عند تناولنا لأي منجز أبداعي مترجم، فنحن نقع في موقف ملتبس بين النص الأصلي بلغته الأم والنص الأخر، الذي يحمل شاء ام أبى شخصية المترجم وأسلوبه. ولتجنب الخوض في تلك العلاقة والموقف الملتبس الذي تنتجه، سنقرأ ديوان الشاعر (طيب جبار) ، (قصائد تلتفت الى الأمام) بأعتبارها مدونة نصية خاضعة لأشتراطات زمكانية تلقينا لها، والتي أستقبلناها باللغة العربية، وسنحاول أن نغفل المرجعية التي ربما ستقع تحتها قرائتنا، إن نحن تلقيناها كنص مترجم، خاضعين للمتعالية النصية أو الموجه القرائي (ترجمها عن الكردية: عبدالله طاهر البرزنجي).
يحاول الشاعر في كتابته لنصه الشعري أن يحرك دلالات ذلك النص بالتلاعب بأحالاتها ومرجعياتها، للانزياح عن المقياس الدارج والمقنن للغة الخطاب الذي تمتاز به بعض انواع الكتابة اللاشعرية، بيد انه وضمن هذه العملية، يُولد النص متنين متغايرين ربما يحتويهما في تكوينه، وهما البنية السطحية الخارجية وعلاقاتها الكتابية المقننه، بأشتراطات اللغة والدلالة، وبنية اخرى مضمرة هي البنية الافتراضية الداخلية.
بنية الداخل نعني بها تلك البنية التي تحدد ماهية الشعر، باعتباره توالد خلاق، أفتراضي، متغير، أو هي أطياف تنتجها العلاقات التركيبية المعقدة لمجموعة الخطابات التي تنصهر في بوتقة النص، وهي عكس الصورة التي تظهر بها البنية السطحية وعلاقاتها التركيبية المكتفية بكونها واجهة أشهارية للنص، لها صلة قوية برؤية الناص/ الشاعر المنتج وتمظهرات شخصيته الثقافية والاجتماعية والايدلوجية، وهذه البنية الخارجية لها حضور في الزمن الذي يعطيها الوجود والهوية المفاهيمية، والتي تأسست وفقاً لمبدأ التطور، الذي مر به النوع/ الجنس الادبي، وربما تكون هذه البنية ذات اتصال أكبر بالعالم الواقعي وزمنيته الانطلوجية وانساقه البنائية.
بيد ان البنية الداخلية المعتمدة على متن افتراضي يربط بين المقاربات الدلالية للنص التي رسمتها البنية الخارجية، والجوهر الشعري الكامن في العالم واللغة من خلال توليد افق احتمالي يلم جوانب النص في مسارب سيميائية ودلالية متعددة كاسراً بها الصورة الجامدة، التي تظهر بها البنية الخارجية.
لو نظرنا في ديوان الشاعر طيب جبار (قصائد تلتفت الى الامام)، ومنذ العنوان نرى مقاصدنا وما اشرنا اليه بخصوص تلك البنى حيث يُولد العنوان مفارقة مجازية مبنية على العلاقة بين (قصائد – تلتفت)، وايضا ( تلتفت – الامام)، وهي علاقة دلالية حاول ان يخرجها الناص من أسر اللعبة المجازية القائمة بين طرفين ليدخل طرفاً ثالثاً، وهي المفارقة القائمة على ( الالتفات الى الامام)، وهذه العلاقة بين هذه المكونات الثلاثة، ولدت افقاً احتمالياً، هدد سطوة البنية السطحية وعلاقاتها الخطابية والتركيبية .
ولو نظرنا ايضا في أول نصوص المجموعة وهو نص ( ثلاث رباعيات خماسية) والذي يعكس منذ العنوان تلك اللعبة المجازية، فأول مقطع وهو (الرباعية الاولى: المواد الاربعة)، قسمها الى خمسة مقاطع قائمة على المواد الاربعة وهي (الهواء ممثلا بالريح، والماء، والنار، والتراب) وأضاف اليها القصيدة، كأضافة خامسة للمواد الاربعة، مرتبطة كلها بلازمة تتكرر على المقاطع وهي (كن حذراً)، وهذه اللازمة كانت ضرورية لبنية الخطاب الذي اعتمده النص، حتى تكون مشتركة بين المقاطع الخمسة ولولاها ربما لم يدخل المقطع الخامس، وهو الذي يخص القصيدة ضمن تركيبته، اما العلاقات الدلالية التي بنيت عليها فهي علاقات ثنائية مرتبطة بصورة مباشرة (الريح، الدرب)، (الماء، عفنه)، (النار، تتفحم)، (التراب، الأرض)، (القصيدة، لغوية)، وهذا كله يمثل البنية الخارجية المتحكمة بالنص، وافقه الخطابي والتركيبي، اما البنية الداخلية فتولد دلالاتها من خلال العلاقة مابين تلك المواد الاربعة التي تمثل الكون والمادة الخامسة المضافة، حيث ينشطر النص الى اربعة مقاطع تمثل بنية دلالية واحدة تقابل المقطع الخامس، الذي يمثل مقطعاً مضافاً، محركاً للأفق الاحتمالي الذي ربما يضمره السؤال عن أهمية كون الشعر والقصيدة ضمن المواد التي تبني الوجود والكون برمته، وأيضا تتولد العلاقات الدلالية للبنية الداخلية للنص من خلال العلاقات التي تمدها مابين تلك الثنائيات حيث (الريح تنحني)، (الماء ينام)، (النار تتفحم)، (التراب يشم)، (القصيدة تعطس)، إذ نرى بأنها مقترنة بأفعال مضارعة تحمل تضميناً للمستقبل من خلال اللازمة ( لاتدع)، ومن خلال تلك المواد وأفعالها، تظهر لنا دلالة جديدة، تفرزها العلاقات البنائية التي تولدها البنية الداخلية، وخطابها الدلالي، إذ إن هذه الافعال لا ترتبط بصورة مباشرة بالمواد المقترنة بها، حيث من غير الممكن أن تنحني الريح مثلا، أو ينام الماء … الى أخره، ولكن بالعودة التى تلك العلاقات واكتشاف البنية التناصية القائمة عليها، سيتولد الافق الاحتمالي الذي يقوم عليه النص، حيث إن العلاقة مابين الريح والانحناء قائمة على المتداول الشعبي والمضمن بالامثال الشعبية، ولا استطيع أن اورد مثالا من اللغة الكردية التي تمثل مرجعية الشاعر، ولكن هذه العلاقة متداولة في الكثير من اللغات والثقافات عن الانسان الذي لا ينحني للريح، وايضا الماء والنوم، أي الغرق.. الى اخره من تلك العلاقات مما يكشف لنا بأن تلك المواد الاربعة هي المواد المشكلة للانسان ووجوده والذي تدخل القصيدة او الشعر ضمن تلك المواد المشكلة لوجود الانسان وحياته والكون الذي يعيش فيه.
أما في المقطع الثاني وهو ( الرباعية الثانية: الفصول الاربعة)، فأيضا هناك لازمة تتكرر على المقاطع الخمس وينطبق عليها ما قلناه سابقا عن لازمة المقطع السابق وهي (لوكنت اعرف) وايضا هناك العلاقات الثنائية المباشرة ( الربيع ، الاخضرار)، (الصيف، الحرارة)، (الخريف، التساقط)، (الشتاء، الثلج)، ما عدا الشعر فهو يقترن بثنائية غير مباشرة، ولكن ضمن دلالة ستولدها قرائتنا للمقطع، (الشعر، الغذاء) يختلف هذا المقطع عن السابق، الذي كانت القصيدة هي المادة الخامسة المضافة على المواد الاربعة، ولكنها داخل النص كانت جزءا من التركيبة البنائية للمقطع، واكتشفنا دلالتها وقيمتها العلامية من خلال تحليل البنية الداخلية، التي قام عليها النص، ولكن هنا في هذا المقطع يسد الناص/ الشاعر الطريق أمامنا ويربطها بالبنية السطحية من خلال تمييزها بتعبير (في هذا الفصل) والذي لا يظهر ماهيته، وإن كان الناص/ الشاعر يريد ان يربطه بالشعر، ونلاحظ بتحليلنا للعلاقات الممتدة مابين ثنائيات هذا المقطع، نراها قائمة على الفعل ايضاً، ولكنه فعل مرتبط بـ(أنا النص) أو المتكلم (لأمرت= أنا)، (لأحلت= أنا)، (لاغلقت= أنا )، ( لوزعت= أنا)، وايضا ان هذه الثنائيات قد وقعت قبل الفعل:
لو كنت أعرف!
في هذا الربيع،
إن ملحمة الأخضرار لا تكتب.
لأمرت بحل..
المجلس الاعلى للامطار.
مما يدلنا على ان الفعل والذي يخص (انا المتكلم) جاء نتيجة ومعتمداً على تلك العلاقة الثنائية، وانها قد ولدت الفعل وهو ليس فعلا منعكساً عن الانسان كما في المقطع السابق، وانما هو فعل الانسان المباشر، اذا هذا المقطع يظهر الفعل الانساني وفصوله، ولكن المقطع الاخير، أو الفصل الاخير المقترن بالشعر، يظهر العلاقة الثانية، الغير مباشرة مابين (الشعر- الغذاء) وإن استهلكت هذه الثنائية من خلال الكثير من الكتابات، ولكنها تنفصل عن السياق البنائي المباشر الذي اعتمدته الثنائيات في المقاطع السابقة، ربما تماهياً مع ما اوردناه سابقاً عن محاولة الناص/ الشاعر من تقييد قرائتنا بتصريحه ( في هذا الفصل) ولكن بصورة عامة يشترك هذا المقطع مع المقاطع الاخرى في توليد الافتراض القرائي بأن هذا المقطع وهو ( الرباعية الثانية: الفصول الاربعة) قائم على الفعل الانساني وفصوله التي يكون الشعر هو فصله الخامس:
لو كنت أعرف!
في هذا الفصل،
إن الشعر لا يجهز
مع حصة المواد الغذائية،
لوزعت سلاح البلاغة
المحشوة بالكلمات النارية
على الشعراء
وهاجمنا وزارة التجارة.
أما مقطع ( الرباعية الثالثة: الجهات الاربعة) تنتظم هذا المقطع ايضا لازمة تتكرر على مقاطعه وهي (أنا شاهد) ولكنه يختلف عن باقي المقاطع بأن ليس هناك من ثنائيات تنتظم هذا المقطع وانما علاقة قائمة بين الجهات الاربع واربعة من الحواس ( بعيني رأيتهم ، في شرق المدينة)، (بفمي تذوقته، في غرب المدينة)، ( بانفي شممته، في شمال المدينة)، (بأذني سمعتهم في جنوب المدينة)، أما المقطع الخامس (كنت بنفسي هناك، في متنزه اشعار المدينة) حيث نرى بأن (أنا النص) قد كان حاضراً بكله وليس ممثلا بأحد حواسه.
وتظهر ايضا العلاقات الداخلية بين دوال المقطع، علاقة مابين ضمير المتكلم أو (أنا النص) في ( بعيني رأيتهم)، و(بفمي تذوقته)، و( بأنفي شممته)، و(باذني سمعتهم)، والافعال المرتبطة بضمير الجمع الغائب (هم)، (كانوا يبيعون)، (كانوا يطبخون)، ( كانوا يوزعون)، (كانوا يرددون)، وهذه العلاقة تظهر بأن الحواس الاربعة التي تمثل (أنا النص) والمرتبطة بالجهات الاربعة للمدينة مرتبطة بضمير الجمع الغائب (هم) الذي يهيمن عليه الفعل الماضي الناقص (كان).
أما المقطع الخامس فهو يبنى على نفس الفعل الماضي الناقص (كان)، ولكن يرتبط بـ(أنا النص) المتكلم، مما يوحي بان هذه الرباعية الخماسية قائمة على التاكيد على الفعل الماضي، وإن هذه الحواس والجهات الاربعة ماهي الا تمظهرات لهذا الفعل والذي يرتبط بـ (أنا النص) والقصيدة في المقطع الاخير، لذلك يظهر هذا المقطع وكأنه تجسيد لفعل الذاكرة/ التاريخ.
والعلاقة مابين هذه المقاطع التي بنيت من خلال البنية الداخلية والخارجية للنص ربما تعطينا رؤية أخرى وجديدة وهي أن هذه الثلاث مقاطع/ نصوص المقترنة بالمواد الاربعة (زائداً) القصيدة، والفصول الاربعة (زائداً) القصيدة، والجهات الاربعة (زائداً) القصيدة، أذا تحتاج الى رباعية اخرى لهذه الثلاثية وهي ربما تكون (الرباعية الرابعة: النصوص الاربعة)، وهي المقاطع الثلاثة (زائداً) النص برمته.