بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوڤيتي سنة 1990 كان هناك ضابط مخابرات روسي يعمل في أوربا الشرقية وعمره 38 سنة .. يراقب المشهد من بعيد وهو يشعر بالغضب لقرارات الرئيس الروسي ( الخائن في نظره ) ميخائيل غورباتشوف .. التي انتهت بتدمير الاتحاد السوڤيتي.
* في السنة التالية قرر الضابط فلاديمير بوتين اعتزال العمل السري والظهور الى العلن .. فاستقال من الاستخبارات سنة 1992 وانخرط في السلك الدبلوماسي .. منطلقاً من مدينته الأم ليلينغراد ( سانت بطرسبرغ ) المدينة العريقة التي حكمت روسيا القصيرية لـمائتي عام .. وحطمت كبرياء الجيش النازي على أسوارها وكانت بداية النهاية للرايخ الهتلري ( وبوتين يعتبر نفسه وريث مجد هذه المدينة ).
* وصل بوتين الى حكم روسيا وأحكم قبضته على مفاصلها بدون منافس .. بشكل لم يسبق لرئيس روسي أن فعله منذ الثورة البلشفية التي أطاحت بحكم القياصرة.
* رغم استعادة روسيا للكثير من قوتها ومكانتها خلال حكمه .. ولكن يدرك بوتين أن عودة الأمور الى عهدها أبان الحكم السوڤيتي شيء مستحيل .. والاتحاد السوڤيتي ذهب إلى غير رجعة.
ولكنه عازم بالمقابل على جعل روسيا مرة أخرى ( دولة عظمى ) ولتحقيق هذا الهدف عمل بوتين لسنوات على تحقيق استراتيجية أمنية من ثلاث ركائز :
أولاً : استعادة ما يمكن استعادته من التمدد الجغرافي عبر تأييد الجمهوريات المستقلة الموالية لروسيا .. ودعم الانفصاليين لهذا الهدف .. كما حصل في دعم انفصال أوسيتيا الجنوبية عن جورجيا .. ودعم انفصال القرم وحوض دونباس عن أوكرانيا .. بينما يدعم الحكومات الموالية في بلدان أخرى كالشيشان روسيا البيضاء.
ثانياً : عدم السماح بتطويق روسيا بحرياً عن طريق أوكرانيا .. فسيطرت موسكو على جزيرة القرم وأعلنتها جمهورية مستقلة عام 2014 .. لتضمن وصولها الى البحر المتوسط.
ثالثاً : تأمين محيط روسيا من جبال الأورال الى حدود بولندا .. ومكافحة انتشار حلف شمال الأطلسي ( الناتو ) في الدول المجاورة .. وعدم السماح له بمحاصرة روسيا ونشر أسلحته حولها ..
ونتذكر ما فعلته جورجيا سنة 2003 عندما سعت الى الانضمام لحلف الناتو .. حيث ردت موسكو بدعم الانفصاليين في أوسيتيا الجنوبية التابعة لجورجيا .. ولم تكن جورجيا تتوقع أن يهاجمها بوتين .. فحاولت دخول أوسيتيا بالقوة .. فباغتها الروس بهجوم مضاد سنة 2008 انتهى بانتزاع أوسيتيا الجنوبية .. واعلانها جمهورية مستقلة كأمر واقع.
* وهو بعينه و ( بحذافيره تماماً ) السيناريو الذي يتكرر اليوم مع حوض دونباس ( لوغانسك ودونيتسك ) في أوكرانيا التي تتحدث عن سعيها للانضمام لحلف الناتو.
* بوتين قال أنه لن يجتاح جورجيا بل سيكتفي بحماية أوسيتيا وجمهوريتها.. وقال اليوم أنه لن يجتاح أوكرانيا بل سيكتفي بحماية دونباس.
* استغل إقدام جورجيا على التقدم عسكرياً نحو أوسيتيا ليمنحه ذلك مبرر الخطوة المضادة .. واليوم يستغل تقدم قوات أوكرانيا نحو دونباس ليرد بالمثل.
* قام بتوجيه ضربات جوية محددوة لتحطيم القدرات الدفاعية لجورجيا .. واليوم يفعل ذلك في أوكرانيا.
* مجلس الغرب وأمريكا كانوا يهددون و وينددون في أحداث جورجيا .. واليوم لم يتغير شيء.
وأختم باقتباس بسيط من أحد المواقع فيه معلومات إضافية :
( تقع دونيتسك ولوهانسك، الإقليمان الانفصاليتان المواليتان لروسيا التي اعترفت باستقلالهما، في حوض دونباس الناطق بالروسية في شرق أوكرانيا، وقد أصبحتا منذ 2014 خارجتين عن سيطرة كييف. وأودى النزاع المستمر فيهما منذ 2014 بين الانفصاليين والقوات الحكومية الأوكرانية بحياة أكثر من 14 ألف شخص.
دونيتسك (ستالينو سابقاً)، هي المدينة الرئيسية في حوض التعدين دونباس وأحد المراكز الرئيسية لإنتاج الصلب في أوكرانيا. يبلغ عدد سكانها مليوني نسمة. أما لوهانسك (فوروشيلوفغراد سابقا) (وبالروسية اليوم: لوغانسك) فهي مدينة صناعية يبلغ عدد سكانها 1,5 مليون نسمة. ويحتوي حوض دونباس المتاخم لروسيا على الشاطئ الشمالي للبحر الأسود، على احتياطات ضخمة من الفحم ).
جوا وبرا وبحرا، أطلقت روسيا هجوما مدمرا على أوكرانيا، البلد الديمقراطي الأوروبي الذي يبلغ عدد سكانه 44 مليون نسمة.
على مدى أشهر، نفى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التخطيط لغزو أوكرانيا، لكنه الآن مزق اتفاق سلام وأرسل قواته عبر الحدود إلى المناطق الشمالية والشرقية والجنوبية من أوكرانيا.
وبينما ترتفع حصيلة القتلى، يواجه بوتين اتهامات بأنه يهدد السلام في أوروبا. ما يحصل في الأيام القادمة قد يهدد أمن القارة الأوروبية برمتها.
ما المواقع التي هاجمتها القوات الروسية ولماذا؟
تعرضت المطارات والمقار العسكرية أولا للقصف بالقرب من المدن في جميع أنحاء أوكرانيا، بما في ذلك مطار بوريسبيل الدولي الرئيسي في كييف.
ثم توغلت الدبابات والقوات الروسية في الشمال الشرقي من أوكرانيا، بالقرب من مدينة خاركيف، التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليون نسمة، وفي الشرق بالقرب من لوهانسك، كما من بيلاروسيا المجاورة في الشمال. ونزلت القوات الروسية في مدينتي أوديسا وماريوبول الكبريين جنوبي أوكرانيا.قبل لحظات من بدء الغزو، ظهر الرئيس بوتين على شاشة التلفزيون معلنا أن روسيا لا تستطيع أن تشعر “بالأمان والتطور” بسبب ما وصفه بالتهديد المستمر من أوكرانيا الحديثة.
ما مدى صعوبة أن تدافع أوكرانيا عن نفسها الآن بعد أن بدأ الغزو الروسي؟ إن روسيا متفوقة بالسلاح والعتاد وكذلك الأعداد في جميع المجالات، بعد استثمارات كبيرة وتحديث في القوات المسلحة الروسية من قبل الرئيس بوتين.
يقول الدكتور جاك واتلينغ، من المعهد الملكي للخدمات المتحدة: “أعتقد أن الأوكرانيين في وضع صعب للغاية”. لقد عاد لتوه من أوكرانيا ويقول إن القادة العسكريين في البلاد يواجهون الآن بعض “الخيارات الصعبة للغاية”.
يُقدِّر المسؤولون الغربيون أن روسيا لديها ما يصل إلى 190 ألف جندي على الحدود الأوكرانية – أكثر بكثير من الجيش النظامي الأوكراني بأكمله البالغ 125600 جندي.
تقوم القوات الروسية بالفعل بعبور الحدود من اتجاهات متعددة.
سوف تجد أوكرانيا صعوبة في الدفاع عن حدودها التي تمتد آلاف الأميال، من بيلاروسيا في الشمال وصولاً إلى شبه جزيرة القرم في الجنوب. إذا كان يمكنك تخيل خريطة أوكرانيا كوجه ساعة، يمكن للروس شن هجمات من الساعة 10 صباحًا حتى الساعة 7 صباحًا (على أغلب الأراضي الأوكرانية).
بعد خطوة الهجوم على أوكرانيا، يرى الأكاديمي البريطاني كريس دويل أن الرئيس فلاديمير بوتين أحيا المخاوف الأوروبية من أن هدفه لن يتوقف عند أوكرانيا، بل قد يصل إلى دول البلطيق عامة، “مما يعني تهديدا وجوديا لكل أوروبا”.
لندن- تشكّل شخصية الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لغزا محيّرا للإعلام والمراكز البحثية الغربية، وكثيرة هي محاولات تحليل هذه الشخصية المثيرة للجدل، وتحفل الأدبيات السياسية الغربية بالكثير من الكتابات والتصريحات حول شخصيته، ومحاولة فهم سلوكه السياسي.
ولا يخفي الرئيس الفرنسي الأسبق، فرانسوا هولاند، أن أصعب لقاء عقده مع زعيم أجنبي كان مع الرئيس بوتين، كما شاهد الملايين لقطة ارتباك مدير المخابرات الروسية الخارجية أمام بوتين، عندما سأله عن موقفه من الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك في إقليم دونباس.
وتختلف التقديرات الغربية في الحكم على شخصية بوتين واستجلاء ما يدور في عقله؛ بين من يراه لاعب شطرنج ماهرا على رقعة الخريطة الجيوسياسية العالمية، ومن يراه إنسانا مغامرا يخوض خطوات غير محسوبة العواقب.
لاعب شطرنج
يصف رئيس قسم العلاقات الدولية في جامعة لندن للاقتصاد، البروفيسور فواز جرجس، الكتابات الغربية حول شخصية فلاديمير بوتين بأنها “كتابات سطحية وتفتقد للعمق والفهم الحقيقي لعقلية بوتين”.
ويضيف جرجس -للجزيرة نت- أن الغرض مما يكتب عن بوتين في الغرب هو “شيطنة الرجل”، مضيفا أن هناك محاولات لتصوير الرئيس الروسي بأنه “متهور وخطير ويفتقد للعقلانية وللتقدير السياسي”.
ويختلف البروفيسور البريطاني -وهو رئيس مركز الشرق الأوسط في لندن- مع التقديرات التي تقول إن بوتين لا يفكر في مصالح الآخرين، “لأن هذه الأطروحة غير مؤسسة على أسس أكاديمية وعلمية دقيقة”. وهذه النظرة مردها، حسب جرجس، “إلى نقص في الفهم الغربي للنظرة الإستراتيجية لبوتين”، ذلك أنه يختار معاركه بطريقة حساسة جدا.
ومثل لاعب الشطرنج، فإن بوتين لا يكشف عن كل تحركاته مرة واحدة “بل يتحرك بشكل تدريجي ويقوم بقياس ردة الفعل قبل الخطوة التي تليها”.
ولا يحمل بوتين أي حلم لإعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي، “بل يريد حماية الأمن الحيوي لروسيا بوصفها قوة عظمى لها كلمتها في العالم”.
ويعزو رئيس مجلس التفاهم العربي البريطاني، كريس دويل، تباين التحليلات الغربية لشخصية الرئيس الروسي إلى طبيعة “شخصية بوتين؛ فهي صعبة القراءة وصعبة التوقع”.
ويؤكد الأكاديمي البريطاني -في حديثه مع الجزيرة نت- أن السياسيين في الغرب ينظرون إلى بوتين، باعتباره “رجل روسيا القوي والمتحكّم الوحيد في المشهد، وهو أيضا رجل معتدّ بنفسه، ومتعصب لكل ما هو روسي، وصانع القرار الذي لا يراجعه أحد”.
ويتعامل الغرب مع بوتين بحذر شديد لأنهم، حسب دويل، “يرون فيه خطرا حقيقيا على الأمن الأوروبي”، مضيفا أن مشكلة الغرب مع بوتين “أنه يستند إلى قوة بلاده العسكرية الكبيرة جدا في اتخاذ أي قرار، ويضع ترسانة بلاده النووية فوق طاولة المفاوضات مع الغرب، وهذا أمر مربك للغربيين”.
ويعترف كريس دويل بأن نظرة الغرب لبوتين مرتبكة جدا وقلقة، وهذا راجع لكون “بوتين شخصا صعب القراءة ولا يمكن توقع خطواته”.
ويختلف الأكاديمي البريطاني مع التحليلات الغربية التي تصور بوتين بأنه “شخص مغامر”، ويقول “بالعكس، هو يحسب خطواته بعناية، ويقدّر أيضا ردود الفعل الغربية”، ووصف القراءات التي تقول إن بوتين شخص متهور بـ”السطحية”.
وبعد خطوة الهجوم على أوكرانيا، يرى كريس دويل أن بوتين أحيا المخاوف الأوروبية من أن هدفه لن يتوقف عند أوكرانيا، بل قد يصل إلى دول البلطيق عامة “مما يعني تهديدات وجودية لكل أوروبا”.
هوس القيصر
ويميز البروفيسور جيلبرت الأشقر، رئيس قسم العلاقات الدولية في جامعة الدراسات الشرقية والأفريقية “سواس” (SOAS)، بين نظرتين مختلفتين يحملها الغرب عن بوتين: الأولى قبل الأزمة الأوكرانية، وتقول إن بوتين “شخص عدواني لكنه عقلاني”، أما النظرة الثانية “فهي أن الأزمة الأوكرانية أظهرت أن عدوانية بوتين غلبت على عقلانيته”.
وأضاف الأشقر أن الأوساط السياسية الغربية تنظر لبوتين “باعتباره شخصية سلطوية فجّة من أجل الدفاع عن مصالح روسيا”، قبل أن ينتقل للتحليل النفسي الغربي لبوتين، “حيث يتم الترويج أن بوتين أصيب بجنون العظمة، ولم يعد متزنا في اتخاذ القرارات المناسبة”.
ويعود البروفسور جيلبرت إلى المقالات والخطب التي ألقاها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ليخلص لكونه “بات مهووسا بإعادة أمجاد روسيا القيصرية، ولهذا نجده يوجّه انتقادات لاذعة للثورة البلشفية؛ لأنها هي من أنهت روسيا القيصرية، والآن يعيش هوس أن يصبح قيصر روسيا الجديد”.
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي لم يصبح لروسيا دور بارز في العالم كما هو اليوم. يعود هذا أولاً وآخراً إلى شخص الرئيس فلاديمير بوتين الذي أُصيب بالإحباط والاكتئاب عندما كان ضابطاً في مكاتب «كي جي بي» في ألمانيا الشرقية ورأى على شاشة التلفزيون في مكتبه انهيار حائط برلين واندفاع الحشود باتجاه الجهة الغربية من المدينة. ويروي الكاتب أندريه كوليسنيكوف عن مواجهة بوتين مع حشود متظاهرة حاولت اقتحام مركز «كي جي بي» في مدينة دريسدن الألمانية فتوجه إليهم منفرداً وقال لهم إن المركز هو أرض روسية وإنه سيطلق النار على كل من يحاول اقتحامه، فتفرَّق بعدها المتظاهرون، وهرع هو إلى المكاتب لإتلاف الوثائق والتقارير السرية وإخلاء المركز بسرعة تحسباً لعودة المتظاهرين.
غادر بوتين دريسدن عائداً إلى موسكو وساءه الانهيار السريع والمذلّ لبلده فألقى باللوم على قيادته الخانعة المستسلمة، وهو يسعى منذ أن تمكن من حكم البلاد إلى أن يعيد مجد روسيا كقوة عظمى في العالم إلى ما كانت عليه أيام ستالين.
يؤمن فلاديمير بوتين بأن شعوب جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق لديها ترابط تاريخي مع روسيا اقتصادياً، وثقافياً واجتماعياً، لهذا من الطبيعي أن تتكتل هذه الدول ضمن اتحاد وتدور في فلك موسكو، فأقام «منظمة الأمن الجماعي» التي ضمت طاجيكستان وأرمينيا وقيرغيزستان وبيلاروسيا وكازاخستان وكذلك أقام «الاتحاد الاقتصادي الآسيو-أوروبي» الذي ضم دولاً أخرى خارج آسيا الوسطى. يبلغ مجموع سكان هذا الاتحاد ما يفوق 45 مليون نسمة ضمن مساحة جغرافية غنية بالثروات الطبيعية والإنتاجية. بكلام آخر يسعى بوتين إلى إعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي ولكن ضمن نظام رأسمالي اقتصادي حر.
إلا أن ما يطمح إليه قيصر روسيا الجديد شيء وتحقيق الطموح شيء آخر. فعقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، والشعوب التي استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ذاقت طعم الحرية وإن قليلاً وتنعمت ببعض الديمقراطية وبفعل الإنترنت أصبحت متواصلة مع العالم الخارجي، ولهذا من الصعب أن تعود هذه الشعوب إلى كنف روسيا التي حكمتها بالحديد والنار لأكثر من سبعة عقود. وبعض هذه الشعوب ستقاوم بضراوة عملية احتواء موسكو لها وفي هذا تلقى دعماً من بعض القوى الخارجية التي لديها خلافات مع روسيا أو تحاول تقليص نفوذها.
الخلاف الروسي – الأوكراني هو المثال على عدم تراجع عقارب الساعة. هو خلاف ليس بجديد وقد تفاقم بعدما رفضت كييف الانضمام إلى الاتحاد الاقتصادي وبعدما أطاحت ثورة الأورانج الرئيس فيكتور يانيكوفيتش الموالي لموسكو. وقد تم الرد على هذا باحتلال شبه جزيرة القرم الذي أدانه المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة.
وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن بلاده لن تسمح بانفصال القرم عن روسيا الأم وستمنع انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وأضاف أن هذه أمور وجودية روسية.
بالتأكيد الخلاف يتعدى أحلام بوتين لمجد ضاع. فهناك قضايا في أوكرانيا هي بالفعل تمس الأمن القومي الروسي، لعل أهمها الممرات المائية الموجودة على حدود شبه الجزيرة مع أوكرانيا والتي تسمح للسفن الروسية بالعبور إلى المياه الدافئة، وهناك الغاز الروسي الذي يمر 80% من إنتاجه إلى أوروبا عبر أوكرانيا. وهنا تكمن المصاعب الحقيقية للرئيس بوتين التي بسببها سيدفع غالياً الثمن لحماية مصالح بلاده. وستكون الأسابيع المقبلة مفصلية بالنسبة إلى ما ستؤول إليه التطورات.
تواجه روسيا مصاعب أخرى في أماكن نفوذها، حيث تنتفض الشعوب على حكامها الموالين بالمطلق لموسكو ويتم قمعها بالقتل والتنكيل. وآخر المصاعب كانت كازاخستان؛ أولى الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي والدولة الأكبر مساحهً في آسيا الوسطى والأغنى بسبب النفط، حيث الإنتاج النفطي بلغ نصف مليون برميل يومياً، ولديها أيضاً حقول غاز تقدر كميتها بـ85 تريليون قدم مكعب أنشأت لنقلها إلى الصين خطاً يمر عبر تركمنستان وأوزبكستان.
وكانت روسيا تدعم حكم الرئيس نور سلطان نزارباييف الموالي لها منذ الاستقلال وذلك رغم فساده وقمعه. وقد تم إقناعه من الروس لنقل الرئاسة بواسطة انتخابات ديمقراطية المظهر أمّنت وصول الرئيس الحالي قاسم توكاييف الذي هو أيضاً بقدرة قادر موالٍ لروسيا. ومع حصول الانتفاضة الشعبية بسبب زيادة الضرائب واستمرار الفساد بل تفاقمه، تبين لموسكو أن هناك أيادي خارجية تحاول زعزعة حكم توكاييف وبالتالي النفوذ الروسي في هذا البلد المهم، فأدار بوتين الأزمة بنفسه وأعطى إرشاداته للرئيس الكازاخي لإقصاء مجلس الوزراء ومن ثم قمع المتظاهرين بقسوة إلى حين وصول فرقة من القوات الضاربة الخاصة الروسية لمؤازرة القوات الكازاخية وإنهاء عملية الانتفاضة. وبالفعل دخلت قوة من 2500 عنصر روسي نفّذت عمليات قمعية إلى جانب القوات المحلية قُتل فيها العشرات بتعتيم إعلامي شامل. وأُعلن بعد يومين من التدخل الروسي عن إنهاء التمرد.
يقول مراقبون إن قرار بوتين التدخل لحماية النظام يمكن أن يكون عملية حاسمة في المدى القصير، إنما في المدى المتوسط والأبعد سيزيد من غضب الناس لوقوف روسيا إلى جانب نظام فاسد مستبيح لثروات الشعب وسيستمر بالانتفاض على الظلم والقمع، وسيجد حتماً من يؤازره من الخارج لشتى الغايات. وبالتالي فإن كازاخستان أصبحت تشكل بؤرة عدم استقرار لمصالح روسيا في آسيا الوسطى.
يمكن أن يكون الرئيس الروسي قد أعاد روسيا إلى الخريطة كدولة كبرى، إنما لن يستطيع أن يعيد بلاده إلى مكانة الدول العظمى حيث في عالم اليوم أصبح التنافس بين الولايات المتحدة والصين لتبوّء مركز الصدارة ولا مكان لأي قوة أخرى. روسيا ليست في هذا السباق، ولعل المستقبل لن يكون واعداً وستتراجع القدرات الروسية بسبب أحلام بوتين اللاواقعية.
على كلٍّ، لا يزال هناك الكثير مما هو غير معروف عن الاضطرابات العنيفة التي اجتاحت كازاخستان. لكن ظهرت حقيقة واحدة واضحة من الفوضى: عقيدة فلاديمير بوتين السياسية الجديدة.
لنلقِ نظرة على موقف الرئيس الروسي بوتين في الداخل، ونحاول تحديد السبب وراء موقفه الذي يمثل تهديداً لأوكرانيا.
لدى روسيا معدل تضخم خطير بنسبة 8% يعرِّض للخطر هدف بوتين المتمثل في رفع مستوى معيشة مواطنيه بينما تعاني البلاد من ارتفاع في إصابات «كوفيد – 19». بالإضافة إلى ذلك، تولى بوتين دور الحامي للزعماء الفاسدين ولكن المهددين بالخطر لحفنة من الجمهوريات السوفياتية السابقة المتاخمة لروسيا. جميعهم ينتمون إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي ومقرها موسكو، وفي نفس الوقت يقوم بوتين بقمع الحريات الشخصية.
على سبيل المثال، في سبتمبر (أيلول) الماضي خلال التدريب المشترك لمكافحة الإرهاب في جمهورية قيرغيزستان، كان السيناريو هو «تدمير الجماعات المسلحة غير الشرعية التي غزت أراضي دولة عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي»، لاحقاً ووفقاً لبيان صحافي. أقيمت تمارين «الأخوة التي لا تُكسر» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، على مدى خمسة أيام في روسيا بمشاركة وحدات من جميع الدول الست. كان أحد السيناريوهات «عملية تكتيكية لعزل المجتمع الذي استولت عليه الجماعات المسلحة غير الشرعية والقضاء عليه».
كان هذا التمرين الأخير ذا صلة بما حدث مؤخراً في كازاخستان، على طول الحدود الجنوبية لروسيا. تمت مناقشته لاحقاً بالتفصيل في اجتماع طارئ افتراضي عقدته منظمة معاهدة الأمن الجماعي في 10 يناير (كانون الثاني) الجاري، والذي ضم الرئيس الروسي بوتين، ورئيس كازاخستان توكاييف، ورئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان، ورئيس وزراء قيرغيزستان إكيلبك جابروف، ورئيس طاجيكستان إمام علي رحمون.
وصف رئيس كازاخستان توكاييف، المحاولة التي استمرت أسبوعاً للإطاحة بحكومته جزئياً على النحو التالي:
«تم استخدام المسيرات العفوية كذريعة لإثارة الاضطرابات المدنية». ولم ير أنها عكست استياءً طويلاً من الحكومة الاستبدادية. وكان توكاييف قد اتصل ببوتين طلباً للمساعدة، فأرسل 2500 جندي للمساعدة في استعادة النظام. في الواقع، تم استخدام الدروس المستفادة من تمارين «الأخوة التي لا تُكسر»، وبينما ألقى توكاييف باللوم على المقاتلين الأجانب، اشتكى الكثير من الناس من الزعيم القديم نور سلطان نزارباييف، الذي استقال عام 2019 لصالح توكاييف، خليفته المختار. ومع ذلك، حافظ على نفوذه من وراء الكواليس كرئيس لمجلس الأمن في كازاخستان.
في أعقاب القتال، تم عزل نزارباييف من مجلس الأمن وطرد كريم ماسيموف، رئيس وكالة الاستخبارات الكازاخية القوية وحليف نزارباييف، ثم أُلقي القبض عليه ووُجِّهت إليه تهمة الخيانة العظمى. كما طُرد ابن شقيق نزارباييف، سامات أبيش، الذي كان يعمل مع ماسيموف بينما أُلقي القبض على نائبي ماسيموف الآخرين بتهمة الخيانة. وأُجبر ثلاثة من أصهار الزعيم السابق على التنحي كرؤساء لشركات كبرى في كازاخستان. بعد ذلك حصل نقاش حول التهديدات المستقبلية للدول الأعضاء الأخرى.
قال الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، الذي واجه ستة أشهر من الاحتجاجات بعد انتخابات أغسطس (آب) 2020: «اسمحوا لي أن أذكّركم بالمخاطر والتهديدات المتعلقة بإنشاء ما تسمى الخلايا النائمة الإرهابية في آسيا الوسطى. نحتاج إلى معرفة مَن نظمهم ووجههم».
تمسك بوتين بهذه الفكرة وقال للمجموعة: «إن الأحداث في كازاخستان ليست المحاولة الأولى وبالتأكيد ليست الأخيرة، إن الإجراءات التي اتخذتها منظمة معاهدة الأمن الجماعي تُظهر بوضوح أننا لن نسمح بتحقيق سيناريو آخر يسمى (الثورة الملونة)»، في إشارة واضحة إلى الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2004.
لذلك، وبينما كان بوتين يخلق تهديداً بغزو أوكرانيا على حدوده الغربية، تواجه بلاده نفسها وحلفاؤها حركات تمرد محتملة من شعوبها والمقاتلين الإسلاميين داخل بلدانها ويعملون على حدودها.
يتمثل أحد أهداف بوتين في تقويض إمكانية بقاء أوكرانيا كدولة قومية ذات سيادة.
لا يستطيع بوتين تحمل وجود ديمقراطية أو شبه ديمقراطية ناجحة تُظهر للروس أن هناك بديلاً لعلامته الاستبدادية القومية المتطرفة.
يمكن لبوتين أن يستمر في خلق مشكلات للحكومة الأوكرانية المتعثرة برئاسة فولوديمير زيلينسكي من دون اللجوء إلى الحرب المباشرة. لكن يمتلك الرئيس الروسي نقاط ضعف خاصة به بحيث يمكن للولايات المتحدة وحلفائها في الناتو استخدام بعض من نفس نوعية حربه لتقويض حكومته وحكومات دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي.