18 ديسمبر، 2024 5:14 م

بوتين يغزو أوكرانيا ,بسبب تراكمات الماضي ومن اجل عودة روسيا

بوتين يغزو أوكرانيا ,بسبب تراكمات الماضي ومن اجل عودة روسيا

تُعَدُّ الحرب التي بدأت للتو بين روسيا وأوكرانيا مُحصِّلة 30 عاما من الأخذ والرد. والأمر أبعد من أوكرانيا نفسها واحتمالية انضمامها إلى الناتو، فهي تدور حول مستقبل النظام الأوروبي الذي تَشكَّل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث صمَّمت الولايات المتحدة وحلفاؤها خلال تسعينيات القرن الماضي هيكل الأمن الأوروبي دون أن يكون لروسيا دور أو التزام واضح. ومنذ تولَّى “فلاديمير بوتين” رئاسة روسيا وبلاده تتحدَّى هذا النظام، فقد اشتكى الرجل مرارا من تجاهل النظام العالمي لمخاوف الأمن الروسي، كما طالب باعتراف الغرب بحق موسكو في دائرة امتيازات خاصة داخل الفضاء السوفيتي السابق، وشنَّ توغُّلات عسكرية محدودة في الدول المجاورة له (مثل جورجيا) التي سعت للخروج من فلك روسيا، وذلك للحيلولة دون تغيير وجهة تلك الدول بالكامل نحو الغرب.
يخطو بوتين بهذا النهج الآن خطوة أخرى إلى الأمام، حيث يُقدِم على غزو أوكرانيا غزوا أشمل بكثير من مجرد ضم القرم والتدخُّل في إقليم دونباس الذي نفَّذته روسيا عام 2014، وهو غزو سيُقوِّض النظام الإقليمي الحالي، وربما يفرض حضور روسيا من جديد نحو ما يعتبره بوتين “المكانة التي تستحقها” بلاده في القارة الأوروبية والمشهد العالمي. ويرى بوتين أن التوقيت مواتٍ الآن للتحرُّك، إذ إن الولايات المتحدة في نظره ضعيفة ومنقسمة وأقل قدرة على أن تسلك سياسة خارجية متماسكة، كما أن العقدين اللذين قضاهما في منصبه جعلاه يستخف بمسألة القوة الباقية للولايات المتحدة. ويقف بوتين اليوم في مواجهة خامس رئيس أميركي منذ تولِّيه رئاسة روسيا، وقد بات يرى واشنطن بعد كل تلك السنين محاورا غير موثوق به. أما الحكومة الألمانية الجديدة فلا تزال تبحث عن موطئ قدم لها في المشهد السياسي، إذ تُركِّز أوروبا في المجمل على تحدياتها الداخلية الآن، فيما تملك روسيا سطوة مُعتبرة على القارة الأوروبية بفضل سوق الطاقة المُحكَم.

يتصرَّف بوتين مدفوعا بمجموعة مبادئ متداخلة لسياسة بلاده الخارجية تشي لنا بأن موسكو ستكون طرفا مثيرا للاضطرابات في السنوات المقبلة، ولنُسمِّها “عقيدة بوتين”. ويقع في القلب من هذه العقيدة إجبار الغرب على معاملة روسيا وكأنها الاتحاد السوفيتي، أي قوة لها احترامها وهيبتها، ولها حقوق خاصة في جوارها المباشر، وصوت مسموع في كل قضية دولية مهمة. وترتكز هذه العقيدة على أن دولا قليلة فقط هي التي يحق لها امتلاك مثل هذه السلطة، إلى جانب السيادة الكاملة على أراضيها، وأنه ينبغي لبقية الدول الخضوع لأهواء تلك النُّخبة القليلة من القوى الكبرى. وتنطوي هذه العقيدة على ضرورة الدفاع عن النظم الاستبدادية وتقويض الديمقراطيات، وهي ترتبط في الأخير بهدف بوتين الأسمى: عكس مآلات انهيار الاتحاد السوفيتي، ونقض عُرى التحالف الأطلسي، والتفاوض من جديد على التسوية الجغرافية التي أنهت الحرب الباردة

تملك روسيا، في نظر بوتين، الحق التام في أن يكون لها مقعد على الطاولة في القرارات الدولية الكبرى كافة. وبعد أن مَرَّت ما يعتبرها بوتين إهانة التسعينيات، حينما أُجبِرَت روسيا وهي في أضعف حالاتها على القبول بأجندة وضعتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، يبدو أن بوتين قد حقَّق مراده اليوم. فقد نجحت روسيا في إعادة بناء جيشها بعد حرب عام 2008 مع جورجيا، حتى أصبحت الآن القوة العسكرية الأبرز في المنطقة، مع القدرة على مد أذرع قوتها عالميا، كما أن قدرة موسكو على تهديد جيرانها تُتيح لها أن تُجبِر الغرب على الجلوس إلى طاولة المفاوضات معها، وهو ما ثبتت صحته بوضوح في الأسابيع الماضية. ورغم طرد موسكو من مجموعة الثماني (G8) بعد ضمها شبه جزيرة القرم، فإن حق النقض الذي تتمتع به في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بالإضافة إلى دورها بوصفها قوة عظمى جغرافيًّا ونوويًّا وفي مجال الطاقة، يضمنان لها التزام بقية دول العالم بأخذ رأيها في الاعتبار.

يرى بوتين أنه يحق لروسيا تماما استخدام القوة إذا ما اعتقدت أن أمنها مُهدَّد، إذ تُعَدُّ مصالح روسيا مشروعة مثلها مثل مصالح الغرب، ويؤكد بوتين أن الولايات المتحدة وأوروبا تجاهلتا مصالح بلاده في هذا الصدد. وقد رفضت الولايات المتحدة وأوروبا سردية المظلومية تلك الصادرة عن الكرملين، التي ترتكز على تفكُّك الاتحاد السوفيتي، لا سيما انفصال أوكرانيا عن روسيا. وحينما وصف بوتين الانهيار السوفيتي بأنه “الكارثة الجيوسياسية العظمى للقرن العشرين”، فإنه كان يتباكى على 25 مليون روسي وجدوا أنفسهم خارج روسيا، وخاصة حقيقة أن 12 مليون روسي وجدوا أنفسهم في الدولة الأوكرانية الوليدة. وبحسب ما كتبه بوتين في مقال نُشِر الصيف الماضي بعنوان “حول الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين”، فقد “وجد الناس أنفسهم (عام 1991) خارج دولتهم في ليلة وضحاها، مُبعدين بوضوح هذه المرة عن وطنهم الأم التاريخي”، وقد وُزِّع هذا المقال على الجنود الروس مؤخرا.

هذه السردية حول هزيمة روسيا على يد الغرب مرتبطة بهوس خاص عند بوتين: فكرة أن الناتو، الذي لم يكتفِ بأن يضم في عضويته دول ما بعد الاتحاد السوفيتي وأن يُقدِّم لها المعونة، قد يُهدِّد روسيا نفسها. ويُصِرُّ الكرملين على أن هذا الهاجس يستند إلى مخاوف حقيقية، فقد تعرَّضت روسيا مرارا للغزو على يد الغرب، إذ غزتها في القرن العشرين قوات التحالف المناهضة للبلشفية، التي ضمَّت جنودا من الولايات المتحدة، وذلك خلال حربها الأهلية بين عامَيْ 1917-1922، وغزتها ألمانيا مرتين، ما أدَّى إلى مقتل 26 مليون مواطن سوفيتي في الحرب العالمية الثانية. وقد ربط بوتين صراحة بين هذا التاريخ ومخاوف روسيا الحالية بشأن توسُّع الناتو قُرب حدودها، وما نتج عن ذلك من مطالب لضمان أمنها.

أما اليوم، فإن روسيا قوة نووية عظمى تُلوِّح بصواريخ جديدة “فوق صوتية”، وما من دولة لديها نية لغزو روسيا، في حين يمتلك جيرانها إلى غربها سردية مختلفة، ويؤكدون قابلية غزوهم من جانب روسيا طيلة قرون. وبدورها لن تشن الولايات المتحدة هجوما أبدا على روسيا، رغم اتهام بوتين لها بالسعي إلى “الحصول على قطعة شهية من كعكتنا”. ومع ذلك، فإن تصوُّر روسيا التاريخي لذاتها والمستند إلى هشاشتها يجد آذانا مُصغية لدى سكانها، إذ يعج الإعلام الذي تُسيطر عليه الحكومة بمزاعم مفادها أن أوكرانيا قد تكون قاعدة الناتو لشن عدوانه على البلاد. وبالفعل، أورد بوتين في مقاله العام الماضي أن تحويل أوكرانيا لتكون “قاعدة إطلاق موجَّهة لروسيا” جارٍ على قدم وساق.

يعتقد بوتين أيضا أن روسيا لها كامل الحق في دائرة من الامتيازات الخاصة في الفضاء السوفيتي السابق، وهو ما يعني أن على جيرانها ألَّا ينضموا إلى أي تحالف تعتبره مُعاديا لها، وخاصة الناتو والاتحاد الأوروبي. وقد أوضح بوتين هذا المطلب في المعاهدتين اللتين اقترحهما الكرملين في 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، إذ تتطلَّب المعاهدتان التزام أوكرانيا والدول السوفيتية السابقة -وكذلك السويد وفنلندا- بالحياد الدائم، وتجنُّب السعي لنيل عضوية الناتو. وسيكون على الناتو كذلك التراجع إلى وضعه العسكري عام 1997، أي قبل توسُّعِه الأول، عن طريق سحب جميع قواته ومعداته من وسط وشرق أوروبا، مما يُخفِّض وجود الحلف إلى ما كان عليه قبل تفكُّك الاتحاد السوفيتي. وكذلك سيكون لروسيا حق النقض في خيارات السياسة الخارجية لجيرانها من الدول غير العضوة بالناتو، وسيضمن ذلك بقاء الحكومات الموالية لها في تلك البلدان، وأهمها أوكرانيا.

حتى الآن، لم تُبدِ أي حكومة غربية استعدادها لقبول هذه المطالب الاستثنائية، إذ تتبنَّى الولايات المتحدة وأوروبا مبدأ حرية الأمم في تحديد أنظمتها السياسية الداخلية، وارتباطات سياساتها الخارجية، في شتى أنحاء العالم. أما الاتحاد السوفيتي، في الفترة بين 1945-1989، فقد حرم وسط أوروبا وشرقها من تقرير المصير، ومارَس سلطاته على السياسات الداخلية والخارجية للدول الأعضاء في “حلف وارسو” بواسطة الأحزاب الشيوعية المحلية والشرطة السرية والجيش الأحمر. وحين حاد بلد منها عن النموذج السوفيتي -مثل المجر عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام 1968- عُزل قادته بالقوة، ومن ثمَّ مَثَّل حلف وارسو تحالفا ذا سجل فريد من نوعه: لقد كان يغزو أعضاءه فقط.

يتشابه تفسير الكرملين الحديث للسيادة بصورة لافتة مع التفسير السوفيتي، فهو يرى، كما قال جورج أورويل، أن بعض الدول أكثر سيادة من غيرها. وقد قال بوتين إن قوى عظمى قليلة فقط -روسيا والصين والهند والولايات المتحدة- هي مَن تتمتع بالسيادة التامة، وتختار بحرية أي تحالفات ستنضم إليها، أما الدول الأصغر مثل أوكرانيا وجورجيا فلا تتمتع بالسيادة الكاملة، ولذا عليها احترام قيود روسيا الصارمة، تماما مثلما تحترم دول وسط أميركا وجنوبها، بحسب بوتين، جارتهم الأكبر في الشمال. هذا ولا تسعى روسيا إلى عقد التحالفات بالمعنى الغربي للكلمة، بل تبحث عن شراكات تبادلية وأداتية مفيدة لها ولشركائها معا، مثل شراكتها الصين، بحيث لا تحد من حرية تصرُّف روسيا أو تصدر حكما على شؤونها السياسية الداخلية.

تُعَدُّ مثل هذه الشراكات الاستبدادية مُكوِّنا من مكونات عقيدة بوتين، ويُقدِّم الرئيس بلاده بوصفها داعما للوضع القائم، ومدافعا عن القيم المحافظة، ولاعبا عالميا يحترم القادة الراسخين في مواقعهم، لا سيما المستبدين منهم. وكما أظهرت الأحداث الأخيرة في كلٍّ من بيلاروسيا وكازاخستان، فإن روسيا هي القوة التي يلجأ إليها الحكام المستبدون المحاصرون طلبا للدعم، فقد دافعت روسيا عن المستبدين من جيرانها وعن غيرهم ممن يبعدون عنها جغرافيًّا مثل كوبا وليبيا وسوريا وفنزويلا. أما الغرب، بحسب الكرملين، فيدعم الفوضى وتغيير النظم السياسية، على غرار ما حدث خلال حرب العراق عام 2003، والربيع العربي عام 2011. وقد حقَّقت روسيا في السنوات الأخيرة نجاحا كبيرا فيما يتعلَّق برغبتها في أن يعرفها العالم بوصفها القائد والداعم لأنظمة الحكام الأقوياء، وآية ذلك ما قامت به جماعات المرتزقة المدعومة من الكرملين بالنيابة عن روسيا في أنحاء شتى من العالم، مثلما هو الحال في أوكرانيا.

لا يقتصر تدخُّل موسكو المحافظ على نطاق ما تعتبره منطقة نفوذها، إذ يعتقد بوتين أن مصالح روسيا ستتحقَّق على أفضل وجه بتفكُّك التحالف الأطلسي. ومن ثمَّ يدعم بوتين الجماعات المُشكِّكة في الاتحاد الأوروبي والجماعات المناهضة لأميركا في القارة الأوروبية، كما تدخَّل في انتخابات بدول أخرى، وعمل في العموم على توسيع الشقاق داخل المجتمعات الغربية. ويتمثَّل أحد أكبر أهداف بوتين في دفع الولايات المتحدة إلى الانسحاب من أوروبا، وتجدر الإشارة هُنا إلى ازدراء الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لحلف الناتو، وتجاهله بعضا من كبار حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، بالإضافة إلى حديثه علنا عن انسحاب الولايات المتحدة من التحالف. أما إدارة الرئيس جو بايدن فتسعى بدأب إلى إصلاح التحالف، وقد عزَّزت بالفعل أزمة بوتين حول أوكرانيا من وحدة التحالف. بيد أن هناك ما يكفي من الشكوك في شتى أنحاء أوروبا حول استمرار التزام الولايات المتحدة بعد عام 2024، وقد حقَّقت روسيا بعض النجاح في تعزيز هذه الشكوك، لا سيما من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.

قد يُمهِّد إضعاف التحالف الأطلسي الطريق أمام بوتين ليُدرِك هدفه النهائي: الإطاحة بالنظام الدولي الذي تلا الحرب الباردة، وهو النظام الليبرالي المستند إلى القواعد وتُشجِّعه أوروبا واليابان والولايات المتحدة، وذلك لصالح نظام دولي آخر أكثر قبولا بالنسبة لروسيا، إذ تسعى موسكو إلى ما يشبه تحالف القوى في القرن التاسع عشر. ولربما يتحوَّل نظام كهذا أيضا إلى تجسيد جديد للنظام الناتج عن “مؤتمر يالطا” (الاتفاقية الموقَّعة عام 1945 بين الاتحاد السوفيتي وبريطانيا والولايات المتحدة)، بحيث تُقسِّم روسيا والولايات المتحدة والصين الآن العالم إلى مناطق نفوذ ذات أقطاب ثلاثة. وبالفعل، عزَّز التقارب المتزايد بين موسكو وبكين دعوة روسيا إلى إقامة نظام “ما بعد الغرب”.

أقرَّ النظام العالمي في القرنين التاسع عشر والعشرين قواعد معينة للعبة، إذ احترمت كلٌّ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة مناطق نفوذ بعضهما بعضا إلى حدٍّ كبير. وقد نُزِع فتيل أخطر أزمتين في تلك الحقبة -أزمة الإنذار الأخير لبرلين الذي أطلقه القائد السوفيتي خروشوف عام 1958، وأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962- قبل أن تندلع مواجهة عسكرية. وإن كان للحاضر أي دلالة، فإنه يدل على أن نظام “ما بعد الغرب” بالنسبة إلى بوتين سيكون عالما “هوبزيا” (بالنسبة إلى المفكر الإنجليزي توماس هوبز الذي يُستخدم اسمه لوصف وضع به تصارع فوضوي حاد دون قواعد واضحة) ومضطربا لا يلتزم بأدنى قواعد. وفي خضم سعيه إلى نظامه الجديد ذاك، سيكون نهج بوتين عمليا هو الاستمرار في إثارة الاضطرابات بالغرب، ودفعه إلى تخمين نِيَّاته الحقيقية، ومن ثم مفاجأته بتحرُّكات موسكو.

 

بالنظر إلى أزمة أوكرانيا الحالية، يبدو أن بوتين ما زال يتصرَّف وفقا لقناعته بأن الغرب تجاهل طيلة ثلاثة عقود ما يراه الكرملين مصالح روسيا المشروعة. ومن ثمَّ فهو عازم على إعادة ترسيخ حق روسيا في وضع حدود للخيارات السيادية لجيرانها وحلفائها السابقين من “حلف وارسو”، وإجبار الغرب على قبول هذه الحدود، وليكن ذلك بالدبلوماسية أو بقوة السلاح.

لا يعني هذا أن الغرب قليل الحيلة، فسيكون على الولايات المتحدة الاستمرار في المسار الدبلوماسي مع روسيا والسعي إلى تسوية مؤقتة مقبولة للجانبين، دون المساس بسيادة حلفائها وشركائها. وفي الوقت نفسه، عليها الحفاظ على التنسيق مع الأوروبيين للاستجابة لتحرُّكات روسيا غير المقبولة ومعاقبتها. ولكن من الواضح أنه حتى إذا توقَّفت الحرب التي بدأت للتو، فما من عودة إلى الوضع القائم قبل حشد روسيا لقواتها في مارس/آذار 2021. وقد تكون النتيجة النهائية لهذه الأزمة إعادة تنظيم الأمن الأوروبي الأطلسي للمرة الثالثة منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي.

لقد أتى التنظيم الأول بواسطة ترسيخ “نظام يالطا” على صورة كتلتين متنافستين في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وأتى التنظيم الثاني بين عامَيْ 1989-1991، مع انهيار الكتلة الشيوعية ثم الاتحاد السوفيتي ذاته، وما أعقب ذلك من رغبة الغرب في جعل أوروبا “موحَّدة وحرة”. وفي نهاية المطاف، تدور الأزمة الحالية حول إعادة روسيا رسم خريطة عالم ما بعد الحرب الباردة، وسعيها إلى إعادة بسط نفوذها على نصف أوروبا، بالاستناد إلى حجة أنها تضمن أمنها. وبصرف النظر عن مآلات الأزمة الحالية، من المؤكَّد أنه ما دام بوتين باقيا في السلطة، فإن عقيدته سوف تبقى، وسوف تُلقي بظلالها على العالم لفترة طويلة.

 

كان لبوتين ما أراده، تحدى الولايات المتحدة وتحالُف الأطلسي، واجتاح أوكرانيا ليفرض بالقوة ما يعتقدها مصالح روسيا. لكن الحرب لم تظهر قوة بوتين، بل أظهرت عورته: قوة عسكرية روسية متواضعة من بقايا الحرب العالمية الثانية. ولولا سلاح روسيا النووي، لتصدى الغرب لبوتين عسكرياً ودفعه وجيشه الى محيط موسكو.

على أن العسكر ليس نقطة ضعف روسيا الوحيدة، بل كل ما يرتبط بدولة روسيا واقتصادها وقدراتها العلمية المنعدمة.

في زمن الحرب الباردة، كان الإتحاد السوفياتي صاحب ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، وكان يصنع الطائرات والسيارات والمعدات المنزلية.

اليوم، يحل الاقتصاد الروسي في المرتبة الثانية عشر عالمياً، وذلك قبل بدء الحرب في أوكرانيا، وقبل قيام الغرب بفرض عقوباته القاسية على موسكو. واليوم، لا يوجد في الأسواق العالمية كومبيوتر صناعة روسية، ولا تلفون، ولا تلفزيون، ولا حتى راديو.

روسيا ليست قوة عالمية، على ما سعى بوتين لتصويرها منذ تسلمه الحكم في عام ٢٠٠٠. روسيا قوة مندثرة ما تزال تقوم ببعض الصناعات العسكرية، ولكنها عدا عن ذلك، فهي محطة بنزين للعالم مع صواريخ نووية.

غريب أن بوتين لم يفهم الدرس. لسنوات، بدا ذكياً محنكاً، ولكن الأرجح أن لعنة البقاء في الحكم لعقود حلّت عليه، فصار محاطاً بالمتملقين، وخسر اتصاله مع الواقع وقدرته على فهمه وتشخيصه.

فشلت كل مشاريع بوتين لإقامة نظام عالمي بديل عن الذي تقوده الولايات المتحدة.

حاول إقامة مصرف دول بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، وإصدار عملة دولية لتصبح بديلا للدولار الأميركي، عملة العالم. فشل بوتين، وفشل المصرف، وفشلت محاولة إقامة نقد مشترك.

وحاول بوتين إقامة تحالف اقتصادي يقارب التكامل مع الصين للوقوف في وجه الولايات المتحدة. لكن الصين لم تصوّت حتى إلى جانب بوتين في الأمم المتحدة ضد القرار الذي أدان اجتياحه أوكرانيا، بل امتنعت عن التصويت، في وقت تستعد بكين للالتزام بالعقوبات الدولية على روسيا، على عكس ما كان يأمل أنصار بوتين وتحالف الممانعة (إيران وتوابعها).

أما سبب تقاعس الصين عن إنقاذ روسيا ماليا، فواضح.

يبلغ حجم اقتصاد الصين ١٥٪؜ من حجم الاقتصاد العالمي، لكن هذه الضخامة ليست مبنية على اكتفاء ذاتي، بل على صادرات الصين إلى السوقين الأميركية والأوروبية العملاقتين. بكلام آخر، حتى تحافظ الصين على حجم اقتصادها، عليها الحفاظ على تجارتها مع مجموعة الدول السبع، التي تتضمن أميركا والإتحاد الأوروبي، وبريطانيا وكندا واليابان.

يبلغ حجم اقتصاد مجموعة الدول السبع ثلثي الاقتصاد العالمي، مع شبه اكتفاء ذاتي، وهو ما يجعله قادراً على فرض العقوبات على الآخرين ومنيعاً في الوقت نفسه على عقوبات الأخرين عليه.

هذه الوقائع الاقتصادية وضعت الصين أمام خيارين: إما تنقذ روسيا وتتحالف معها وتخسر أسواق الدول السبع، أو تتخلى عن روسيا لتحافظ على علاقاتها التجارية مع نصف الكوكب. وتعرف الصين أنها إن اختارت روسيا، فسيتقلص حجم اقتصادها بشكل كبير، أي أنه بدلا من أن تنقذ بكين موسكو، فسوف تغرق معها.

في الحرب الباردة المقبلة، كما في الماضية، لن تقف الصين في المعسكر الشرقي، مع أنها تشبهه، بل ستحافظ على علاقاتها بالغرب، وستسعى جاهدة في محاولتها وقف التقهقر الاقتصادي الذي تعاني منه، وهي مشكلة معروفة في علم الاقتصاد بـ “فخ الدخل المتوسط”، أي أن الصين أفادت في مراحل نموها الاقتصادي الأولى بسبب انخفاض سعر العمالة، ولكنها فشلت في أن تتحول الى اقتصاد متطور فعلقت بين عالمين، نموها لا يمكنه الاعتماد على العناصر التي دفعته للنمو في سنواته الأولى وفي نفس الوقت لا يملك القدرة على النمو كالاقتصادات المتطورة.

في الحرب الباردة المقبلة معسكران: غربي تقوده الولايات المتحدة، القطب الأوحد عالميا في ظل فشل روسيا عسكرياً وتباطؤ الصين اقتصادياً، وآخر تقوده روسيا بمشاركة سوريا وروسيا البيضاء.

الصين ستقف على الحياد ومثلها ستفعل إيران، التي تهلل لاجتياح بوتين أوكرانيا وتلعن أميركا والغرب، ولكنها تستميت لعقد اتفاقية مع أميركا تؤدي لرفع العقوبات عن نظام طهران.

وإيران هذه أضعف بكثير من روسيا والصين، بل هي تستعين بهما وتستجديهما، مثل في اتفاقية الربع قرن الاقتصادية التي عقدتها مع الصين، أو في سعيها للحصول على تقنيات عسكرية روسية صار العالم يعرف اليوم أنها فاشلة.

علّمتنا حرب أوكرانيا بعض الدروس، أولها أن النموذج الغربي في الحكم والاقتصاد مازال الأفضل في العالم، ليس مثاليا، ولكنه الأفضل بدون منازع، وأن البدائل كلها كوراث، إن كان في اقتصاد الصين الرأسمالي الموجه، أو في الحكومة الإسلامية الإيرانية صاحبة المخيلة الحافلة بالبطولات، أو في روسيا التي تظاهرت أنها قوة عالمية ليتبين أن حتى أسطول طائراتها المدنية، أيروفلوت، هو صناعة أوروبية ويطير ببرامج أميركية، وأنه بدون الغرب وتقنياته، التي تشتريها روسيا وتستهلكها، لكانت روسيا في وضع أسوأ مما كان عليه الإتحاد السوفياتي في أسوأ أيامه.

أما في دنيا العرب، فلا دروس ولا هم يحزنون، فقط استعادة لنفس نظريات المؤامرة البالية على طراز أن الغرب خشي قوة بوتين فاستدرجه الى مأزق، أو أن الصين ستتصدى للغرب، أو أن إيران قوة عالمية يعتد بها، وما إلى هنالك من أساطير تتناقلها الأجيال التي تفنى ولكن أساطيرها خالدة لا تموت.

العالم بعد أوكرانيا سيعود إلى الحرب الباردة لأنها الوسيلة الوحيدة لمواجهة قوة نووية انفلتت من عقالها. في الحرب المقبلة، ستقود أميركا وحلفاؤها العالم، وستعيش روسيا في عزلة الى أن تتوب، وستعيش الصين على الحياد.

أما إيران وأزلامها، فستبقى غارقة في نفس الشقاء، قبل حرب أوكرانيا كما بعدها.

 

تلوح في الأفق نُذُر هجوم عسكري روسي في أوكرانيا هذا الشتاء، إذ عزَّزت موسكو من وجود قواتها بطول الحدود الأوكرانية على مدار الأشهر الماضية بما يُتيح لها أن تُمهِّد الطريق لعملية عسكرية تحسم الانسداد السياسي في أوكرانيا لصالحها. ورغم أن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” اعتاد التلويح باستخدام أدوات القوة في معرض الدبلوماسية، فإن موسكو تبدو بصدد عمل أكبر من التلويح هذه المرة. وإذا لم يتوصَّل أطراف الأزمة إلى اتفاق، فإن نيران الصراع قد تشتعل من جديد على نطاق أوسع بكثير.

دعونا نسأل لماذا قد يخاطر بوتين بقلب الطاولة جيوسياسيا واقتصاديا، في حين أنه مستفيد بإبقاء الوضع القائم إقليميا على ما هو عليه. لقد استحوذت روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014 في واحدة من أكبر عمليات انتزاع الأراضي التي شهدتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وحين فرض الغرب عقوبات على روسيا عقابا لها على غزوها أوكرانيا فإنها لم تترك ندوبا عميقة؛ فلا يزال اقتصاد روسيا الكُلي مستقرا. وفي الوقت نفسه، تظل يد موسكو قابضة على سوق الطاقة الأوروبي عبر خط الأنابيب “نورد ستريم 2″، الذي سيُرسِّخ من اعتماد ألمانيا على الغاز الطبيعي الروسي، ويبدو الخط ماضيا في طريقه للتشغيل رغم عدة عقبات قانونية. وبالتزامن مع ذلك، تخوض الولايات المتحدة وروسيا حاليا محادثات من أجل الاستقرار الإستراتيجي بينهما، إذ التقى الرئيسان بوتين وبايدن في يونيو/حزيران الماضي في خضم جهودهما لبناء علاقة مفهومة أكثر للبلدين.

بيد أنه من أسفل ذلك السطح الهادئ، ثمَّة مسار يأخذ روسيا وأوكرانيا نحو تجدُّد الصراع غير المحسوم بينهما، الذي يسعه أن يُعيد رسم خارطة أوروبا مرة أخرى، ويُفسِد على واشنطن جهودها من أجل ترشيد علاقتها مع روسيا. إن موسكو ما انفكَّت تخسر نفوذها السياسي في أوكرانيا العام تلو العام، حيث وقفت الحكومة في كييف موقفا حاسما بوجه المطالب الروسية العام الماضي، ملوِّحة بأنها لن ترضخ من أجل توفيق علاقاتها مع بوتين. أما الدول الأوروبية فتبدو داعمة للموقف الأوكراني، في الوقت الذي وسَّعت فيه كييف من تعاونها الأمني مع منافسي روسيا الأوروبيين والأميركيين.

بالتزامن مع ذلك، أعادت موسكو بناء وضعها المالي منذ إقرار العقوبات الغربية عليها عام 2014، وتملك في حوزتها 620 مليار دولار من الاحتياطي النقدي الأجنبي، كما أن لها سطوة مُعتَبَرة على أوروبا هذا العام بالتحديد نظرا لأسعار الغاز المرتفعة والنقص المتوقَّع في إمدادات الطاقة. وبينما تتعاظم ثقة روسيا سياسيا واقتصاديا، فإن انتباه واشنطن وتخصيصها مواردها للمنافسة مع الصين لعله أقنع بوتين بأن أوكرانيا الآن بُقعة ذات أهمية هامشية بالنسبة إلى الولايات المتحدة.

لقد أعلن قادة روسيا بأنهم ضاقوا ذرعا بالدبلوماسية، وأنهم يرون اندماج أوكرانيا المتزايد مع الولايات المتحدة وحلف الناتو أمرا لا يُمكنهم السكوت عنه، ومن ثمَّ فإن المسرح مُهيَّأ لموسكو كي تُعيد ضبط الموازين بواسطة القوة، ما لم تتوصَّل مع واشنطن وكييف إلى حل سلمي للأزمة.

لا يُوحي تموضع روسيا العسكري الآن بأن الغزو وشيك، ولربما لم تتخذ موسكو بَعْد القرار السياسي بشنِّ عملية عسكرية. بيد أن النشاط العسكري الروسي في الأشهر الماضية يتجاوز كثيرا دورته التدريبية المعتادة، حيث تحرَّكت الوحدات العسكرية لآلاف الكيلومترات إلى المقاطعة العسكرية الغربية المتاخمة لأوكرانيا، كما أرسلت بقية أفرع الجيش من القوقاز وحداتها إلى شبه جزيرة القرم. وليست تلك بتدريبات اعتيادية، بل جُهد واضح لإعادة توزيع الوحدات والمُعدِّات من أجل عمل عسكري محتمل.

ما الذي تغيَّر على مدار العام الماضي ليجُرَّ معه تلك التغيُّرات؟ أولا، لم تؤتِ الإستراتيجية الروسية في أوكرانيا أُكلها بحل سياسي مقبول. فبعد حملة انتخابية أبدى فيها انفتاحا على الحوار مع روسيا، قلب رئيس أوكرانيا “فولوديمِر زِلِنسكي” الطاولة على إمكانية التوصُّل إلى حل مع روسيا قبل عام بشكل بدَّد آمال الأخيرة بأن تُحقِّق أهدافها بواسطة الدبلوماسية. هذا ووصلت المحادثات بين روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا إلى طريق مسدود، ولم تعُد موسكو ترى سبيلا للفكاك من العقوبات الغربية، ومن ثمَّ تبعثرت الجهود السياسية والدبلوماسية في هذا الصدد، في حين تعلم موسكو علم اليقين بأنها نالت مرادها سابقا حين سلكت مسلك القوة.

في الوقت نفسه، أخذت أوكرانيا تُعمِّق من شراكاتها مع الولايات المتحدة وبريطانيا وبقية دول الناتو، وقدَّمت واشنطن دعما عسكريا فتَّاكا للجيش الأوكراني، ما يُعَدُّ شوكة في ظهر موسكو، التي تبدَّل موقفها رويدا من اعتبارها عضوية أوكرانيا في الناتو خطا أحمر إلى رفض التعاون الدفاعي البنيوي المتنامي بين أوكرانيا والغرب جملة وتفصيلا. وقد صرَّحت القيادة الروسية بموقفها مُستخدِمة أشد العبارات على مدار العام الماضي، ونبَّهت إلى خطوطها الحمراء في أوكرانيا، دون أن ترى من الولايات المتحدة تجاوبا جديا مع خطابها. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2021، أشار بوتين إلى أن أوكرانيا، وإن لم تحصل على العضوية الرسمية في حلف الناتو، “فإن تطوُّرها العسكري على الأرض جارٍ بالفعل، ويُشكِّل خطرا على روسيا”.

على الأرجح أن تلك ليست مجرد كلمات، فالقيادة الروسية لا ترى أُفقا لحل دبلوماسي، وتظنُّ أن أوكرانيا تنجذب رويدا نحو المدار الأمني الأميركي، ولعلها تعتقد لهذا السبب أنه لا مفر من الحرب. هذا ويوقن القادة الروس بأن استخدام القوة لن يكون سهلا أو دون عواقب، لكنهم يرون أوكرانيا في مسار غير مقبول، ومن ثمَّ فإن خياراتهم محدودة لإنقاذ سياستهم القائمة سابقا، بل ولربما توصَّل قادة روسيا إلى استنتاج مفاده أن اللجوء إلى الخيار العسكري اليوم سيكون أقل كُلفة من الغد.

ولقد حقَّقت روسيا نصرا غريبا أثناء هجومها على أوكرانيا عامَيْ 2014-2015، وفرضت اتفاقات لوقف إطلاق النار غير مناسِبة لكييف. وتطوَّر الجيش الأوكراني كثيرا منذئذ، لكن نظيره الروسي تطوَّر أيضا، ويظل هامش التفوُّق الكمِّي والنوعي الروسي واسعا. بيد أن نجاح روسيا على أرض المعركة لم يُتَرجَم إلى نجاح دبلوماسي منذ ذلك الحين، حيث أثبت “بروتوكول مينسك” الذي تمخَّض عن الحرب أنه اتفاق خاسر لكلا الطرفين.

من جهتها لم تستعِد أوكرانيا سيادتها على أراضيها، وفشلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون في إجبار روسيا على الانسحاب تحت ضغط العقوبات، رُغم نجاحهم في تجنُّب مفاقمة الصراع بينهم وبين قوة نووية كبرى. أما روسيا فتضاءل نفوذها باطراد منذ عام 2015 -بعيدا عن الأراضي التي استحوذت عليها أو غزتها- إذ وقَّعت أوكرانيا اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي عام 2014، ما وضعها داخل النسق القانوني الأوروبي، وهي النتيجة ذاتها التي سعت روسيا إلى الحيلولة دون وقوعها. وقد مضت كييف في سعيها الحثيث من أجل عضوية الناتو، ورغم انعدام فرصها الحالية في دخول التحالف، فإن تعاونها معه ما انفك يتزايد.

ورغم أن “زيلينسكي”، رئيس أوكرانيا الحالي، رشَّح نفسه متعهِّدا بفتح باب المفاوضات مع روسيا وحاول تدشين الحوار الدبلوماسي بالفعل بعد دخوله منصبه، فإنه بدَّل نهجه عام 2020، وأغلق محطات التلفاز المؤيدة لروسيا، والتزم خطا صارما في رفض المطالب الروسية، ووضع بلاده على الطريق نحو “الاندماج اليورو-أطلسي”، ذاك المصطلح الذي يُصِرُّ الدبلوماسيون الأميركيون على استخدامه لوصف قِبلة أوكرانيا الإستراتيجية بعيدا عن روسيا. ورغم انحسار القتال في شرق أوكرانيا بعد عام 2016، فإن الصراع أخذ ينضج على نار هادئة أخفت في الحقيقة وضعا غير مستقر في القارة الأوروبية.

تقف روسيا والولايات المتحدة، اللتان تتداخل دوائر نفوذهما في شرق أوروبا، على طرفَيْ نقيض ما تُسميه واشنطن “تنافسا إستراتيجيا”، بيد أن الهُوَّة بين الأقوال والأفعال الأميركية في أوكرانيا وغيرها من بلدان تفتح الباب أمام استغلال تلك الهُوَّة قبل انقشاعها. لقد كشف الصراع السوري فتور العزيمة الأميركية فيما يتعلَّق بهدفها المُعلن سابقا برحيل “الأسد”، فلم تتكبَّد واشنطن عناء مواجهة الوجود العسكري الروسي، وسمحت لموسكو بتوسيع نفوذها بطول الشرق الأوسط وعرضه. وفي الوقت نفسه، كشف الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان، وما أثاره اتفاق الغواصات “أوكوس” مع أستراليا من غضب فرنسي بسبب إقصائها، عن مشكلات خطيرة في التنسيق بين أطراف التحالف الأطلسي.

وبينما تبدو واشنطن وقد أنهكتها الحروب، تتساءل روسيا ما إن كان الدعم السياسي المُعلَن من واشنطن لأوكرانيا ستُصاحبه عزيمة حقيقية أم لا. وإذا ما تراءى لبوتين أن دعم المسؤولين الأميركيين لوحدة الأراضي الأوكرانية محض كلمات -وما من دلائل في الحقيقة على أنه ليس محض كلمات- فإنه سيمضي دون رادع في تعديل ميزان القوى الإقليمي باستخدام القوة. هذا وسيكون من السفاهة بمكان أن يحاول بوتين غزو أوكرانيا كاملة، وهي بلد ضخم يقطنه أكثر من 40 مليون إنسان، لكنه لن يكون خياليا بالنسبة له أن يسعى لتقسيمها إلى نصفين أو أن يفرض تسوية توقف انزلاق أوكرانيا إلى المدار اليورو-أطلسي.

لطالما حاولت روسيا مراجعة تسويات ما بعد الحرب الباردة. وقد كان هدف موسكو طيلة هذا الوقت هو استعادة منظومة إقليمية يملك فيها كلٌّ من روسيا والغرب القول الفصل بدرجة متساوية حيال الأمن في أوروبا. ومن غير المُرجَّح أن يعتقد بوتين بإمكانية تحقيق تسوية كتلك عبر الإقناع أو الدبلوماسية التقليدية، أما الفعل العسكري الروسي، فيُمكِنه أن يُخيف الدول الأوروبية الكبرى بما يكفي لكي تقبل اتفاقا جديدا مع موسكو، لا سيما أن بعض تلك الدول ترى نفسها وقد تبوَّأت مقعدا من الدرجة الثانية في الإستراتيجية الأميركية، وتُفضِّل أن تتخذ موقعا في الوسط بين الصين والولايات المتحدة. في الأخير، لا يعني أيٌّ من ذلك أن سيناريو كهذا مُرجَّح بالفعل، غير أنه يُمكِن أن يكون الاحتمال الدائر في عقول القادة الروس الآن.

بوسع الولايات المتحدة أن تصل إلى استنتاجين من تعزيز الوجود العسكري الروسي قُرب أوكرانيا، أولهما أن ذلك التحرُّك العسكري ليس استعراضا للقوة فحسب. ومربط الفرس بالنسبة إلى واشنطن هو أن تستعد لاحتمالية نشوب حرب، وأن تُجري تنسيقات احترازية مع حلفائها الأوروبيين، وأن تُرسل رسائل واضحة إلى موسكو بخصوص العواقب الوخيمة لشن عملية عسكرية. وإذا ما تحرَّكت الولايات المتحدة الآن، فسيكون بوسعها أن تعمل مع الدول الأوروبية لرفع الكُلفة الاقتصادية والسياسية أمام عمل عسكري روسي، ومن ثمَّ تقليص احتمالية الحرب.

لقد كبَّد الإخفاق في بلورة رد فعل مُنسَّق بوجه الهجوم الروسي خسارة هائلة لأوكرانيا عام 2014، واحتاج الأمر إلى إسقاط الانفصاليين المدعومين من روسيا طائرة مدنية في يوليو/تموز 2014 كي تتنبَّه أوروبا إلى خطورة الأمر وتبدأ فرض العقوبات. وبينما ترغب واشنطن على الأرجح بأن تحتفظ ببعض خياراتها تحت الطاولة، فإنها يجب أن تُعلِن صراحة عن الخطوط العامة لدعمها لسيادة أوكرانيا على أراضيها، وأن تفعل ذلك قبل اندلاع صراع عسكري كبير. وسيحتاج هذا الأمر إلى الإفصاح بالتفصيل عن عزيمة الغرب وخطوطه الحمراء في الأسابيع القليلة المُقبلة.

ورغم أن “فيكتوريا نولاند”، نائبة وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية، وصفت التزام الولايات المتحدة بسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها بأنه التزام “حديدي”، فإن الولايات المتحدة لا تمنح أوكرانيا أيَّ التزامات أمنية رسمية حتى اليوم، ناهيك بأن تلك التصريحات تُشبه بشكل مخيف الدعم السياسي المُعلَن لجورجيا قبيل حرب الأخيرة مع روسيا عام 2008 (التي انتزعت فيها روسيا محافظتين من جورجيا). ولا يقتصر الأمر على أن روسيا لن تردعها تلك التصريحات الدبلوماسية الرنَّانة التي تفتقد إلى المصداقية، بل ستحاول تقويض سُمعة الولايات المتحدة (أمام حلفائها) حين تظهر واشنطن بوصفها قوة مُجهَدة.

أما الاستنتاج الثاني فهو أن الولايات المتحدة وأوروبا يتعيَّن عليهما أن يتحلَّيا بالصراحة حيال المأزق الدبلوماسي الحالي سواء نشبت الحرب بالفعل في الأشهر القادمة أم لم تنشب. ففي كل الأحوال، ليست روسيا في حالة تراجع جيوسياسي، ولا تنوي أوكرانيا بدورها أن تتراجع عن موقفها، واستمرار المعركة من أجل النفوذ في أوكرانيا سيظل جرحا لا يُمكن تضميده، وسيزداد سوءا بالقطع قبل أن يندمل. ولا ينفي ذلك أهمية البحث عن حل دبلوماسي يُقلِّص خطر خروج الصراع عن السيطرة.

يُعَدُّ الصراع الدائر المصدر الأوحد والأبرز لانعدام الاستقرار بين القوتين الروسية والأميركية، ويبقى البحث عن توازن إستراتيجي بين القُطبين أمر عصيب بينما يدور صراع في الوقت نفسه. بيد أن التنافس بين القوتين النوويَّتيْن الكُبريَّيْن قد أخذ يحتدم، ما يجعل البحث عن التوازن الإستراتيجي ضرورة لا رفاهة أو خيالا.
معاينة فيديو YouTube بوتين يعلن الحرب.. وسماع سلسلة انفجارات في المدن الأوكرانية

معاينة فيديو YouTube ما هي قصة الخلاف التاريخي بين روسيا وأوكرانيا وكيف بدأ؟

معاينة فيديو YouTube بوتين: إذا انضمت أوكرانيا للنيتو وأرادت ضم القرم فستجر أوروبا لحرب معنا

معاينة فيديو YouTube تعرف على تاريخ التوتر بين روسيا وأوكرانيا

معاينة فيديو YouTube انتشار عسكري روسي غير مسبوق على الحدود الأوكرانية وشبه جزيرة القرم

معاينة فيديو YouTube وزير الخارجية الأمريكي يتهم روسيا بالتخطيط لشن عمل عسكري ضد أوكرانيا

معاينة فيديو YouTube موسكو تهدد والنيتو يتوعد روسيا بدفع ثمن باهظ إن تدخلت عسكريا في أوكرانيا