ندَّدَت روسيا بالغارة الأميركية على قاعدة «الشعيرات» الجوية في سوريا، لكن لم يصدر أي تصريح مباشر عن الرئيس فلاديمير بوتين، لا تنديداً بالغارة الأميركية، ولا دفاعاً عن بشار الأسد. ويوم الاثنين الماضي، قالت القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم): «لم يكن الهدف جعل القاعدة خارج الصلاحية، بل تقليص القدرة السورية على شن هجمات بالأسلحة الكيماوية». ومن ناحيتهم، أوضح الروس أن دفاعاتهم الجوية في سوريا هي للدفاع عن قواتهم هناك، وعن معداتهم، وليس للدفاع عن الجيش السوري أو معداته أو قواعده، أيضاً، وكما قال محلل عسكري روسي إنه على الرغم من الضجة الإعلامية التي ترافق أنظمة الدفاع الروسية، فإنها محدودة جداً فيما يمكن أن تفعله ضد صواريخ «الكروز»، خصوصاً إذا كانت متجهة إلى هدف ليست الصواريخ موجَّهَة للدفاع عنه.
يوم الأحد الماضي، استضافت القنوات التلفزيونية الأميركية كبار مسؤولي الإدارة الجديدة. الجنرال ه. آر. ماكماستر مستشار الأمن القومي قال على قناة «فوكس نيوز»: «نحن لا نقول إننا من سيتسبب بالتغيير في سوريا، فالحل للصراع هناك يتطلب إلحاق الهزيمة بـ(داعش)، وبعد ذلك تغييراً ملحوظاً في طبيعة النظام».
عندما وقَعَت الغارة كثرت التخمينات بتغيير في السياسة الأميركية الخارجية، لكن الغارة بحد ذاتها لا تغير مجرى اللعبة، هي كانت مجرد واحدة لها هدف محدد، ولإبلاغ الأسد بأن اللجوء إلى الأسلحة الكيماوية غير مقبول أميركياً، وكانت بمثابة ضربة على كتف روسيا، وبأن الولايات المتحدة ليست خائفة من الإقدام على عمل عسكري، حتى لو كان الروس منتشرين عسكرياً، والأهم كانت لإظهار الفارق الشاسع بين إدارة الرئيس دونالد ترمب والإدارة السابقة، ثم إن ترمب يعرف أن تغيير اللعبة في سوريا من الطرف الأميركي يتطلب دوراً من الكونغرس.
إذا راجعنا ما قاله الرئيس ترمب ووزارة الدفاع، نلحظ أن الغارة كانت لإعادة رسم الخطوط الحمراء. قال الجنرال جيمس ماتيس وزير الدفاع يوم الاثنين الماضي: «إن الحكومة السورية تكون مخطئة جداً، إذا ما حاولت اللجوء إلى السلاح الكيماوي مرة أخرى». يُفهَم من هذا أن الغارة ليست محاولة للإطاحة بالأسد، أو تصحيح كل الأخطاء في سوريا، لأنه لا أحد في الغرب يعتقد أن الحل في سوريا عسكري.
وأسأل أحد المراقبين السياسيين الغربيين عن أسباب لجوء الأسد إلى استعمال غاز السارين، وفي اعتقاده أن المعارك انقلبت على قواته، فأراد اختصار مسافاتها، ثم شعر بالقوة، إنما بالشكوك أيضاً من التحول في الموقف الأميركي تجاه بقائه في السلطة، واعتقد أن التحول جزء من تقارب روسي – أميركي قد يؤدي إلى اتفاق بينهما على تسوية سورية شاملة، خصوصاً بعدما فشلت روسيا في التوصل إلى حل بإشرافها.
ويضيف محدثي: «إن الاتفاق لتسليم أسلحته الكيماوية جرى بين روسيا والولايات المتحدة، وهذا يعني أن الدولتين ضامنتان للاتفاق، من هنا فإن لجوءه إلى استعمال غاز السارين هو تحدٍّ للاثنين معاً، وبمثابة صفعة للرئيس الروسي».
سوريا مشكلة معقدة جداً وشائكة، وأكثر العارفين بهذا الأمر هو بشار الأسد. لقد تحولت إلى مستنقع. قبل الغارة الأميركية قال ريكس تيلرسون وزير الخارجية: «لا دور للأسد في مستقبل سوريا». المشكلة في هذه العبارة أن الكثيرين رددوها سابقاً، لدرجة أصبحت بنظر الأسد مثل فقاعات صابون، لأنه إذا أراد الأميركيون أن يكون لتصريحاتهم وَقْع الفعل، فيجب أن تكون لهم قوات داخل اللعبة.
لو أن هذه الغارة الأميركية شُنَّت عام 2013، عندما سقط أكثر من ألف مدني ضحية القصف الكيماوي، لكانت غَيَّرت مجرى الحرب، لأنه في ذلك الوقت كان الأسد ضعيفاً، وهو الآن أقوى، بعدما أصبح الروس مشاركين إلى جانبه، والتغاضي عنه عام 2013 أعطاه ثقة بأنه قد ينجح هذه المرة أيضاً، إنما بضرب عصفورين بحجر واحد، خصوصاً أن الروسيَّ استثمر كثيراً في سوريا كخطوة أولى لإعادة بناء مجد غابر.
لكن هل الولايات المتحدة وروسيا على استعداد لخوض حرب ضد بعضهما من أجل سوريا؟ بالطبع لا، لا من أجل سوريا، ولا من أجل تركيا، ولا حتى من أجل إيران.
يوم السبت الماضي، أطل على شاشة «بي بي سي» البريطانية، سباستيان غوركا النائب المساعد للرئيس ترمب، قال: «ما حصل كان عملية جراحية استُعمِلَت فيها الصواريخ». الرئيس ترمب اليوم هو نفسه الذي قال: «ليس من اهتماماتنا غزو دول أخرى، أو احتلالها، هذا أمر غير أميركي (…)». رد غوركا على قول رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف إن العلاقة بين موسكو وواشنطن تدمَّرَت، فقال: «إن إرهاب المتطرفين هو خطر على دولنا. وتبقى روسيا جيواستراتيجياً دولة مهمة».
يقول بعض العارفين إن روسيا فُوجِئَت بالغارة الكيماوية، الأسبوع الماضي، وبالتالي فإن الأسد سيدفع لاحقاً ثمن إحراجه لبوتين. يقول محدثي: «إن روسيا تنظر إلى الصورة الأوسع، التوتر مرتفع الآن، لكن هناك مجالات أمام روسيا وأميركا للعمل معاً في سوريا، ويجب أن تتوفر، لأنه لا مجال لتسوية أحادية في سوريا. فالكثير من الدول لها دور في تلك البلاد؛ من أميركا إلى روسيا، إلى إيران، إلى تركيا إلى دول الخليج، والكل يجب أن يفكر في الصورة الأبعد، لذلك على الدول كلها أن تعمل معاً، ثم إن زيارة تيلرسون إلى موسكو فرصة للطرفين لإيجاد طرح لتجاوز هذا الوضع». ويضيف: «تقول روسيا إن كل المحاولات لفرض وقف لإطلاق النار في سوريا فشلت، لأن الأميركيين والروس غير قادرين على التحكم في كل الأطراف على الأرض».
الغرب يريد أن يكون حاسماً مع روسيا، ويجب، لكنه اختلف حول فرض عقوبات اقتصادية. العارفون يقولون إن سيطرة روسيا على الأسد مبالغ فيها، وفكرة أنها تستطيع إلغاء الأسد ساعة تشاء غير صحيحة، هي تود أن تسيطر أكثر مما تفعل الآن، لكنها لا تستطيع، والهجوم الكيماوي الأخير أثبت ما قاله تيلرسون يوم الأحد الماضي لقناة «إيه بي سي» الأميركية: «لا أقول إن الروس تواطأوا، إنما كان عجزهم واضحاً، أو ربما ناور السوريون عليهم».
الدول الصناعية السبع، في قمتها في لوكا بإيطاليا، طالبت روسيا بوضع مسافة بينها وبين الأسد، لكن روسيا لا تستطيع ذلك، ليس لأن لها مصالح في المنطقة وحسب، بل ترى أنه إذا تمت إزاحة الأسد فمصير سوريا سيكون كمصير العراق أو ليبيا. في هذه الحالة، تفضل روسيا «الشيطان الذي تعرف على الشيطان الذي لا تعرف» على هذا يجيب محدثي: «إن الشيطان في كل الأحوال شيطان، والواقع أن الروس موجودون في سوريا وبإمكانهم فعل أكثر مما يفعلون». يضيف: «نتفق على أن النفوذ الروسي على الأسد غير معروف، لكن الروس هم القوة الأكبر التي تحمي الأسد، ولولا التدخل الروسي لكان الأسد سقط». يقول: «ما سيأتي بعد الأسد لن يختلف عن الواقع السوري الآن. قد يكون ما بعد الأسد سيئاً، لكن ما هو في ظل الأسد الآن سيئ جداً».
في النهاية، رغم كل التصريحات القوية، لا يبدو أن الأوروبيين أو الأميركيين يرون أن الصراع في سوريا جدي وخطير إلى درجة تدفعهم لنشر قوات على الأرض. والمثير في هذه الحالة أن يخسر بوتين رئاسة روسيا، العام المقبل، ويبقى الأسد في سوريا.
تيلرسون في موسكو في زيارة محددة سابقاً، ليس معروفاً كيف ستتطور العلاقة الروسية – الأميركية بعد هذه الزيارة. والمهم، كما ذكرت، أن بوتين لم يُدِن العملية ولم يدافع عن الأسد، وهذا يعني أنه يتطلع إلى علاقة جديدة مع واشنطن؛ فبعد هذه الغارة الأميركية، خفتت الأصوات الأميركية التي كانت تتهم ترمب بأنه في جيب الكرملين. أثبت ترمب أنه سيد نفسه، فهل يثبت بوتين أنه كذلك وأنه لن يسمح للأسد بالمراوغة عليه؟!
نقلاً عن “الشرق الأوسط”