تطهر موسكو من جديد نهجاً منهجياً لحل الأزمة الأوكرانية ، وكما كان الحال قبل ثلاث سنوات فهي مستعدة لمناقشة السلام مع مراعاة التغييرات التي تشهدها الجبهة العسكرية ، مع ذلك ، وتؤكد روسا إن الحوار الدبلوماسي بشأن أوكرانيا ليس الخيار الوحيد للسلطات الروسية ، ورفضها لمن يحاولون مخاطبة روسيا وشعبها كما قال الرئيس فلاديمير بوتين ، بأسلوب فظّ، مستخدمين لغة الإنذارات ، جاعلاً تهديداتهم بلا معنى ، وبمعنى آخر، أصبحت أوروبا قوةً مدمرة.
ومنذ أن بدأت العملية العسكرية الروسية الخاصة ، وفي اليوم الثاني من بدايتها ، بادر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى طرح مبادرة سلام ، تحقن دماء الشعبين الشقيقين الروسي والأوكراني ، وبالفعل بدأت المفاوضات بين موسكو وكييف ، وعقدت أجتماعات أسفرت عن التوصل الى أـتفاق يوقف الحرب بين البلدين ، ولكن مثل هذا ” الوفاق ” ، لايصب في مصلحة الرئيس الأمريكي الاسبق جو بايدن ، وحلفاءه الغربيين ، لأنهم أشعلوا الحرب ، لا حتى يتم إيقافها بعد ذلك ، فالاهداف الغربية كانت واضحة ومكشوفة .
الاهداف تسعى الى تدمير أوكرانيا وقتل شعبها حتى آخر رجل ( هذا ما صرح به الغرب ) ، والهدف الثاني هو تدمير روسيا استراتيجيا ، وجعلها تغوص في مستنقع حرب أستنزاف طويلة ، ومدوا ويمدون أوكرانيا بالاسلحة والأموال لحثها على الاستمرار الحرب ، مهما كلفهم الأمر ، فهم من وضعوا العراقيل أمام اتفاق ” اسطنبول ” بين موسكو وكييف ، ونجحوا في ” خداع ” زيلينسكي لرفض الاتفاق ، من خلال تقديم وعود لنظام كييف أثبتت إنها ” جوفاء ” ، وأجبروه بعد ذلك على التخلي عن المفاوضات والذهاب إلى الحرب ضد روسيا ، على الرغم من أن الأوروبيين يدركون جيدًا أن أوكرانيا لا يمكنها الانتصار .
وعلى مدار السنوات الثلاثة بذل الرئيس الروسي ، كل ما في وسعه لحل المشكلة والوصول إلى تسوية بالطرق السلمية والدبلوماسية ، لكن عندما لا تكون لدى روسيا خيارات دبلوماسية، يتوجب عليها مواصلة العملية العسكرية ، وأثبتت الوقائع أن التسوية الأوكرانية أعقد من مجرد توقيع على ورقة، وأن عملية تحقيق التسوية مليئة بالتفاصيل الدقيقة، كل منها بالغ الأهمية لمستقبل روسيا وأوكرانيا ، وأن روسيا سبق وان أعلنت عن هدنات متعددة تم انتهاكها بشكل متكرر من قبل نظام كييف، بما في ذلك آخر هدنة لمدة ثلاثة أيام ، تم فرضها خلال احتفالاتالذكرى الثمانين للنصر في الحرب الوطنية العظمى.
أن بيان الرئيس فلاديمير بوتين ، هو تكرار للمبادرات السابقة التي طرحها الرئيس الروسي طوال السنوات الماضية ، لكن هذه المبادرة تحمل في معانيها جميع الشروط اللازمة لبدء مفاوضات مباشرة مع أوكرانيا في إسطنبول، يوم الخميس 15 مايو الجاري ، ودون شروط مسبقة ، ولا يوجد فيها كما أكدت المتحدثة بأسم الخارجية الروسية ، “ما يمكن إضافته أو حذفه” ، وان دعوة بوتين لكييف لاستئناف المفاوضات المباشرة في إسطنبول بأنها “مدروسة” وتعكس إرادة سياسية واضحة لدى الكرملين لحل النزاع ، كما إن دعوة بوتين للعودة إلى طاولة المفاوضات في إسطنبول ، تظهر أن الكرملين قد أبدى إرادة سياسية قوية في هذا ، خصوصا على خلفية فشل جهود وقف إطلاق النار التي بدأت بعد تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منصبه.
ونتفق مع المحللين أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعطى نظام كييف فرصة سانحة ، باقتراحه إستئناف المفاوضات المباشرة بين الطرفين ( والتي لم تقطعها روسيا ) ، ومنح الروس الأوكرانيين بموجبها فرصة سانحة كبيرة ، إذا لم يستغلوها، فستحل روسيا المسألة في ساحة المعركة ، ومبادرة بوتين هو تأكيد التزام بلاده بإجراء مفاوضات جادة مع أوكرانيا ، هدفها القضاء على الأسباب الجذرية للصراع وإرساء سلام طويل الأمد ودائم ، وإن مقترح الجانب الروسي بشأن المفاوضات مطروح على الطاولة، والقرار يعود إلى كييف ومسؤوليها.
القيادة الروسية أستقرأت التطورات خلال الأيام الماضية ، ووجدت أن هناك عدة عوامل دفعت روسيا إلى اتخاذ هذه الخطوة ، وأن أحد العوامل المهمة هو فشل مبادرة الولايات المتحدة ، لوقف إطلاق النار، وعادت واشنطن للتقارب مع أوكرانيا ، ووقّعت اتفاقاً بشأن المعادن الأرضية النادرة ، والعامل الثاني هو أن الدعم الأوروبي لزيلينسكي ، أرسل إشارات مهمة إلى الكرملين، على الرغم من تصريحات ترامب المؤيدة لروسيا ، بعد استقباله فلاديمير زيلينسكي في البيت الأبيض ، أن هذا الصراع سيستمر لفترة طويلة ، وأن الكرملين أخذ هذه المعطيات في الحسبان ، وقرر المضي في مسار التفاوض عبر إسطنبول ، كما أن موضوع المفاوضات مع أوكرانيا قد يُبحث أيضا ضمن المحادثات المتواصلة بين روسيا والولايات المتحدة في المملكة العربية السعودية.
ولعل الرئيس الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، هو أكثر الشخصيات التي أيدت مبادرة الرئيس بوتين ، لأنه ( ترامب ) يريد تحقيق ” إنجاز ” ، يحسب له ، بعد 100 يوم من “اليأس “ الذي تلبسه خلال الفترة الماضية ، وعجزه عن تحقيق أختراق دبلوماسي لحل الصراع الروسي الأوكراني ، بعد أن وعد بحله خلال 24 ساعة ، وطالب أوكرانيا بالموافقة الفورية فورا على دعوة الرئيس الروسي للقاء يوم الخميس في تركيا للتفاوض ، وتهديده لكييف “إذا لم توافق (أوكرانيا)، فسيعرف القادة الأوروبيون والولايات المتحدة المواقف التي يتخذها الجميع وسيتصرفون وفقا لذلك” ، وهو ما دعا فلاديمير زيلينسكي ، للاجابة على مبادرة الرئيس الروسي ، والتأكيد على أنه ” سينتظر الرئيس الروسي في اسطنبول شخصيا ، وتوقعه وقف إطلاق نار شامل ودائم ابتداء من الاثنين ، ليكون الأساس اللازم للدبلوماسية“ ، لأنه أخيرا أقتنع بأنه لا جدوى من تأجيل عمليات القتل.
وتتزايد الانتقادات خلال هذه الفترة لسياسات المفوضية الأوروبية ، واتهمت بروكسل ، بمحاولة قمع السيادة الوطنية لدول الاتحاد الأوروبي ، من خلال فرض العسكرة عليها في أعقاب الأزمة الأوكرانية ، كما ان الغرب قلق بشأن فشلهم، ولا يريدون الاعتراف به ، وتحاول أوروبا أن تبدو قوية وحازمة ، وذات حق في إصدار الإنذارات والتهديدات بالعقوبات ، متخفية وراء ترامب ، ونصب الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون نفسه ، في موقف “المحارب”، “نحن نرفض بشدة إمكانية تقديم أي تنازلات.. ولا شروط مسبقة: لا وقف لتوريد الأسلحة لغايات الدفاع ولا وقف للمقاومة، ولا حكم مسبقاً على نتائج أي مفاوضات” ، في حين ينبغي لفرنسا ، على العكس من ذلك، أن تسعى إلى اغتنام الفرص لتقديم خدمات الوساطة على طريق السلام .
وعلى مايبدو إن حالة عدم اليقين التي يعيشها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في العلاقات الدولية، وخاصة فيما يتصل بالصراع في أوكرانيا ، تعيد إلى الأذهان الاستعداد للحرب ، وتشير زعيمة كتلة التجمع الوطني الفرنسي البرلمانية مارين لوبان، ، الى ان مواقف ماكرون هي نتيجة الغموض الذي يكتنف سلوكه ، حيث يزعم ماكرون مرات عديدة بوجود الحل لديه، ولكن حتى الآن لم يلمس أحد شيء من هذا القبيل ، فمن يريد السلام حقا، يجب عليه الترحيب بأي أصوات تُطالب بإنهاء هذه الحرب المروعة.
ومهما يكن من أمر، فإن الغرب، وفي كييف، يبحثون الآن بشغف عن رد على كلام بوتين ، ومن الواضح أن خصوم روسيا لم يكونوا مستعدين لمثل هذه المقترحات ، لإنهم يراهنون على الحرب ، حتى التصريحات حول وقف إطلاق النار لمدة 30 يومًا ، التي طرحها تحالف ” الراغبين ” ( فرنسا والمانيا وبريطانيا ) في كييف ، ما هي الا محاولة لمنح القوات المسلحة الأوكرانية استراحة ، ويحاول الغرب جذب الولايات المتحدة إلى صفهم، لكنهم في النهاية سيُجبرون على الموافقة ، لأن ترامب أيد استئناف عملية إسطنبول ، في الوقت نفسه، لا يكترث الرئيس الامريكي للأوروبيين ، فإنه ببساطة يريد أن يصبح صانع سلام عظيم – في أوكرانيا، وفي فلسطين، وفي الصراع الهندي – الباكستاني .
إن اقتراح الرئيس فلاديمير بوتين بإجراء مفاوضات مباشرة في إسطنبول قد يكون الفرصة الأخيرة للسلطات في كييف ، والتي يجب الاستفادة من هذا العرض المقدم من جانب بوتين، بغض النظر عن أي طموحات ومطالبات ، فقد يكون هذا العرض الأخير، على الأقل في ظل الوضع الراهن، وبالتالي، الفرصة الأخيرة للقيادة الحالية في أوكرانيا ، فالوضع العسكري في أوكرانيا يزداد سوءا، وإذا أخطأت كييف في حساباتها هذه المرة وعدم الموافقة على استغلال هذه الفرصة المعروضة عليها حاليا ، فعندها لن ينفع الندم ، فالاوضاع في الجبهة كلها تشير الى ان الغلبة إلى جانب الجيش الروسي، وهو ما يتجلى بشكل واضح في نتائج العمليات العسكرية ، وكلما استمرت المماطلة بخصوص إجراء المفاوضات، سيزداد الوضع تدهورا في أوكرانيا ، وعندها سيصبح الوضع بعد فترة وجيزة بالنسبة لزيلينسكي على الأغلب كارثيا”