ان ممثلية روسيا في منظمة اليونسكو في باريس قد اعلنت بهذه المناسبة مسابقة عالمية لترجمة قصيدة بوشكين الشهيرة ( النبي ) الى 8 لغات من بينها لغتنا العربية , وان الجائزة هي 1000 دولار, واخبرني ان اتحاد الادباء رشحني لترجمة القصيدة والمشاركة في هذه الفعالية, وحاولت ان اثبت له ان هذه القصيدة مترجمة ولعدة مرات الى العربية, ولكنه قال انهم يريدون ترجمة جديدة غير منشورة, وانه يجب ارسالها بالبريد بعد 3 ايام. وافقت على خوض هذه التجربة غير الاعتيادية والجديدة بكل معنى الكلمة بالنسبة لي , واعلنت ( حالة الطوارئ) في بيتي, وانجزت الترجمة الجديدة بعد مراجعتي التحليلية و الدقيقة جدا لترجمات زملائي المنشورة وهم كل من المرحومة الدكتورة حياة شرارة والدكتور جميل نصيف التكريتي والاستاذ حسب الشيخ جعفر, واعطيتها لمندوب اتحاد الادباء كي يرسلها الى باريس بالبريد المسجل, وارسلت انا ايضا نسخة اخرى الى هناك ( من باب الاحتياط),وبدأت انتظر, والانتظار في مثل هذه الحالات ( اشد من القتل), ولم يأت اي جواب, وكدت انسى الموضوع, وفجأة وصلت لي رسالة من باريس وعليها عنوان اليونسكو,وكنت أظن انهم يعلموني بالفوز, وفتحت الرسالة على عجل وبقلق شديد , ووجدت انها تتضمن شكرهم على مساهمتي ليس الا,وانهم يعلموننيبان الذي فاز هي مترجمة من تونس مقيمة في باريس, وكان عضو لجنة التحكيم بالنسبة للترجمة العربية من تونس ايضا, والحليم تكفيه الاشارة كما يقول المثل المعروف . تقبلت الامر طبعا وقررت ان ارسل لهم جوابا اشكرهم فيه على رسالتهم و طلبت منهم الاطلاع على الترجمة الفائزة , وارسلت الرسالة فعلا وانتظرت طويلا , لكني لم استلم جوابا.
بعد مرور فترة من ذلك قررت ان اكتب تفاصيل هذه الحادثة وارفقها بترجمتي لقصيدة بوشكين ونشرها في بغداد, اذ كنت ارى ان تلك الترجمة تستحق – من وجهة نظري – النشر, اضافة الى ان الحوادث التي رافقتها كانت طريفة وغير اعتيادية , وفعلا كتبت كل ذلك وتناولت بالتفصيل معاناتي عند الترجمة ومقارناتي بنصوص الترجمات السابقة لزملائي واحلامي ب ( الجائزة ) والتي كانت في ايام الحصار آنذاك تعني ثروة باكملها مقارنة مع رواتبنا المضحكة والمبكية في آن واحد, وتحدثت عن قلق الانتظار وفرح استلام الرسالة الجوابية وفحوى طلبي بالاطلاع على الترجمة الفائزة…الخ, وقررت ان انشر تلك المادة في مجلة ( الف باء ) الاسبوعية المعروفة باعتبارها اكثر المجلات العراقية آنذاك شيوعا وانتشارا, وان طبيعة تلك المجلة تتقبل نشر مثل هذه المقالات في صفحاتها الثقافية , وذهبت الى مقر المجلة لتسليمهم المقالة, وعندما دخلت الى القسم الثقافي وجدت الشاعر المبدع جواد الحطاب جالسا هناك, والذي استقبلني بكل ترحاب وحفاوة , اذ اننا نعرف بعضنا البعض منذ فترة طويلة, واخبرته بالمقالة فرحب بذلك واستلمها مني, وكان عنوانها – ( بوشكين واليونسكو وانا ),وتركت المجلة عائدا الى مكان عملي في كلية اللغات.
مرت الايام, واطلعت على عدة اعداد من المجلة ولم اجد تلك المادة, وظننت ان المجلة مزدحمة بالمواد الادبية والثقافية , وانهم لا يستطيعون نشر كل المواد بسرعة, وهذه امر طبيعي, خصوصا ان تلك المادة لا ترتبط بتاريخ محدد ولا بمناسبة – ما, والتقيت مرة – و بمحض الصدفة – مع صديقي سعيد نفطجي, المترجم في دار المأمون بوزارة الاعلام آنذاك وزميلي منذ ايام الدراسة في موسكو , وبعد التحية والسلام اخبرني ( وهو الذي يعرف اهتماماتي) انه قرأ اليوم مقالة طريفة جدا حول بوشكين وتذكرني, وبدأ يحدثني بمضمونها , واذا به يتكلم عن مقالتي تلك بحذافيرها, وتعجبت انا وقلت له انني من كتب هذه المقالة واعطيتها الى مجلة ( الف باء) لنشرها وانني اطلعت على العدد الاخير للمجلة ولم اجدها, فقال لي انه قرأ المقالة في جريدة جديدة ظهرت هذه الايام واسمها ( الزمن) وفي عددها الاول بالذات, ولم ينتبه من هو كاتبها. طلبت منه الرجوع الى هذه الجريدة للتأكد, وفعلا رجعنا اليها ووجدت المقالة منشورة ولكن دون اشارة الى اي اسم كاتبها. اتصلت بالشاعر جواد الحطاب وقلت له ذلك , فاخبرني انه الان محرر لهذه الجريدة الجديدة وانه قرر ان ينشر مقالتي فيها لاهميتها وطرافتها وللدعاية لهذه الجريدة الجديدة( دون اعلامي بذلك او طلب موافقتي طبعا ), واعتذر لسقوط اسمي سهوا من المقالة, وقال لي انه مستعد لنشرها مرة اخرى وباسمي اذا كنت ارغب بذلك , فقلت له لا ضرورة لنشرها مرة اخرى .
هكذا انتهت هذه المشاركة بمسابقة اليونسكو في باريس ,وضاعت مني حتى امكانية نشر قصتها في بغداد, نتيجة تصرف صديقي الشاعر جواد الحطاب, وقد تذكرت كل ذلك الان اثناء احتفالات روسيا بميلاد شاعرها الكبير بوشكين وقررت ان اكتب هذه السطور , لاني اظن ( وبعض الظن اثم طبعا) انها قد تساهم برسم الواقع الذي كنا نحيا به في تلك الفترة, رغم ان تلك الاحداث تبدو صغيرة جدا الان, ولا تمتلك تلك الاهمية الكبيرة في مسيرة حياتنا العاصفة في الوقت الحاضر.